الدرس السابع: أدلة إثبات ولاية الفقيه (2)
في الدرس السابق ذكرنا بعض الروايات التي تبين وظائف ومسؤوليات الفقيه ومدى دلالتها
في إثبات مقام الولاية للفقهاء. وهنا بقية الروايات:
1ـ رواية عمر بن حنظلة:
(سألت أبا عبد الله (ع) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما
إلى السلطان والى القضاة، أيحل ذلك؟ قال: من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم
إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنه يأخذه سحتاً وإن كان حقاً ثابتاً له، لأنه أخذه بحكم
الطاغوت وقد أمر الله أن يكفر به. قال الله تعالى: {يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت
وقد أمروا أن يكفروا به} فقلت: فكيف يصنعان؟ قال ينظران إلى من كان منكم ممن قد روى
حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإني جعلته عليكم
حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنما استخف بحكم الله وعلينا ردّ والراد
علينا كالراد على الله وهو على حد الشرك بالله).
في بداية هذه الرواية يبين الإمام الصادق (ع) حكماً كلياً وعاماً، وهو أن كل من
يرجع إلى قضاة وسلاطين الجور في دعوى له، حقاً كانت أم باطلاً، فقد رجع إلى الطاغوت
وهذا حرام بحد ذاته. فهذا حكم فقهي وسياسي للإسلام يؤدي إلى تجنب المسلمين الرجوع
إلى القضاة والأجهزة التابعة للدولة الجائرة، وتكون النتيجة أن تصبح هذه الأجهزة
القضائية والحكومية فاقدة للإعتبار ومنزوية مما يشكل خطوة نحو تحقق إقامة القضاء
والحكومة الإسلامية، وهذا ما يسمى اليوم بوجود دولة ضمن الدولة.
ويمثل هذا الحكم نوعاً من المواجهة السلبية ضد حكام الجور، ودعوة إلى الحكومة
والقضاء الشرعي الإلهي. وحيث قد بين هذا الحكم بشكل عام وكلي، فإنه يشمل زمن غيبة
الإمام المعصوم(ع).
في القسم الثاني للرواية يُسأل الإمام الصادق: ما هي وظيفة الأمة الإسلامية؟ وماذا
يجب أن تفعل في هذا المجال؟ وفي جوابه عن هذا السؤال يبين الخصائص التي ينبغي أن
تنطبق على المجتهد الجامع للشرائط. فمثل هذا الفقيه هو الذي ينصبه الإمام للقضاء
والحكومة.
وهذه الرواية تثبت، بالإضافة إلى منصب القضاء، منصب (ولاية وقيادة الفقيه)، لأن
الإمام قد قال:
(فإني قد جعلته عليكم حاكماً).
أي أن ولاية الفقيه الجامع للشرائط تعتبر ولاية مجعولة من قبل الإمام المعصوم(ع).
وذلك لورود صيغة فعل(جعلته). وبمعزل عن هذا، لو كان مراد الإمام الصادق(ع) منصب
القضاء فقط لكان قال(بينكم) بدلاً من (عليكم).
فإذا قال: (فإني قد جعلته عليكم حاكماً، فهو مرجعكم في الأمور الحكومية والأمور
القضائية. فإذا كان حاكماً فسوف يكون قاضياً أيضاً. هذا. وإن كان موضوع السؤال في
الرواية هو النزاع في الدين أو الميراث وقضية القضاء والفصل في الخصومة، ولكن
الإمام المعصوم بنفي حكام الجور، قد نصب الفقهاء للولاية والقيادة والحكومة وليس
للقضاء فقط.
2ـ أحاديث وظيفة الشيعة في زمن الغيبة:
هناك بعض الروايات الواردة عن الأئمة المعصومين(ع) وفيها تتحدد وظيفة الشيعة في عصر
غيبة الإمام المعصوم(ع). ومنها ما جاء في التوقيع عن إمام الزمان(عج) في جواب إسحاق
بن يعقوب الذي سأله عن بعض المسائل:
(وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة
الله عليهم)[1].
