مركز الصدرين للدراسات السياسية || الكتب السياسية

ست نظريات حول انتصار الثورة الإسلامية


دور القيادة الدينية في انتصار الثورة الإسلامية
بقلم: سيد صادق حقيقت


مقدمه:
تحدُثْ الثورات عند منعطفات الأحداث التاريخية وهي نادراً ما تقع. في الزمن، أما الأحداث الاجتماعية فإنها عموماً لا تتكرر. وبهذا فان من المستحيل التنبؤ بالوقت الدقيق للثورة أو زمن وقوعها أو تحليل العناصر المؤثرة فيها. هناك العشرات من العوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية المرئية وغير المرئية التي تنغلق في نقطة معيّنة لكي تسمح للثورة بأن تأخذ طريقها بالانبثاق.
المحلل الاجتماعي، ليس عاجزاً على إحصاء جميع العوامل المؤثرة وحسب، ولكنه أيضاً لا يملك مقياساً يقيس به مقدار تأثير كل عامل من هذه العوامل ومستوى تأثيره في مجريات الأحداث.الثورة الإسلامية في إيران ليست استثناءً بالنسبة لهذه المشاكل التحليلية. هناك عض المستلزمات المحددة الصعبة ذات العلاقة بهذه الثورة مما يجعل تحليلها أكثر صعوبة ـ فوجود حكم ملكي قوي ومجرّب قبال مشاركة جماهيرية غير مسبوقة في الشؤون السياسية، وأخيراً دور الدين والأيديولوجية في هذه الحركة كلها من بين هذه المسائل المعقدة والشائكة. وكالات المخابرات العالمية المعروفة، عموماً، وخاصة الأمريكية، لم تكن قادرة على تخمين وقوع الثورة حتى لأشهر قبل انتصارها. وحتى بعد الانتصار واجه محللو الثورة عدداً من التحديات النظرية.إنّ الاختلاف في دائرة هذه التحليلات يُعتبر دليلاً واضحاً على التباين في قراءة هذا الحدث. واليوم، وحتى بعد مرور عقدين على انتصار الثورة، يجب أن يقال بكل أسف، انه لا يوجد إلا النزر اليسير من الأعمال والكتابات النظرية الموثقة العميقة حول الثورة وأسباب انتصارها.عدد من الكتّاب الأجانب كانوا عمّقوا تحليلاتهم ولكنْ وفقاً لحاجتهم إلى فهم حقيقي للثورة والقوى التي احتوتها. بين المصادر الفارسية أيضاً، نحن لا نعثر على نصوص متينة وشاملة إلاّ نادراً. النظريات المطروحة حول انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وتحديداً نظرية المؤامرة، ونظرية التحديث، والنظرية الاقتصادية، والنظرية الدينية، ونظرية الدكتاتورية، رغم أنها مختلفة جداً، ولكنّ كل واحدة منها واجهت تحديات متباينة في قراءة الـ (لماذا وكيف) الثورة. على أي حال إن وجود جميع هذه المشاكل يُشدّد على ضرورة البحث الجادّ الجديد داخل العناصر المؤثرة في انتصار الثورة الإسلامية.بعد أكثر من عشرين سنة على انتصار هذه الثورة، هناك أسئلة كثيرة يمكن أن تثار بخصوص لماذا يجب أن تظهر هذه
المواضيع إلى السطح مرة أخرى؟ ما هي الضرورة في صناعة نظريات حول الثورة الإسلامية؟ أليس من الأجدر تعميق
الإستراتيجيات الجارية التي تعتمد المصالح الوطنية، ونسيان المواضيع القديمة ومحاولة تناسي الثارات التاريخية مع أعداء الثورة؟
جدير ذكره في هذا السياق، أنّ نسيان السجالات القديمة والتوجّه إلى الأمام وإلى المستقبل بطريق عملي، كما يعتقد نيلسون مانديلا حول أفريقيا الجنوبية، مسألة مختلفة بلحاظ التحليل النظري لحدثٍ مهم كانتصار ثورة.
إننا في الحقيقة بحاجة إلى مثل هذه التحليلات لسببين مهمين اثنين، الأول، إن أي شعب يجب أن يكون واعياً لماضيه وتاريخه. وهذه فضيلة بحدّ ذاتها.السبب الثاني أنّ العديد من مشاكلنا العملية والنظرية المعاصرة لها جذور في التحليلات القديمة، وان أي إهمال أو تشويش على إيران وتاريخ الثورة، سوف يضعنا في حالة ضياع وسنواجه لحظة عصيبة لا نستطيع خلالها تحليل أي موقف سياسي على الإطلاق، وبكلمة أخرى لا نمتلك رؤية سياسية أصلاً. الأسئلة والأمثلة التالية جميعها لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة مع طريقة
تحليل الثورة:
* ما هي حصة كل من الجماعات الإسلامية والوطنية والماركسية بعد الثورة؟
* ما هو مبرر إقصاء الجماعات الماركسية ومثيلاتها وكذلك الجماعات الوطنية؟
* كم كان شعبنا متديناً أيام الثورة، أو كم كانت جماهيرنا تبحث عن الدينلمستقبلها؟
* هل لدى جماهيرنا صورة واضحة عن موضوع تدخّل الدين في السياسة ونظرية ولاية الفقيه (المطلقة)؟
* وبذلك، فان البحث عن كيف ولماذا انتصرت الثورة، وطبيعة دور الدين في ها، ليس فقط يحيطنا علماً بتاريخنا السابق، وإنما لذلك علاقة بمواضيع معاصرة ملحّة تشمل شرعية النظام الحالي أيضاً أو مشروعيته.
طريقة البحث:
إن طرق دراسة العلوم الاجتماعية والإنسانية تختلف كثيراً عن التقنية المستخدمة في تحقيق العلوم الطبيعية. لأن أحداث الصنف الأول عادةً غير متكررة، كما إن العناصر التي تنطوي عليها ليس من السهولة تمييزها الواحدة عن الأخرى. فضلاً عن أن موضوع الثورة نفسه يمتلك إشكالاته المحددة الخاصة به أيضاً. فالثورات أحداث تاريخية نادرة الوقوع، وان احتمال تكرارها أيضاً لا وجود له. الشخص الواحد في حياته، يمكن أن يشهد ثورة واحدة فقط، وهذه هي الأخرى أيضاً، تأتي في سياقاتها المحدّدة، ولذلك فان التعميم في أسباب ظهور الثورات أو انبثاقها يبدو مستحيلاً ومجازفةً ربما غير أمينة.
في موضوع كهذا أنّ طريقة التحليل النصيّة المقارنة (أي البيئية) لها محاسن عديدة. هذه التقنية تُرصف عادةً بالضد من الطرق التاريخية والوصفية والتحليلية والتأويلية (الهرومينطيقية). وكما يقول بسلي، «التحليل المقارن بوجهه الأول هو جمع المعلومات التي تنحلّ فيها علاقة النصّ في المعلومة التي يمكن اختصارها ومقارنتها واحدة مع الأخرى بصياغة آلية تعريفية ونظامية
لقواعد التصنيف. أما ظروف التحليل المقارن فهي:
الهدفية وتعني (تنضيد البحث وفق قواعد وطرق محددة)، والمنظومة وتعني أن (الدائرة المشمولة يجب أن تكون منسقّة، وان تقديم النص أو الموضوع يجب أن يعتمد قواعد عملية).ويبقى التعميم ويعني (دراسة علاقة المعلومات النظرية بعضها مع البعض الآخر).[216]إن طريقة التحليل المقارن نافعة جداً في فهم واستيعاب شعارات الثورة والوثائق ذات الصلة، ورسائل، وخطابات قائد الثورة. ومع ذلك، وبافتراض القيود المفروضة علينا في هذه المقالة القصيرة، فانه من غير الممكن التعامل مع جميع محدداتها، مثل بسط التساؤلات أو إنجاز مسح ميداني، أو تقديم نموذج للبحث.إن نظريتنا في هذا البحث، رغم أنّ له شكله المحدّد الخاص، إلاّ انه من نوع البحث المتعدّد الأسباب. وعلى هذه القاعدة، فإن تلاشي شرعية النظام ينبغي أن تأتي قضيةً منفصلة عن السؤال المتعلّق بانتصار الثورة الإسلامية. إن أي نظام يمكن أن يفقد
مقوّمات شرعيته قبل أن يسقط. ان العناصر المساهمة في إزالة النظام الملكي يمكن أن تكون لها بعض الملامح المشتركة مع العوامل المؤثرة في انتصار الثورة الإسلامية، ومع ذلك فإنهما موضوعان منفصلان لكلّ منهما عوامله وأسبابه الخاصة المحدّدة. ولذلك فإن العناصر المؤثرة في كلّ واحد منهما يجب أن يقدّم ويُدرس على انفراد في إطار هذه النظرية.