ففي هذه الرواية حدد تكليف الأفراد في مجال (الحوادث الواقعة) والمراد منها كل
واقعة فردية إجتماعية، سياسية وحكومية، وفيها يأمر إمام الزمان بالرجوع إلى (رواة
حديثنا) في الحوادث والمشكلات، وهؤلاء هم الفقهاء. يقول المرحوم الشيخ الأنصاري:
إنّ المراد من الحوادث هو في الظاهر مطلق القضايا التي لابد للناس فيها بحكم العرف
أو العقل أو الشرع، من مراجعة الرئيس أو الحاكم. أما أن يكون المقصود منها مجرد
المسائل الشرعية في الحلال والحرام فهو بعيد من جهات عدة:
أ ـ أن الإمام يرجع الناس في أصل الحوادث إلى الفقهاء وليس في حكم الحوادث. فلم يقل
الإمام للناس: إرجعوا إلى الفقهاء في أحكام الحوادث، حتى نقول عندها إن الفقهاء
يمثلون حجة ونيابة للإمام في بيان الحلال والحرام وإصدار الفتاوى. وإنما قال:
إرجعوا في نفس الحوادث إلى الفقهاء.
ب ـ يستفاد من تعبير(فإنهم حجتي عليكم) إنّ الفقهاء معينون من قبل الإمام في مجال
الأمور التي تعد من شؤون إمامة وقيادة المجتمع. ولو كان هذا التعيين مقتصراً على
بيان الأحكام الإلهية، لكان من المناسب أن يقول: (فإنهم حجج الله)، لأن الإمام كما
أنه مبين الأحكام الإلهية فهو حجة الله، فالفقهاء من هذه الناحية هم حجج الله لا
حجة إمام الزمان (عج). فالفقهاء إذاً، حجة إمام الزمان(عج) لأنهم يتولون الأمور
والأعمال التي يتولاها الإمام لو كان حاضراً، ومنها قيادة المجتمع الإسلامي.
ج ـ لقد كان الرجوع إلى الفقهاء في مسائل الحلال والحرام وتبيين الأحكام من القضايا
الشائعة والعادية للمسلمين ومن بديهيات الإسلام.
ومثل هذه القضية الواضحة لا ينبغي أن تخفى على شخص مثل إسحاق بن يعقوب، بحيث يجعلها
ضمن المسائل المشكلة، خلافاً للمسائل الإجتماعية والسياسية المتعلقة بالمصالح
العامة للمسلمين التي أمر فيها الإمام بالرجوع إلى العلماء والفقهاء[2].
3ـ خطبة الإمام الحسين (ع) في منى:
من الروايات الأخرى التي يمكن الإستناد إليها في مجال: (إثبات ولاية الفقيه) ما ورد
عن الإمام الحسين(ع) في خطبته المشهورة في منى. ففيها يخاطب العلماء، ويلومهم
بالتوبيخ على ترك الأمور للظالمين وحكام الجور، فيقول(ع):
(وأنتم أعظم الناس مصيبة لما غلبتم عليه من منازل العلماء لو كنتم تسعون. ذلك بأن
مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه، فأنتم
المسلوبون تلك المنزلة. وما سُلبتم ذلك إلا بتفرقكم عن الحق واختلافكم في السنة بعد
البينة الواضحة ـ ولو صبرتم على الأذى وتحملتم المؤنة في ذات الله كانت أمور الله
عليكم ترد، وعنكم تصدر، وإليكم ترجع. ولكنكم مكنتم الظلمة من منزلتكم واستسلمتم
أمور الله في أيديهم يعملون بالشبهات ويسيرون في الشهوات)[3].
بالإلتفات إلى صدر الكلام وذيله يتضح أن الخطاب التوبيخي متوجه إلى العلماء. أما
العالم بالله الذي هو عالم بأحكام وقوانين الله فهو الذي يتحمل مسؤولية الإمساك
بزمام أمور المجتمع وقيادة الأمة، وينبغي الوقوف مقابل وقوع ذلك بأيدي الظالمين.
من مجموع الروايات التي ذكرت، نستنتج أن الفقهاء الجامعين للشرائط معينون في عصر
الغيبة في مقام الخلافة عنه عجل الله فرجه لقيادة الأمة الإسلامية، وعلى الناس أن
يرجعوا إليهم ويطيعوهم.
[1] وسائل الشيعة، ج18، ص 101.
[2] المكاسب، الشيخ الأنصاري، ص 154.
[3] تحف العقول، ص 172.
الدرس الثامن: أهداف الحكومة الإسلامية
حيث إنّ الحاكم على الناس في الحكومة الإسلامية يكون بمنزل خليفة النبي(ص) والأئمة
الأطهار(ع)، فإن الأهداف التي ينبغي أن تجعل لهذه الحكومة هي نفس الأهداف والبرامج
التي كانت أساساً في رسالة النبي (ص) وحكومته. فكما كان النبي(ص) مأموراً بتطبيق
أحكام الله وتعاليمه في المجتمع وترك إتباع أهواء وميول الآخرين، فإن على الحاكم
الإسلامي أيضاً أن ينفذ أحاكم الله وتعاليم الإسلام. يقول الله سبحانه وتعالى
مخاطباً نبيه الأكرم(ص):
{وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ
مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ
وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ....
وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ
وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ}.[1]
ولأجل معرفة أهداف الحكومة الإسلامية، ينبغي أن نقوم بدراسة أهداف بعث وإرسال
الأنبياء الإلهيين.
تعليم الناس وتربيتهم:
المقصود من التعليم هنا تبيين الأحكام الإلهية وإبلاغها ونشر المعارف الدينية في
المجتمع، وتعريف الناس على تكليفهم ومسؤولياتهم الشرعية في حلال الله وحرامه.
والتربية تعني إنما الإنسان من الناحية الفكرية والأخلاقية وإظهار الإستعدادات
الكامنة وتفعيلها، ونشر الفضائل الأخلاقية والكمالات الإنسانية والقيم المعنوية،
لكي يصل الإنسان إلى التخلق بالأخلاق الحسنة والآداب الإلهية ويصبح خليفة الله على
الأرض (وهو هدف خلقة الإنسان). فهذان الأمران الأساسيان: التعليم والتربية للمجتمع
الإنساني، كانا من الأهداف السامية لبعثة النبي(ص)، وبتبعها من أهداف الحكومة
الإسلامية أيضاً. يقول القرآن الكريم:
{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ
آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا
مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}[2].
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا
*وَدَاعِيًا إلى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا}[3].
إحياء العدالة:
من الأهداف الأخرى لبعث الأنبياء إحياء العدالة بين الناس. مما يعني دوام المواجهة
والوقوف بوجه الحكام الظالمين في كل زمان، لأجل رفع كل ظلم عن المجتمع وإحياء
العدالة وإحقاق حق المظلومين والمستضعفين. ومن الواضح أن الحكومة الإسلامية التي
تتولى تحقيق أهداف الأنبياء وإجرائها هي السبيل إلى ذلك.
يقول القرآن الكريم:
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ
وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}[4].
وعندما بدأ أمير المؤمنين(ع) حكمه، اعتبر أن سبب قبول هذه المسؤولية الكبرى هو
استرجاع حقوق المظلومين من الظالمين، وهذا الأمر قد جعله الله إحدى مسؤوليات
العلماء:
(أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر، وما
أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على
غاربها)[5].
وكذلك ما نقله ابن عباس عندما دخل على أمير المؤمنين عليه السلام وكان يخصف نعله،
فسأله أمير المؤمنين(ع): ما قيمة هذا النعل! (فوالله لهي أحب إلي من إمرتكم، إلا أن
أقيم حقاً أو أدفع باطلاً).[6]
فإقامة الحكومة ليست الأساس في الإسلام، بل إحياء العدل ورعاية المحرومين والدفاع
عن المظلومين.
الإستقلال والحرية:
إنّ وضع الأغلال وسلاسل الأسر عن أعناق المظلومين الواقعين تحت الحكام الظالمين،
وتحرير الشعوب وإلغاء الأعراف والقوانين الجاهلية والقضاء على كل أشكال الذل
والتسافل لأجل الوصول إلى أوج العزة والشرف وتأمين الإستقلال والحرية في ظل الحكم
الإلهي، كل هذه من الأهداف العظمى لنبي الإسلام والحكومة الإسلامية. ويذكر القرآن
الكريم في مجال وصف النبي الأكرم وأهدافه وبرامجه قوله تعالى:
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ
مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ
عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي
كَانَتْ عَلَيْهِمْ}.[7]
ويقول الإمام علي(ع) بشأن نهجه وبرنامجه في مرحلة حكومته:
(ولقد أحسنت جواركم وأحطت بجهدي من ورائكم واعتقتكم من ربق الذل وحلق الضيم).
ومما ذكر حتى الآن، تتضح الأهداف السامية للحكومة الإسلامية في الأبعاد الأساسية
الثقافية والإقتصادية والسياسية. ففي البعد الثقافي نشر الفكر الإسلامي وتبليغ
المعارف الإلهية وتربية أفراد المجتمع الإسلامي على إقامة القسط وتحقيق العدالة
الإجتماعية ومحاربة الظلم والفقر والحرمان وإحقاق حق المظلومين والمستضعفين، وفي
البعد السياسي حفظ الإستقلال والحرية للمجتمع الإسلامي والقضاء على تسلط الأجانب
والمستكبرين الذين يريدون إذلال الأمة الإسلامية.