إن العامل الأهم المؤثّر في إنكار شرعية الملكية (وبالنتيجة تأسيس أرضية للثورة الإسلامية) هو التحديث. إنّ التحديث من النوع البهلوي كانت له ميزته الفريدة الخاصة، أي الحركة السريعة باتجاه ما سمّي «بوابات الحضارة»دون الالتفات إلى الحاجة للتنمية السياسية وظهور الأزمات الثقافية المصاحبة له. فلو كان مسار التحديث لم يبدأ بهذه السرعة في الستينات، لكانت التحولات الاجتماعية والسياسية في إيران، نحتْ منحىً آخر دون شك.
طبقاً للنظرية المطروحة في هذا البحث، يُعتبر العنصر الأهمّ في انتصار الثورة الإسلامية هو القيادة الدينية. الشخصية القيادية ( التي تفتقر إلى صفة التدين) كان تأثيرها قليلاً جداً في مسار الثورة الإيرانية. الذي يمكن تقديمه كأهم عنصر مؤثر في انتصار الثورة الإسلامية هو «القيادة الدينية».فالإمام الخميني (رض) مع خصائصه السرّانية والسياسية والفقهية والشخصية هو وحده الذي كان قادراً على أن يبحر بسفينة الثورة ويصل بها إلى شواطئ الانتصار. ولو كان أي شخص آخر قد احتلّ موقعه، فأغلب الاحتمال أنّ هذه الثورة ما كانت لتنتهي إلى الانتصار.
ولو قسّمنا العناصر المؤثرة في الثورة إلى ثلاث عوامل، وتحديداً: الأيديولوجية والشعب والقيادة[217]، فان العامل الثالث كان الأكثر تأثيراً في الثورة الإيرانية. ورغم ان القيادة الدينية هي الملهمة والبادرة للأيديولوجية، إلاّ إن عامل القيادة يجب تشخيصه بعيداً عن عامل الأيديولوجية. إنّ الإيديولوجية يمكن أن تلعب دورها من خلال قادة دينيين آخرين، فقهاء أو علماء دين. ويمكن أن يكون القادة الدينيون عديدين ومن نفس المستوى، ولديهم مواصفات وخصائص فاتنة وساحرة بالنسبة للجمهور، بينما هي في إيران أو الثورة الإيرانية كانت وجدت خصائصها جميعها في شخصية الإمام الخميني المتميزة والجذّابة.النظرية المارّة الذكر تعدّدية ـ السبب، في كونها أولاً تميّز بين موضوع فقدان النظام لهيبته ومن ثم قوته وتلك التي هي انتصار للثورة الإسلامية.
وثانياً: أنها تنظر للتحديث كسبب للانقلاب على النظام حيث كان ذلك مختبئاً مع التنمية السريعة وغير المنظمة في الاقتصاد
مصحوباً مع فقدان التنمية السياسية والثقافية. إنّ الاستدلال على صحة هذه النظرية يتطلب العديد من الصفحات والكثير من الوقت.أما الذي تم تقديمه في هذه المقالة فهو مجرد مقدمة لهذه النظرية، وتقديم الدليل العملي لإثبات مصداقيتها.
وإذا أردنا أن نورد مراجعة شاملة للقضية فيجب أن نعود إلى جميع النصوص ذات الصلة مع استخدام أساليب البحث، كالتحليل المقارن والدراسات الميدانية، والتي تعتبر مستحيلة في مثل هذه المقالة الموجزة.
للبرهنة على النظرية المذكورة وبعد إمعان النظر في المداخل المختلفة لدراسة الثورة الإسلامية، فإننا نستحضر خمسة أفكار أخرى، وبالأسماء: المؤامرة، التحديث، الاقتصاد، الدين ونماذج الدكتاتورية، وإن الأسباب المقدّمة من قبل كتّابها سوف تُناقَش.
لدى مراجعة قواعد الآراء المقابلة وكشف نواقصها، تصبح أرضية طرح النظرية الجديدة مؤهّلة ومتينة. في هذا الفصل، سوف نقدّم أطروحتنا، ومن ثم الدليل الحاضر. وبشكل موجز يناسب هذه المقالة وذلك من أجل أن نحيط القراء الكرام علماً بالموضوع أولاً ومن ثم نعبّد الطريق لبحوث مستقبلية أكثر ثراءً ومتنانةً.مداخل متنوعة لدراسة الثورة الإسلامية في إيران:
وفقاً للتصنيف الأحادي الجانب، أنّ مداخل دراسة الثورة الإسلامية يمكن أن تنقسم إلى خمسة مجاميع وكما يلي:[218]
1ـ تضخيم أهمية الثقافة في الثورة:
مثال على ذلك، يحاول علي دواني في كتابه (حركة رجال الدين الإيرانيين) التأكيد على إن سقوط الشاه يجب البحث عنه في
الإسلام وقدرة رجال الدين على تعبئة الأمة باستخدام الشعارات الإسلامية. حامد الغار في كتابه (جذور الثورة الإيرانية) يعزو
الثورة إلى التشيّع وقيادة الإمام الخميني في قدرته على تمثيل التقليد الديني وتقديم الإسلام كأيديولوجية. عسّاف حسين في كتابه ( إيران الإسلامية:ثورة وثورة مضادة) يلفت انتباه الباحثين إلى عنصر الأيديولوجية.
وبالإضافة إلى الكتاب المذكورين الذين لديهم مشاعر إيجابية نحو الثورة الإسلامية، فان بعض المحلّلين من أصحاب الرؤى النقدية نحو الثورة مثل سعيد أمير أرجمند في كتابه (عمامة التاج) يعطي أهتماماً كبيراً للبناء المرجعي الديني الشيعي، بالإضافة إلى عامل التحديث. طبعاً، وكما سنرى، فان مدخله يعتبر من نوع تعددية ـ الأسباب.
حسان الزين في كتابه (الثورة الإيرانية في أبعادها الاجتماعية والأيديولوجية) كان أيضاً رجّح الدين كأهم عنصر في انتصار الثورة الإسلامية، رغم انه يعود إلى عامل القيادة أيضاً ضمن توضيحه للأحداث، ولكنّه غالباً ما يتجاهل دور القوى الاجتماعية الأخرى وكذلك العوامل السياسية والاقتصادية.
2 ـ تضخيم دور العوامل الاقتصادية والاجتماعية:
روبرت لوني في مقالته (الأصول الاقتصادية في الثورة الإيرانية) يشير بأن النظام لم يُعر أي اهتمام للاستراتيجيات التنموية، فالعلاقة بين الأهداف والبرامج والمشاكل الناشئة عن التضخم، والبرامج التنموية الواسعة والكبيرة كلّها أوجدت أزمة في التوزيع غير العادل للدخل مصحوباً باستياء وعدم ارتياح بين الجماهير. هومايون كاتوزيان في كتاب (الاقتصاد السياسي في إيران)يرجع إلى الأعوام المحصورة بين 1340 ـ 1357 (1960 ـ 1978) باعتبارها سنيّ (دكتاتورية النفط). وفي رأيه، أن الجمع بين هذا العامل، وذاك الذي يُسميه (التحديث الكاذب) يشكّل جذور الثورة الإيرانية. ثيدا سكوكبول في (دولة الدخل والشيعة في الثورة الإيرانية) تُذكّر بالحالة الاقتصادية والأيديولوجية الشيعية مع طقوسها كحب الشهادة، كعناصر مهمة في انبثاق الثورة.
وهنا من الضروري أن نذكر نقطتين: الأولى: إن التأكيد على العناصر الاقتصادية يجب ألاّ ينتهي إلى إهمال العوامل الأخرى،
والثانية: يجب الإلتفات إلى أن بعض وجهات النظر تعطي وزناً أكثر إلى جذور الثورة (مثل نظرية كاتوزيان) فيما يتعامل
البعض الآخر مع أسباب الثورة (مثلسكوكبول).
3 ـ تضخيم العوامل النفسية:
مروين زونيسس في (السقوط الإمبراطوري) يحاول أن يبرهن انه إذا كان الشاه ضعيفاً نفسياً فان الثورة كان لا يمكن منعها. إنّ النقطة الرئيسية في التحليل الاجتماعي ـ النفسي تتشكل حول انحناء J كمحور، وكذلك الفجوة بين الآمال المتوقعة ومستوى إشباع الحاجات في السنوات التي سبقت الثورة.
هذا النوع من التحليلات لا يشرح بشكل سليم التوقعات الفردية والجماعية. فضلاً عن تجاهل العوامل الأخرى.الحرمان النسبي لبعض الجماعات المنضوية في مسار الثورة التي قادها رجال الدين لم يكن موضحّاً هو الآخر في هذه التحليلات.
مدخل سياسي تجاه الثورة:
إبراها ميان هو الناطق باسم التحليل الوظيفي، على نمط هنتنغتون. ففي اعتقاده، أنّ الثورة الإسلامية حصلت لأن الشاه بدأ
التحديث في مستوى اجتماعي ـ اقتصادي محدد، وبذلك فانه وسّع الطبقة الوسطى الجديدة وكذلك القوة العاملة الصناعية. مدخل سياسي آخر يعتمد على آراء چارلس تيللي.
ميثاق پارسا في (الأصل الاجتماعي في الثورة الإيرانية) يرجع إلى تعبئة البازار ومصالحهم المشتركة التي التقت مع الجماعات الاجتماعية الأخرى وزعامة آية اللّه‏ الخميني.التحليل الوظيفي أو العملي، يتعامل، بدرجة ما، مع مرتكزات الثورة، ومع ذلك، انه غير قادر على تقديم منظومة معرفية دقيقة لتحليل الأسباب والعوامل التي قادت إلى الثورة.
5 ـ مدخل الأسباب المتعدّدة:
عدد من محللي الثورة الإسلامية يؤكّدون على تطابق أو تلاقي العوامل المختلفة. ميشيل فيشر الذي يسلّط الضوء على العناصر
الثقافية في مقالته (من الجدل الديني إلى الثورة)يعود إلى أن أسباب الثورة الاجتماعية والاقتصادية تشكّل كماً ونوعاً، تقليداً
للمعارضة الدينية.نيكي كدي عادت هي الأخرى إلى إصلاحات الشاه المستعجلة وإلى الأيديولوجية الشيعية.
فريد هاليداي في (الثورة الإيرانية: تنمية غير مستوية وجماهير دينية) يعرّف خمسة عناصر رئيسية للثورة في إيران: تنمية سريعة وغير متناسقة للرأسمالية في إيران، ضعف سياسي في النظام الملكي، تحالف قوى المعارضة، دور الإسلام في تعبئة القوى والأجواء العالمية المتغيّرة وغير المتوقعّة.
فريدة فارهي في «فقدان هيبة الدولة والأزمة الثورية للمدينة: تحليل مقارن بين إيران ونيكاراغوا» يحاول أن يذهب أبعد بإضافة
عاملين آخرين لنظرية سكوكبول:
توازن متباين للقوى الطبقية نظراً للتنمية غير المستوية للرأسمالية، وفهمٍ أكبر للأيديولوجية. مدخل جون فوران يبدو مشابهاً لمدخل فارهي.سعيد أمير أرجمند يجمع بين المسار السياسي (الذي هشّم هيبة هيمنة البناء الملكي) والعنصر الثيولوجي (ومثاله الأيديولوجية الشيعية الثورية)[219].
مدخل تعدّد الأسباب، ورغم انه يؤكّد على مختلف العناصر ويحاول ألا يُضخّم سبباً مفرداً بعينه، إلاّ إنه يقع ضحية التعميمات
الزائدة عن الحد.لا نرى نحن هنا بحاجة إلى القول بأن عناصر متعددة يمكن أن تشتمل عليها الثورة. ومع ذلك، فإن النقطة الرئيسية هي «أي العناصر وإلى أي درجة يمكن أن يكون له التأثير الأكبر في مرحلة من مراحل الثورة (مرحلة تداعي شرعية النظام السابق أم مرحلة انتصار الثورة)؟ منطقياً، في مدخل السبب التعددي، يمكن أن نعمل خطأ أو نشتبه بين السبب والأثر والدلالة، ولكن تبقى العلاقة المشتركة بين عنصرين فاعلة، وهكذا بين العوامل الجذرية الأساسية والعوامل المساعدة للثورة. إننا لا ننوي التحديق في الثورة الإيرانية من خلال أي مدخل محدّد أو خاص عن تلك التي قُدمت لحد الآن، السؤال المهم.
ونظرية البحث الحالية تبحث عن تعريف أكثر العوامل أهميةً في انتصارها، والمقدّم على غيره من أجل العثور على الطبيعة
الحقيقية لهذه الحركة الرائدة.ان مدخل السبب التعددي هو أيضاً نوع من التحليل. الاّ إن الفرد يجب أن يكون منتبهاً ألاّ يقع في الغموض. يجب الكشف بالضبط عن أي العوامل وفي أية واجهة أو على أي صعيد وإلى أي درجة اشترك هذا العنصر أو ذاك في الثورة. انه فقط وفي هذا السياق يمكن القول أنّ الطبيعة الحقيقية للثورة الإسلامية يمكن أن تُفهم بعض الشيء، وان الأسباب والعوامل المشاركة في انتصارها يمكن تعريفها.
نظريات حول انتصار الثورة الإسلامية:
قبل أن ندخل في أي توضيح لأطروحتنا ومحاولة البرهنة عليها، نقدم، كأفكار مقابلة النظريات الأخرى حول انتصار الثورة.
الخطوط العريضة، ونقاط الضعف والتحدّيات المواجهة لهذه النظريات سوف يقود إلى التقويم والاستدلال على أطروحة بحثنا. على العموم، وطبقاً لتصنيف واحد، توجد هناك خمسة رؤى حول انتصار الثورة الإسلامية.[220]
1 ـ نظرية المؤامرة:
المؤمنون بهذه النظرية يَتهّمون مبدأياً انكلترا والولايات المتحدة وأحياناً الاتحاد السوفياتي باعتبارهم ضالعين في هذه الحدث. البعض يعتقد بأن الشاه، بعد انقلاب 28 مرداد 1332 (أغسطس 1953)، أصبح أكثر قرباً للولايات المتحدة، وبذلك أرادت انكلترا أن تنتقم منها.
جماعة أخرى تؤكد بأن الغرب بدأ يشعر أن أسواقه في خطر وبذلك أنقلب على الشاه أو قلبه لكي لا تظهر (يابان أخرى) أو تجد طريقها إلى الوجود.
إذا كانت هناك ثمة شكوك حول خلل أو ضعف أو عدم صحة هذه النظرية، فالآن، وقد مرّ عقدان على ذلك التاريخ، فإن أهمية هذه الفكرة أو ضحالتها قد تمّت البرهنة عليها. وفي الأساس، فان (عقول المؤامرة) وعقليات بعض الناس البسطاء، تحاول أن تعفي نفسها من عقدة التحليلات باختلاق نظرية المؤامرة هذه.