[1] المائدة: 47 ـ 49.
[2] الجمعة:2.
[3] الأحزاب: 45 ـ 46.
[4] الحديد: 25.
[5] نهج البلاغة, خ الشقشقية.
[6] نهج البلاغة, خ 33 (عند خروجه(ع) لقتال أهل البصرة)
[7] الأعراف: 157.
الدرس التاسع: شروط وخصائص الحاكم الإسلامي(1)
تبين لنا في الدروس السابقة ضرورة إقامة الحكومة الإسلامية في عصر الغيبة لأجل
تطبيق أحكام الإسلام وتحقيق أهداف الأنبياء الإلهيين، وكذلك الأدلة التي تثبت
تعيين(الفقهاء الجامعين للشرائط). من جانب إمام الزمان(عج) في مقام الولاية
والخلافة في عصر الغيبة. والآن نقوم ببيان الشروط والخصائص التي ينبغي أن يتمتع بها
الحاكم الإسلامي وولي أمر المسلمين، فمن الواضح في الإسلام أن الإمساك بزمام أمور
المسلمين لا يمكن أن يقوم به أي شخص، بل من اللازم أن يكون أكثرهم لياقة وذا صفات
وشروط واضحة لكي يتولى هذا الأمر الخطير والحساس. ولاشك أن هناك صفات عامة يعتقد
بها الجميع سواء المتدينين أو غيرهم في الحكومات الدينية أو غيرها وهي: العقل ،
العلم، القدرة، والأمانة، فمثل هذه الأمور تعتبر عند الناس شرطاً لازماً حتى ولو
كان الأمر متعلقاً ببناء بيت أو ما شاكل، فكيف إذا تعلق الأمر بقيادة الأمة وحكمها!
ومن هنا، فإن للحاكم الإسلامي الذي سيتولى تطبيق وتبيين الأحكام الإسلامية شروطاً
خاصة، وسنتعرف هنا على هذه الشروط العامة والخاصة.
الإسلام:
قبل أي شيء، ينبغي أن يكون الحاكم الإسلامي مسلماً مؤمناً. فبالإضافة إلى العقيدة
القلبية والإقرار اللساني بالأصول والفروع الدينية ينبغي أن يتحلى بصفة الإلتزام
بالتعاليم الإسلامية.
وضرورة هذا الأمر بالنسبة للحاكم الإسلامي من الأمور الواضحة جداً فهو الحاكم
والولي على الناس من جهة، ومن جهة أخرى يجب على الجميع أن يطيعوه في أوامره لأجل
حفظ النظام الإجتماعي ورفض كل أشكال سلطة الكفار. ففي الرؤية الإسلامية لا يمكن
قبول حاكمية الكافر على المسلمين. ويجب على المسلمين أن يواجهوا هذا الأمر فيما لو
وقع. يقول الله تعالى:
{وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً}.[1]
{وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ}.[2]
ولا يخفى أنه بالإلتفات إلى نظرة الشيعة فيما يتعلق (بولاية الفقيه) في عصر الغيبة،
يتضح هذا المعنى بشكل أدق وأعمق. فالفقيه ينبغي أن يكون ملتزماً بالإسلام المحمدي
الأصيل، أي أن يكون شيعياً (إثنا عشرياً). وكما قرأنا في رواية عمر بن حنظلة عن
الإمام المعصوم(ع): (ينظران إلى من كان منكم).
حيث أن ضمير(كم) يشير إلى الشيعة الإمامية.
العقل:
إنّ شرط العقل للحاكم من البديهيات التي لا تحتاج إلى دليل. لأن العقلاء وبحسب
فطرتهم لا يسندون الأعمال العادية إلى من يفتقد للحد الأدنى من العقل، فكيف إذا وصل
الأمر إلى الولاية والحكومة التي تتعلق بأرواح الناس وأعراضهم وممتلكاتهم.
يقول علي(ع):
(يحتاج الإمام إلى قلب عقول ولسان قؤول وجنان على إقامة الحق صؤول)[3].