إنّ نظرية المؤامرة (أو وهم المؤامرة)له جذور عميقة ومتوغلة في الثقافة الإيرانية. وإن حقيقة كون الأعداء يتآمرون ضد أية دولة، حرفياً، حقيقة مقبولة. ومع ذلك، فان روّاد هذه النظرية أو المبشّرين بها يضعون كلّ شيء في إطار المؤامرة. وبهذا فإن المشكلة الحقيقية تتنحّى جانباً في هذا المدخل العام، بدلاً منبذل الجهد المطلوب لتحليل أعمق. تاريخياً، ان التنافس البريطاني الروسي في إيران، وهشاشة ملوك القاجار أعطى الأرضية للاعتقاد بأن جواب أية مشكلة أو حلّها في إيران انما هو بيد القوى الأجنبية. إنّ نفاقية وازوداجية المواطنين والأجانب، الأصدقاء والأعداء وما إلى ذلك، كانت الأكثر تأثيراً في تشكيل صورة هذا الوهم في عقول الإيرانيين.[221]
على أي حال، إن نظرية المؤامرة، بخصوص الثورة الإسلامية طُرحت بشكل ضعيف ومخفف جداً، وان الزمن وحده كفيل
بزيادة ضعفها.
2 ـ نظرية التحديث:
وفقاً لهذه النظرية، إن برامج التنمية الاقتصادية للشاه في الستينات 1960، وبافتراض توفيقها وسرعتها، وكذلك فقدان التعاون والتنسيق مع التنمية الاجتماعية والثقافية، عمّقت التناقضات والصراعات في المجتمع الشبه الصناعي في إيران. إن هذه المفارقات الاجتماعية هي التي أحاطت التحوّل السياسي للنظام بالخطر.
في نقد هذه النظرية (وللاستدلال على النظرية الدكتاتورية) يقول زيبا كلام:«.. وفي الواقع، أنّ المسألة ليست كذلك. إنّ المعارضة للنظام كانت موجودة بالكامل حتى قبل أن يبدأ الشاه برامجه التحديثية.
مشكلة أخرى مع نظرية التحديث هي في الحقيقة أنها تحجّم معارضة الشاه والنظام لمعادلة المسار الديني في المجتمع. المشكلة الرئيسية مع نظرية التحديث انها تتجاهل العنصر السياسي للمعارضة»[222].
النقد الأول ليس متيناً ما دامت انتفاضة 15 خرداد متأثرة على الأغلب بالتحديث باعتبار أنّ المسار التحديثي هو الذي هيّأ
الأرضية للإمام الخميني لأنْ يقف ضد النظام.وكما نعلم، أن جدل الإمام مع الشاه كان على محاور مهمة كمجالس البلديات والمحافظات. الحركات المعارضة الأخرى، كحركة تأميم النفط، رغم أنها مهمة جداً في سياق معارضة سياسات النظام، وان لها اختلافات جذرية مع الثورة الإسلامية إلاّ أن زعماءها لم يحاولوا تغيير النظام وتأسيس جمهورية إسلامية في إيران، ولم يكونوا قادرين على تعبئة جميع الناس لما يحقق أهدافهم.إن نظرية التحديث، في الحقيقة، لا تستطيع توضيح أسباب انتصار الثورة، ولكنها تستطيع تعريف أو تحديد أرضية بدايتها. وفي الحقيقة لو كانت أحداث الستينات لم تقع، وما يُسمى (الإصلاحات الإمبراطورية) لم تحصل، فان أرضية المواجهة عند الإمام ورجال الدين ضد الشاه، ولحدّ إسقاط الحكم، ما كانت لتكون بالشكل الذي حصلت فيه. كما أنّ فرصة تعبئة جميع الناس ما كان يمكن أن تتوفر.
3 ـ النظرية الاقتصادية:
هذه النظرية كانت أكثر انتشاراً بين الكتّاب الإيرانيين المتغرّبين أو الماركسيين وأنصاف الماركسيين.وفي هذا السياق يقول زيبا كلام:«أن أرضية نظرية المجموعة الأولى ترتكز على زيادة واردات النفط وتضاعُف هذه الزيادة إلى أربعة أضعاف عام 1973. إن التضخّم الناشئ عن العجز الاقتصادي، أجبرَ النظام أن يضع في الحسبان سياسة مضادة لمواجهته.[223]
وكما يوضح زيبا كلام، في المقام الأول، إنّ وضع الناس الاقتصادي إبّان سنّي ما قبل الثروة، أصبح أفضل نسبياً، وليس أسوأ.
صحيح، أنّ الركود كان عتّم على اقتصاد البلد عامي 1976 ـ 1977، ولكن هذا الركود لم يكن ملحوظاً جداً بلحاظ حالة الرفاه النسبي التي كان يتمتع بها الناس. وثانياً، إذا كنا نقبل بأن هذا السؤال كان له أي مقدار من التأثير على تذّمر الناس وعدم قناعتهم بالنظام، يجب أن يُلحظ أيضاً في ما إذا كانت العناصر الأخرى، ذات تأثير، أو إن تأثيرها قد أُخذ بنظر الاعتبار أم لا. ماذا كان فعلا دور رجال الدين وقائد الثورة في تعبئة الناس؟ إلى أية درجة كان استشهاد نجل الإمام والمقالة المهينة لرشيدي مطلق مؤثرة في استفزاز الناس في قم وتبريز؟ ألم يكن ملحوظاً، وفق التحليل المقارن، بأن شعارات الناس والرسائل المرسلة من قبل زعماء الثورة كانت تتمحور حول المشاكل الاقتصادية؟
4 ـ النظرية الدينية:
الثورة الإيرانية، بلا شك، كان لها إطار ديني وإن تأثير الأيديولوجية ‏أدهش لعديد من المفكرين الغربيين وأجبرهم على تبنّي أو
تصوّر رأي ثانٍ ضمن أفكارهم.
وكما يرى عميد زنجاني، فان سياسة الشاه المناهضة للإسلام، وحب الشعب للإسلام كان السبب الأهم في الثورة الإسلامية.
[224]إنّ استبداد الشاه وأدواته في إصلاحات الأرض في أوائل الستينات انتجت آثارها في سياسته المناهضة للإسلام. يعتقد محمدي
أيضاً أن الشعب، والقيادة والأيديولوجية هي العوامل الرئيسية في انتصار الثورة، ومع ذلك، فإنه يعطي الأولوية الأكبر لعنصر الدين.[225]
على العموم، يمكن القول أنّ النظرية الدينية هي الأكثر واقعية من كل النظريات السابقة والأكثر انسجاماً مع واقعيات المجتمع الإيراني. حميد عنايت، هو الآخر، في مقالته (الدين كأيديولوجية سياسية)[226] يشير إلى آثار الدين والأيديولوجية الشيعية في الثورة.مع ذلك، فان هناك غموضاً غير قليل حول هذه النظرية يسمح بعرض النظرية الجديدة.
أولاً: أن الشعب الإيراني كان أكثر تديناً بكثير في الخمسينات والستينات منه في السبعينات. بكلمات أخرى، أن التنمية ومسار الإصلاح، الاقتراب أكثر من الغرب وثقافته، استيراد البضائع والسلع من الغرب، تواجد أعداد متزايدة من القوى الأجنبية تحت غطاء خبراء عسكريين وما أشبه ذلك، بثْ برامج تلفزيونية وسينمائية مصبوغة بالثقافة الغربية وقيمها. كل ذلك يشير، أنّ مجتمعنا، وفيما هو يتجه نحو السبعينات، بدأ يفقد ثقافته وتقاليده، وقيمه الدينية النبيلة.إنّ الثورة الإسلامية في إيران حدثت في حقبة زمنية كانت المشاعر الدينية للشعب خلالها تتناقص وبدأت تُستبدل بشكل متزايد بتقاليد غربية، مع حصول فراغ ثقافي وأزمة هوية.هذه الدعوى يمكن الاستدلال عليها بسهولة بدراسة ميدانية واستخدام طريقة
التحليل المقارن. عدد الأفلام المبتذلة والفاسدة في دور السينما ومحطات التلفزيون، أماكن اللهو والفساد، السفر إلى الخارج، درجة محدودة من الميل نحو المناسبات الدينية والطقوس مثل محافل العزاء والصلوات والصيام وأمثالها. الفترة المحصورة بين 1960 وإلى 1979 يمكن أن تقيّم وتقاس بشكل تقريبي.وثانياً: إن أطروحة عميد زنجاني في نظريته، وكما يراها زيبا كلام هي إن النظام لم يكن عرضةً للانتقاد زمن وقوع الثورة، فيما يبدو الموقف هو العكس تماماً.
ثالثاً: إنّ هذه النظرية هي مثل الأخريات، لا تعرض الثورة الإسلامية في سياق التحولات السياسية والاجتماعية والدينية
المعاصرة[227]، وعموماً، ليس هناك منهجية محددّة لترسيخ هذه النظرية يمكن أن يُوجّه الباحث أو يقوده من بداية النقاش حتى نهايته.
وأخيراً: فإنّ هذه النظرية لا ترى أي تمييز بين المرحلتين، مرحلة ضمور شرعية الملكية، ومرحلة انتصار الثورة في الوقت الذي نرى ضرورياً جداً الفصل بين العامل الأكثر أهمية في كلّ من هاتين المرحلتين.
5 ـ نظرية الدكتاتورية:
بعد أن يبيّن زيبا كلام ضعف النظريات الأربع المذكورة يحاول أن يضع الاستبداد والدكتاتورية كعنصر ضروري في أسباب
انتصار الثورة الإسلامية.
إنّ الأرضية الدينية، في كل من إيران والعالم، إنما تترسخ كلما عاشت الأغلبية الساحقة من الشعب دواعي القهر وعانت الحرمان من الحقوق السياسية والاجتماعية من قبل الحكومات الشمولية المستبدة. إنّ إيران المعاصرة زمن محمد رضا شاه لم تكن تختلف كثيراً عن إيران المتخلّفة زمن ناصر الدين شاه قبل مائة عام.[228]
ورغم أن زيبا كلام يوجّه الاتهام إلى النظريات الأخرى في كونها تفتقد الدليل المرجِّج، وإنها مجرّد طرح تنظيري، إلاّ أن
نظريته البديلة هي الأخرى تواجه نفس الضعف أو نفس الاتهام.إذْ لا مكان خلال عرضه وحواره يستطيع المرء العثور فيه على أي دليل يقوده إلى فكرة أن السبب الرئيسي في وقوع الثورة هو الدكتاتورية وليس الدين أو الاقتصاد أو التحديث أو المؤامرة.الذي يجادل لإثبات نظرية الدكتاتورية، لا يكشف أكثر من تأثير أوّلي للاستبداد في مسار الثورة الإيرانية، ولكنه غير قادر بالمرّة على أن يبرهن إن الاستبداد هو العامل الأهم فيها. كيف، وبأي دليل يمكن القول بأن ميول الناس نحو الحريّة كانت أكثر من تطلّعها نحو الدين؟ ألا يمكن القول أن عشق الناس للحرية هو ببساطة بسبب تأثرهم بالأفكار الدينية؟ كيف حصل أن دكتاتورية أنور هوكسها في البانيا تستمر 40 عاماً رغم استبداده الموحش الفظّ؟ بخصوص الدعوى القائلة بأن القاسم المشترك لثورات الجزائر ونيكاراغوا وإيران والدول الأخرى المحيطة بها في العالم هو الجو الخانق الذي يسبق الثورة، فأولاً: كيف يمكن الاستدلال على أن هذا العامل هو الأهم؟ثانياً: ما هو السبب الذي يجعل هذا العامل هو الأعمق تأثيراً من العوامل الأخرى؟ ثم كيف يمكن أن نعرف بأن تأثير هذا العامل
لم يكن له نفس المستوى من تأثير العناصر الأخرى التي عجّلت بوقوع الثورة؟ والأكثر أهمية من الجميع: هل الدكتاتورية هي
التي هيأت الأرضية لضمور شرعية النظام، أم إنها العامل الأكثر أهمية في انتصار الثورة الإسلامية في إيران؟!
في الحقيقة، يمكن القول، بأن الكاتب كان تعامل مع موضوع الاستبداد بطريقة التعريف فقط، وترك الاستدلال جانباً على
الأسباب لفرصة أخرى أو زمن آخر. على أية حال، وبمقدار ما يخّص الثورة يبدو انه خارج مجال البحث القول بأن عامل
الدكتاتورية سيغطي عامل الدين، وبالأساس، فان موضوع التحرير أو الحرية أصبحت له الأولوية الثانية بالنسبة للناس الذين
كانوا يعيشون حياتهم اليومية في أجواء الراحة التي توفرها حكومة الإقطاع.
صحيح أنّ الناس في السعودية والكويت مثلاً يتطلعون إلى الحرية والانعتاق من الاستبداد، إلاّ أنّ حياة الراحة والدعة التي
يوفرها الدولار جعلتهم يتجهون إلى الاهتمام بأولويات أخرى.
إنّ أثر الاستبداد في الثورة الإيرانية يكمن في الغالب في إعداد الأرضية لانتقاضة الشعب. وليس في تهيئة أسباب انتصار
الثورة. في نهاية هذه المقالة سوف نكتشف لماذا يجب أن يُميَّز هذين الوجهين عن بعضهما الآخر. بالإضافة إلى ذلك، إن نفس
النقد الذي يقدمه الكاتب للأفكار الأخرى، صحيح مع نظريته هو أيضاً. فإذا كان الاستبداد هو العنصر الأكثر أهمية للثورة، إذن
لماذا لم تحدث مثل هذه الثورة في الفترة الواقعة بين 1964 ـ 1978؟ أيهما كانت أقوى: دكتاتورية رضا خان، أم دكتاتورية
محمد رضا شاه؟
وأخيراً ما هي العناصر الأخرى وإلى أي درجة، كانت مؤثرة في مسار تحوّل إيران باتجاه الثورة لتحدث عام 1978؟
وعلى طول البرهنة على صحة نظرية هذا البحث، فإننا سوف نرى بأن الاستبداد والحاجة إلى التنمية السياسية كانا عاملين
مهمين في تعبيد طريق الثورة، ولكنهما لم يكونا العنصران الأهم في انتصارها.
الافتراض في البحث:
واحدة من المشاكل مع أغلب النظريات المذكورة سابقاً هي أن هذه النظريات لا ترسم خطاً واضحاً بين العناصر التي أدّت إلى
إضعاف النظام الملكي، وتلك التي سبّبت انتصار الثورة الإسلامية. فالعوامل المؤدية إلى تدمير النظام القديم ليست بالضرورة هي
نفسها التي أدت إلى انتصار الحرية. إن مسألة تهديم نظام الشاه يجب أن تُميّز عن مسألة تصاعد الثورة وانتصارها. نظرية
التحديث توضح أرضية انبثاق الثورة، وقادرة بشكل جيد على تصوير الأزمة التي حصلت بسنين قبل الحدث. ومع ذلك لا يمكن
القول بأن التحديث هو السبب أو العامل الأهم في انتصار الثورة الإسلامية.
إن باحثة مثل كدي، ربما حاولت كذلك التركيز مبدأياً على جذور الثورة أكثر من توضيح العناصر المشتركة في انتصارها. أمير
أرجمند في مقاله «الثورة الإسلامية الإيرانية في رؤية مقارنة» يظهر تمييزاً واضحاً بين هاتين المجموعتين من العناصر: الأول
المسار السياسي للتحول السريع لهيمنة البناء الاجتماعي في إيران (الذي انتهى في سقوط هيبة النظام الحاكم، والثاني، الغاية من
الثورة أو الأيديولوجية الثورية الشيعية التي شكّلت مصير الثورة الإسلامية»[229].
إن النقاط التي تستحق الاعتبار في هذا البحث هي التمييز بين مقدمات أسباب الثورة وغاياتها، وذلك بمنح اعتبار مهم للعوامل
المتباينة التي ساهمت في صناعة الانتصار. ومع ذلك، وبلحاظ العناصر المختلفة، فانه أولاً لم يبذل جهداً جاداً في فرز العوامل
المتباينة وفقاً لأهميتها، وثانياً لا توجد هناك خطوط لتعيين الحدود بين دور الأيديولوجية (أي الدين) والمؤدلجين (أي القيادة
الدينية).