من جانب آخر، إن قيادة وإدارة المجتمع التي تقوم على أساس تشخيص المصالح والمفاسد
داخل الأمة تحتاج إلى المزيد من ميزة العقل. ومع وجود الأعقل، فإن الذين هم في
المستوى العقلي الأدنى هم بشكل نسبي سفهاء لا يقدرون على تشخيص ما يصلحهم وما
يفسدهم، فكيف يمكنهم أن يتولوا زمام أمر أمة بأكملها.
يقول الإمام علي(ع):
(ولكنني آسى أن يلي أمر هذه الأمة سفهاؤها وفجّارها..)[4].
ويقول الإمام الصادق (ع):
(لا يكون السفيه إمام التقي)[5]
فيمكن القول عندئذ إن ما هو شرط للحاكم الإسلامي هو التمتع بالعقل الكامل وامتلاك
الرشد العقلي وليس مجرد العقل العادي.
حسن التدبير والإدارة:
من الشروط الأخرى للقيادة، القدرة على التدبير وإدارة أمور المجتمع. مما يعني أن
الحاكم الإسلامي ينبغي أن يتمتع بالقدرة الجسمية والفكرية والمعنوية التي تؤهله
لإدارة المجتمع الإسلامي بشكل صحيح في جميع الأبعاد. وبمعرفة أصول السياسية
والإدارة والعلم بمقتضيات الزمان وتدبر العواقب والاستشراف الصحيح للمستقبل وتشخيص
الصديق من العدو ومعرفة المؤامرات والدسائس التي يحيكها الأعداء يمكنه أن يهدي
مسيرة الأمة الإسلامية نحو الصلاح والعزة والإستقلال.
وعندما يذكر أمير المؤمنين عليه السلام أحقيته بالخلافة وتجنبه لمبايعة أبي بكر
وأولويته في قيادة المسلمين يقول:
(أنا أولى برسول الله(ص).. وأعلمكم بعواقب الأمور وأذربكم لساناً وأثبتكم
جناناً)[6].
وينقل الإمام الباقر(ع) عن رسول الله(ص):
(لا تصلح الإمامة إلا لرجل فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن معاصي الله وحلم يملك به
غضبته وحسن الولاية على من يلي حتى يكون لهم كالوالد الرحيم)[7].
ويخاطب الإمام الصادق(ع) المفضل قائلاً:
(والعالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس)[8].
بناء على هذا، على العالم لكي يحرز هذا الشرط أن يكون عالماً ومطلعاً على المسائل
السياسية والإجتماعية في زمانه حتى يتمكن من المعرفة الكاملة بالعدو والصديق. ويضع
الخطط ويتخذ المواقف المناسبة. ومن خلال تدبر العواقب والحزم ينجي المجتمع الإسلامي
من فخ المكائد وخطر الحوادث.
[1] النساء: 141.
[2] الأحزاب: 48.
[3] شرح الغرر والدر، ج6، ص 472، جامعة طهران.
[4] نهج البلاغة، ص 105.
[5] أصول الكافي، ج1، ص 175.
[6] الإحتجاج، الطبرسي.
[7] أصول الكافي، ج1.
[8] أصول الكافي، ج1.
الدرس العاشر: شروط وخصائص الحاكم الإسلامي(2)
في الدرس السابق ذكرنا بعض شروط الحاكم الإسلامي، والآن نكمل الحديث عنها:
العلم (الفقه في الدين)
من الشروط الأساسية للحاكم الإسلامي الرؤية الواسعة والعلم الكافي بالإسلام. بحيث
يكون القائد واصلاً إلى مرتبة الإجتهاد في مجال الأحكام والقوانين الإلهية، ومعرفته
بالإسلام تقوم على أساس الإستنباط من الأحكام الإلهية دون تقليد لغيره.
وفي هذا المجال، فإن العقل السليم بالإضافة إلى الآيات والروايات يحكم بتقدم
وأفضلية العالم على الجاهل، وخصوصاً في نظام ديني وعقائدي يريد للأمة أن تعمل وفق
العقيدة والدين. فمن ناحية العقل، فإن الذي يريد أن يتولى زمام أمور تلك الحكومة،
ينبغي أن يتمتع بالرؤية الواسعة والعلم الكافي بالأحكام والقوانين التابعة لهذا
الدين. ونحن هنا نشير إلى بعض الروايات والآيات التي تبين ضرورة هذا الشرط, يقول
الله تعالى:
{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا
يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}[1].
ويقول الإمام علي(ع):
(أيها الناس إن أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله فيه)[2].
ويقول رسول الله(ص):
(ما ولَّت أمة قط أمرها رجلاً وفيهم أعلم منه إلا ولم يزل أمرهم يذهب سفالاً حتى
يرجعوا إلى ما تركوا)[3].