في الدين، تحتاج النظرية إلى منهج معمّق في ما إذا كان الدين سبباً رئيسياً وحاسماً في انتصار الثورة الإسلامية، أم إنه لعب فقط
الدور الأكثر أهمية في تفتيت شرعية النظام، وبهذا عبّد الطريق أمام انتصار الثورة، أم أن العنصر الديني كان مهماً على
الصعيدين؟ في ما يلي من هذه المقالة سوف نبيّن أنه بلحاظ تهشيم هيبة النظام الملكي، فان التحديث كان أكثر تأثيراً من الدين.
كذلك. عند توضيح انتصار الثورة، فان ارتباكاً يُثار بلحاظ آثار الدين والقيادة (الدينية).
بالتأكيد لم يكن هناك أي دور لأي عامل خارجي خارج إطار المساعدة، والمؤامرة حقيقية في الثورة الإيرانية. الاقتصاد والدوافع
الاقتصادية، كانت نسبتها الأقّل في الأولويات.إذا كان ثمة أي اعتبار لدور التحديث والمسائل الاقتصادية، فإنه لا يعدو إعداد
الأرضية للثورة، ولكن ليس لانتصارها. التحليلات النفسية لا يمكنها أن تتنافس مع التحليلات الاجتماعية إلاّ قليلاً. العوامل
الأخرى، مثل مرض الشاه بالسرطان، أزمته الشخصية، ضغط كارتر على مسألة حقوق الإنسان، نشر المقالة المهينة في صحيفة
اطلاعات (7 يناير 1978)، قطع الإنفاق (في وزارة آموزگار)، الفساد في المؤسسة الحاكمة، شيوع الرذيلة في الأمة وزيادة في
مستوى تعلّم القراءة والكتابة، كلها لعبت دوراً بسيطاً يمكن النظر إليها كعوامل مساعدة للثورة. أما بلحاظ التحدّيات التي واجهت
الأفكار المذكورة فعلى الباحث أن يجيب على عدة تساؤلات منها:
1 ـ إذا كنا نقبل وبالإضافة إلى إزاحتنا الثقافة الغربية من الخمسينات والستينات، مع كافة أدواتها المتباينة التي اخترقت حياة
الناس، فإن سؤالاً هنا سيُثار وهو: كيف، وفي مثل هذه الأجواء، التي ضعف فيها الدين بشكل واضح، يمكن أن تظهر ثورة
دينية؟
2 ـ كيف تستطيع أمة لا تمتلك أي نوع من أنواع السلاح ولا تعتمد على أية قوى أجنبية أن تربح معركة ضد نظام مدجّج
بالأسلحة ومدعوم بجيش قوي قوامه 000ر700 عسكري ومدعوم من قبل جميع القوى الأجنبية ويقف على (بوابات الحضارة
العظيمة)؟
كارتر سمّى إيران (جزيرة الاستقرار). إذن، كيف ومن أين بدأت الأزمة في (جزيرة الاستقرار) هذه التي أدهشت كلّ شخص في
الدولة الامبريالية، وأسكتت المحللين والسياسيين الغربيين؟
3 ـ لماذا لم تبذل الولايات المتحدة الأمريكية، رغم كل مصالحها في إيران، أي جهد لحماية الشاه؟ ولماذا بقيت صامته تماماً أمام
انتصار الثورة الإسلامية؟ ألم يكن الأمريكان يدركون ان مصالحهم في إيران ستكون في خطر كبير في حال انتصار الثورة؟
4 ـ إنّ الثورة وُلدت في حقبة زمنية كان الناس فيها يتمتعون نسبياً بمستوى معيشي جيد ووضْعٍ اقتصادي مريح، ترى، ماذا جرى
لكي يجعل الناس ينهضون ويقدمون شهداء، متجاهلين مصالحهم الماديّة ومقدمين مثل تلك التضحيات الكبيرة المعروفة؟
5 ـ كيف ينبغي أن يُفهم مشوار السنين المحصورة بين 1963 ـ 1978؟ بكلمات أخرى، كيف كان وضع الثورة في تلك الفترة؟
الفكرة المطروحة
هنا تأتي في موازاة التساؤلات الخمسة المذكورة وكما يلي:
«إن التحديث في الستينات، وكذلك التحولات الاقتصادية السريعة المختلفة وغير المتوازنة وبدون الالتفات إلى الحاجات
السياسية والثقافية للتنمية، كلها ظهرت كعامل ممهّد أو مفتاح مهم ساهم في إسقاط النظام الملكي وقاد إلى انبثاق الثورة الإسلامية
في إيران. وفي هذا الإطار فإن العنصر الرئيسي في انتصار الثورة هو القيادة الدينية (للإمام الخمني)».
أ ـ انهيار شرعية النظام الملكي:
إنّ الاستدلال على الافتراضات السابقة سوف يتكامل في قسمين:
الأول: توضيح أسباب ضمور شرعية النظام الملكي وظهور عوامل الثورة.
والثاني: تعريف أو تحديد أكثر العناصر أهميةً في انتصارها. بعض الأدلة يمكن ذكرها بخصوص التحديث باعتباره سبباً من
أسباب فقدان النظام لهيبته ووقوع الثورة الإسلامية:
1 ـ يجب علينا أولاً إلقاء نظرة سريعة على بداية حركة الإمام السياسية. في بداية الستينات، حاولت الولايات المتحدة الشروع في
بعض الإصلاحات من خلال رئيس الوزراء علي أميني. الشاه، من جانبه لم يكن راغباً في ظهور منافس له، فتبنّى مسؤوليته في
الإعلان عن برنامجه الإصلاحي الخاص به. وقد تزامن هذا الحدث مع رحيل آية اللّه‏ البروجردي عام 1961.وبلحاظ المرجعية
غير المسؤولة لآية اللّه‏ البروجردي واقتصارها على الفقه وبصرف النظر عن الزعامة الدينية، فإن الإمام الخميني لم يتخذ أي
إجراء ضد ما أطلق عليه برنامج الإصلاح. ولذلك ففي بداية الستينات وما تبعها وبعد رحيل آية اللّه‏ البروجردي لم يكن هناك
إجماع على الزعامة الدينية أولاً. وثانياً: إنّ الشاه كان توّاً قد شرع في إصلاحاته.
مما لا شك فيه أنّ بداية حركة الإمام الخميني تزامنت مع بداية التحديث في إيران. إنّ نظريتنا هي ما بعد حدود هذين الحدَثين.
وعلى هذه القاعدة، يجب القول أنّ التحديث يسّر حركة الإمام في الستينات ومهّدَ لثورة الإسلام في 1357 (1979).
في كتاب (تاريخ إيران السياسي المعاصر) نقرأ: «أن الإمام كان يتطلّع إلى وقت مناسب أو فرصة للشروع) في المرحلة الثانية
أو الطور الثاني في حركته، وانّ هذه الفرصة توفرّت بعد موت آية اللّه‏ البروجردي، حيث أراد الشاه أن يربط المركز اللاهوتي
في قم مع ما سمّاه (الثورة البيضاء)[230].
وكما يذكر السيد حميد روحاني، فإنّ الإمام في هذه المرحلة لم يستطع الإعلان عن أهدافه السياسية بوضوح، لأنه كان سيُتّهم بأنه
سياسي، وبذلك فأنّه قدّم أهدافه على إنها برنامج ديني.
«ومع ذلك، كان ضرورياً للفكرة، والدوافع والمحفزات أنّ توجد أولاً من أجل أن تُلفت انتباه الجماهير العامة، أنّ الحركة كان
يمكن أن تكون مهمّة مستحيلة بدون موضوع تحريضي أو استنهاضي للجماهير لأنْ تتحرك، ولطبقة رجال الدين أنْ يجدوا
موطئ قدم مع الجمهور»[231].
كانت الحادثة الأولى المثيرة للنزاع هي اللائحة المقدّمة للبرلمان من قبل وزارة (أسد اللّه‏ علم) حول مجالس البلديات
والمحافظات. لقد كانت الصحف قد نشرت تفاصيل اللائحة الجديدة في 16 مهر 1340 (7 أكتوبر 1961).