وفي حديث لأمير المؤمنين(ع) يذكر صفات الإمام بالتفصيل، فيقول: (وأما اللواتي في
صفات ذاته فإنه يجب أن يكون أزهد الناس وأعلم الناس وأشجع الناس وأكرم الناس، وما
يتبع ذلك لعلل تقتضيه.. وأما إذا لم يكن عالماً بجميع ما فرضه الله تعالى في كتابه
وغيره قلب الفرائض فأحل ما حرم الله فضلّ وأضلّ)[4].
ويستفاد من هذه الرواية أن العلم والفقه في الدين، بل الأعلمية في أحكام الله من
الشروط الضرورية للإمامة، وبتعميم الملاك هنا، يعتبر شاملاً للقيادة والنيابة عن
الإمام في عصر الغيبة أيضاً.
العدالة:
في الأبحاث المتعلقة بالنبوة والإمامة يثبت مقام العصمة للنبي والإمام. وحيث أن
الوصول إلى الإمام المعصوم غير متيسر في عصر الغيبة، ينبغي أن تجعل الحكومة
الإسلامية بيد من له المقام الأدنى من عصمة المعصومين(ع) الكبرى والمقام الأعلى في
صيانة النفس ومخالفة الهوى وإطاعة المولى عزوجل وهذا ما يسمى بالعدالة.
فالعدالة ملكة نفسانية تعني ملازمة التقوى وصون النفس من فعل الكبائر والإصرار على
الصغائر، وتمنع من ارتكاب ما يدل على عدم المبالاة من الناحية العرفية[5].
إنّ اشتراط العدالة للقائد والحاكم الإسلامي من المسائل البديهية عند فقهاء الشيعة
وأكثر علماء أهل السنة. وهذا ما يؤكد عليه العقل السليم بالإضافة إلى الآيات
والروايات. فإيداع أمور المسلمين عند من لا يحجز نفسه عن فعل الحرام ولا يتورع عن
أي قبيح مما لا يقبله العقل.
ويقول الله تعالى في كتابه المجيد:
1ـ {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي
جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي
الظَّالِمِينَ}.[6]
وهذه الآية تدل على أن الإمامة والقيادة عهد إلهي لا ينال الظالمين.
2ـ {وَلاَ تَرْكَنُواْ إلى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}[7].
وينقل علي بن إبراهيم في تفسير هذه الآية عن الإمام(ع) : (الركون إلى الظالمين
محبتهم وقبول قيادتهم ونصحهم).
ويقول الإمام الباقر(ع) إن الله تبارك وتعالى يقول:
(لأعذبن كل رعية في الإسلام دانت بولاية كل إمام جائر ليس من الله وإن كانت الرعية
أعمالها برة تقية)[8].
وفي رسالة له عندما بعث مسلم بن عقيل إلى الكوفة كتب الإمام الحسين (ع) يذكر صفات
حاكم المسلمين:
(فلعمري ما الإمام إلا الحاكم بالكتاب القائم بالقسط الداين بدين الحق الحابس نفسه
على ذات الله)[9].
بناء على هذا، إنّ العدالة في أعلى درجاتها من الشروط الأساسية للحاكم الإسلامي،
وإن أي اتباع للحكام الظلمة حرام. ويستفاد من الروايات إن ولي المسلمين ينبغي أن
يكون منزهاً من بعض الصفات الرذيلة كالبخل والحرص والطمع والمهادنة وكل صفة رذيلة
وقبيحة تنافي العدالة التامة. يقول الإمام علي(ع).
(وقد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام
وإمامة المسلمين البخيل فتكون في أموالهم نهمته ولا الجاهل فيضلهم بجهله ولا الجافي
فيقطعهم بجفائه ولا الخائف للدول فيتخذ قوماً دون قوم ولا المرتشي في الحكم فيذهب
بالحقوق ويقف بها دون المقاطع ولا المعطل للسنة فيهلك الأمة)[10].
___________________________
[1] الزمر:9.
[2] نهج البلاغة، ص 558.
[3] كتاب سليم بن قيس، ص 118.
[4] بحار الأنوار، ج93، ص 44.
[5] مقتبس من العروة الوثقى.
[6] البقرة: 124.
[7] هود: 113.
[8] أصول الكافي، ج1، ص 307.
[9] الإرشاد للشيخ المفيد، ص 186.
[10] نهج البلاغة.