2 ـ الآن، نحن نزعم الموقف المعاكس: هل كان بالإمكان تأسيس أو إيجاد أسُس لحركة الإمام عام 1963، أو أسس لعناصر
الثورة عام 1979 لو لم تكن للولايات المتحدة وللشاه النيّة في تحديث وإعادة تجديد إيران أو تجديدها؟
لا تستطيع الدكتاتورية والطغيان بنفسيهما أن يكونا سببان للثورة. أنّ توفّر الظروف الاقتصادية والثقافية والاجتماعية ضروري
كذلك. العديد من المستبدين عاشوا طويلاً وحكموا بطغيان ودكتاتورية إلاّ أنّ أنظمتهم لم تتعرض لخطر السقوط. إنّ الوعي
الجماهيري والإحساس بالدكتاتورية، أكثر أهمية من شيوعها أو انتشارها.
الظروف الاقتصادية والاجتماعية يمكن أن تخدم هذا الوعي أو إثارة الإحساس به. ان التحديث هو الذي لعب هذا الدور في
انتصار الثورة الإسلامية.
إنّ مسار الدكتاتورية ترسّخ بعد انقلاب 28 مرداد 1332 (16 آب 1953)، وكان قد تقوى بمجيء السافاك إلى الوجود. على
العموم إنّ المجتمع الإيراني كان قد تنفّس بعض نسائم الحرية في الفترتين اللتين حكم فيهما الديمقراطيون في الولايات المتحدة
(كندي عام 1961 وكارتر عام 1977). ولو لم يكن التحديث بشكله المحدد في أوائل الستينات، لكان مسار الأحداث في حركة
الإمام الخميني قد اتجه بالتأكيد إلى منحى آخر مختلف.
صحيح أنّ مستوى المعيشة العام شهد هبوطاً عام 1977، ولكن هذا وحده لا يمكن أن يكون سبباً لنهضة الناس أو انتفاضتهم.
الظروف الاقتصادية كانت لا زالت يمكن تحمّلها، المجتمع الإيراني المتدين التقليدي، في مواجهة العالم المعاصر، استلم
العصرانية بصورة مشوهّة وغير كاملة أولاً. وثانياً أنّ هذه العصرانية قد أوجدت للمجتمع أزمة هوية أو انتماء. إنّ الدكتاتورية
السياسية لا تسمح بإيجاد توليفة واعية بين التقليد والحداثة.هذا العامل يُعتبر عنصراً مهماً وربما مجرد عنصر في الثورة ولكنه
ليس سبباً في انتصارها.
إن سرعة التحديث كانت عالية جداً بحيث إن الطبقات التقليدية لم تكن قادرة على تحمّلها أي مجاراتها أو التسامح معها. بالطبع
أنّ التأثيرات التي أقحمت من قبل الدين وعلماء الدين وجماعات الضغط والتحالفات المناهضة للحكم وأمثالها، كانت هي الأخرى
مؤثرة في هذا المسار. إنّ نظرية التحديث لا تعدو كونها قادرة على التدليل على الأسس أو على تأسيس الإطار التحليلي للباحثين.
ووفقاً إلى حقيقة التنمية الاقتصادية (المتعثرة) تدريجياً، فان أزمات حادة كانت وُجدت وظلت كالنار تحت الرماد. وفي الحقيقة إن
الشاه قد زاد وبدون وعي عدد أعدائه في قلب نظامه.
3 ـ جزء آخر من الدليل على هذا الإفتراض هو أنّ الإمام الخميني لم يُعارض حكم الشاه في المراحل الأولى من تحركه وراح
ينظّم حركته في ثلاث مراحل: نصح الشاه، الوقوف ضد نظامه، وأخيراً الثورة.[232]
البعض يعتقد أنّ الإمام كانت لديه النية للإطاحة بالشاه منذ البداية، وان نصيحته للشاه كانت مجرد أداء تكليف. بكلمات أخرى،
إنّهم يقولون أنّ الإمام كانت لديه رسالة، تماماً مثل الأنبياء ليحذر وينذر فرعون ونمرود العصر قبل إسقاطهما. ولكن هناك دليل
يضعّف هذا الاحتمال. لو كان الشاه، وبسبب خوفه من الدين أو قوة رجال الدين، أو لأي سبب آخر، كان قد نسي قضية التحديث،
ومثل أبيه وملوك القاجار، قد عقد صلحاً مع المرجعية الدينية والنظام الاكليركي (الديني)، يبدو أنه ليس من المؤكد بأن مسار
الحركة والثورة الإسلامية كان سيسير على نفس المسار الذي سار عليه.
وحول موضوع لائحة المجالس البلدية ومجالس المحافظات، فإن آية اللّه‏ الإمام الخميني، وآية اللّه‏ شريعتمداري وآية اللّه‏
گلبايگاني كانوا التقوا في بيت آية اللّه‏ الحائري في 16 مهر (8 أكتوبر 1963)، وبعد اللقاء أرسل كلّ واحد منهم وعلى انفراد
برقية إلى الشاه. السيد حميد روحاني، ومن أجل أن يبرهن بأن الإمام الخميني لم يكن في الأصل عازماً على إسقاط النظام، يشير
إلى برقية الإمام للشاه هذه قائلاً:
«(علَم) (أي أسد اللّه‏ علَم) أرعب الأمة المسلمة في إيران التي أرادت أن تعرض على جلالته مشاكلها وكذلك على العلماء.. هذا
الرجل كان انتهك الدستور بذريعة الظروف الدولية القاهرة، وزعمه إنه من قبل الكومنولث. فمن أجل الأمة الإسلامية ولتوجيه
اهتمام جلالته إلى حقيقة واضحة خلاصتها إن الشاه لا ينبغي أن يثق بتلك العناصر الذين بملقهم وتزلّفهم وطاعتهم الكاذبة،
يريدون تنفيذ جميع النشاطات اللادينية وغير القانونية التي يرغبون في تنفيذها، وبعد ذلك ينسبونها إلى جلالته»[233].
وفقاً إلى روحاني، فإن الإمام الخميني، في رسالته حاول تحاشي الاعتراض المباشر على الشاه نفسه وحاول التأكيد على الدستور.
4 ـ دليل آخر على افتراضنا هو تحليل الشعارات المستخدمة في رسائل الإمام الخميني في مسار حركته وفي المظاهرات التي
قادت إلى الثورة. الطريقة الأكثر علميةً لتحقيق هذا الشيء هو التحليل المقارن، والذي مع الأسف وبسبب محدودية هذه المقالة،
لا يمكن أن يقدّم هنا تفصيلاً. ومع ذلك إننا نستطيع بشكل تقريبي مقارنة الشعارات والرسائل في الفترة المحصورة بين 1961 ـ
1979. وكما رأينا، في موضوع لائحة مجالس البلديات والمحافظات، فلا الرسائل ولا احتجاجات الزعامات الدينية كانت
تستهدف الشاه فعلاً. ونفس الشيء ينطبق أيضاً على شعارات الناس في مظاهراتهم ضد حذف ثلاث بنود من اللائحة المذكورة.
وكلما اقتربنا أكثر من عام 1977 فإنّ سلوك الحكومة الإسلامي العام، يصبح أكثر وضوحاً في الشعارات، إلى أن يأتي تقديم أو
طرح موضوع ولاية الفقيه ومن ثم الولاية المطلقة للفقهاء الكبار بعد انتصار الثورة.
إذا كان بالإمكان البرهنة على هذا الزعم، بالتحليل المقارن. فيمكن القول
أولاً: إنّ عموم أبناء الشعب الإيراني لم يكن لديهم صورة واضحة عن الحكومة الإسلامية وتغيير النظام الحاكم في 1962 ـ 1963.وثانياً: لم تُطرح لهم صورة واضحة عن نظام ولاية الفقيه قبل انتصار الثورة. وثالثاً إن (التحديث)، كمجرى للثورة، كان عبّد الطريق لحركة الجمهور بمرور الأيام. كما ان الأفكار المبكرّة لم تكن تهدف لإلغاء نظام حكم الشاه وإقامة حكومة إسلامية، وإن هذه الفرصة بدأت تتشكل تدريجياً بمرور الزمن ومن سنة 1962 ـ 1979.
بسبب هذه الأشياء الغامضة كانت الجماعات المختلفة تتحرك جنباً إلى جنب لحين مرحلة انتصار الثورة. ولكنْ وبعد الانتصار، فإن هذه الجماعات شعرب بأنها إما أن تَخرج أو تُخرج. وبطبيعة الحال، أنّ هذه الظاهرة طبيعية نسبياً، لأن جميع المعارضين عادةً يتوّحدون حتى مرحلة الانتصار ولكن القضية دائماً بعد ذلك فبعد انتصار الثورات تبدأ السجالات الداخلية بالظهور ويبدأ الصراع.
5 ـ إنّ هذه الفكرة يمكن توضيحها بسهولة بمشاهدة حالة التعثّر المحصورة بين سنتي 1963 ـ 1979.كما ان هذا السؤال يثار دائماً ليكشف عن كيفية تبرير 16 سنة من هذا التعثر أو التلكؤ، فإذا كان الدين هو العامل الرئيسي للثورة بلحاظ النظرية الدينية.وإذا كان للثورة جذور في أحداث عام 1962و 1963 إذن كيف يمكن توضيح هذه الفترة من خلو كرسي الحكم؟ وهل كان الدين غائباً من موضع ضعف أو قوة خلال تلك الفترة؟
إنّ الإجابة على هذا النوع من الأسئلة من قبل دعاة النظرية الدينية يبدو ضعيفاً للغاية، ولكن هذه المشكلة يمكن حلّها بسهولة بالنظرية الحالية: ان التحديث مهدّ الطريق للثورة الإسلامية الحاجة إلى الانسجام بين النمو الاقتصادي (السريع وغير الكامل والمختلق) وبين التقدم السياسي والثقافي، وفي فترة زمنية أوجدت أزمة سنتي 1978 ـ 1979.
بالطبع، إننا لا ننكر الدور الذي لعبته العوامل الأخرى مثل الدين والإمام الخميني وقيادة علماء الدين، والحركات السياسية،
والأزمات الاقتصادية وما إلى ذلك في بناء أسس الثورة.
6 ـ دليل آخر على هذا الافتراض، هو ما مقدار درجة الانسجام بين التحليل السياسي ـ الاجتماعي، فالنظريات المطروحة حول الثورة الإسلامية الإيرانية.هبشيرية يعتقد بأن نظرية التحديث يمكن أن تكون مفيدة في تحليل الثورة الإسلامية من منظور تحليلي طبقي، فيقول:
«إنّ إيران ومنذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ومع التسليم بالأسباب البنيوية والاجتماعية كتركيز القدرة وخصائص الاستبداد الشرقي، وضُعف الملكية وإضعاف الطبقات الاجتماعية، ولكنها لم تستطع أن ترسو على شاطئ التجديد الديمقراطي. الحكم البهلوي أخذَ المسؤولية على عاتقه إلى النهاية وقام بتأسيس مشروع دولة مطلقة.
«التجديد في الحقبة البهلوية كان له نتيجتان أساسيتان هما: إضعاف الطبقات الرأسمالية السابقة والمؤسسة التقليدية الحاكمة وبعدها إيجاد نظريات لظهور حالة جماهيرية من خلال الإصلاحات الاقتصادية أولاً، وتوسيع الحالة المدنية بالهجرة ثانياً.هاتان الظاهرتان شكّلتا الانعطاف الرئيسي في الثورة الإسلامية. التقليديون، البازاريون والجماعات الدينية، والذين راح كلٌّ بطريقته الخاصة، يُسحق بمسار التحديث، ولكنه في الوقت نفسه مُنح فرصة مناسبة لتعبئة الجمهور. على أية حال، يستطيع المرء أن يختصر الثورة الإسلامية في مثل هذا البُعد»[234].
تأسيساً على ذلك، ان كتّاب نظرية التجديد لم يكونوا مخطئين جداً في قراءتهم للنظرية وتصورّهم لها على أنها (صانع لأساس الثورة). نقدُنا المهم لنظرية التجديد هذه، هو أنها لمتكن قادرة على توضيح السبب أو أسباب انتصار الثورة بشكل وافٍ. وبنظرة ثانية إلى مسار التحديث كمحرّض لثورة عام 1979، يستطيع المرء أن يجد بعض النقاط الإيجابية، وإذا نحّينا جانباً بعض
التحليلات المبالَغ فيها أو المتطرفة لكدي، في كون الثورة انطلقت بسبب هجرة القرويين إلى المدن، فان الكثير من استنتاجاتها يمكن أن يكون مفيداً في البرهنة على افتراضيات بحثنا.[235]إنها توضّح كذلك أهمية أستخدام منحنى J للوجه التمهيدي للثورة.[236] إنّ المداخل التي لها رأي حول أهمية العوامل
الاقتصادية والاجتماعية، يمكن أن تكون مفيدة كذلك بخصوص بيان أسس الثورة. وكما ذُكر آنفاً، فان روبرت لوني، مشيراً إلى استراتيجيات التنموية المعيبة وإلى المشاكل الناتجة عن التضخّم والوسائل والغايات، يختتم بأن هذه المشاكل قادت إلى توزيع غير عادل للثروة وإلى تذمّر عام في الوسط الجماهيري. وبوضوح لا لبس فيه أن مناقشته تشرح أصول الثورة ولكنْ ليس أسباب انتصارها.كاتوزيان يثبّت أيضاً أنّ (دكتاتورية النفط) و(التجديد الزائف) يشكّلان جذور الثورة في إيران، إنّ جدليته صحيحة بلحاظ تعريف بعض أصول الثورة. في الحقيقة، انه بسبب التمييز بين أصول وأسباب انتصار الثورة الذي أثارته سكوكبول رغم مدخلها الاقتصادي والاجتماعي (للدولة الإقطاعية)، فإنها تُلفت الأنظار إلى الأيديولوجية الشيعية أيضاً.
ابراهاميان راح يؤشّر هو الآخر إلى آثار التحديث على المستويات الاقتصادية والاجتماعية[237]. والتي لا تتقاطع بأية وسيلة مع جدليتنا حول الموضوع.ميشيل فيشر يدرس الموضوع بشكل أكثر دقّةً، مؤكّداً إن أسباب الثورة وتوقيت حصولها كانت اقتصادية وسياسية، بينما شكلها ومكانتها، وبدرجة كبيرة يرجعان إلى تعاليم المقاومة الدينية أو الرفض الديني[238].
لقد ميّز جيداً بين العوامل السياسية والاجتماعية من جهة، الرفض الديني من جهة أخرى، ومع ذلك فقد عزا الأول للزمان،
والثاني للمكان.
ب ـ دور القيادة الدينية في الثورة الإسلامية:
من جانب ما، إنه من الصعوبة بمكان أن نرسم خطاً واضحاً ومميزاً يفصل بين الدين ودور القيادة الدينية. فقد نهض الإمام كزعيم ديني، بدافع صيانة الدين المقدس، مجسداً التشيّع في زعامته الدينية. من جانب آخر، أو على صعيد آخر، أننا يجب أن نميّز بين هذين العاملين، فكما ذُكر سابقاً، ففي ثورةٍ كالثورة الإسلامية، هنالك ثلاث عوامل يمكن أن تلعب دورها: الأيديولوجية والقيادة والناس، فإذا أخذنا الأيديولوجية كعامل رئيسي، فهذا يعني بأن هذه الأيديولوجية هي ضد الظلم بطبيعتها، ومن أوامرها ونواهيها يمكن أن يُفهم إلغاء أو إقصاء النظام القديم وفي هذه الحالة يكون دور الزعامة دوراً ثانوياً. وهنا يمكن القول بأن الثورة كانت ستنتهي إلى النص حتى لو أخذ بزمام قيادتها شخص آخر ما دام الدين قد أخذ دوره في تفعيلها وقد فعل.
ومع ذلك، وإذا أخذنا الزعامة الدينية كعامل رئيسي في الثورة، فهذا يعني حينئذ، انه وبرغم الدور العظيم للدين والأيديولوجية، فان الأداء النموذجي للقائد وخصائصه الروحية هو الذي مكّن الأيديولوجية من تأدية ذلك الأداء في الزمان والمكان المحدّدين، وكان له الدور الحاسم فعلاً. وفي هذه الحالة، فان للأيديولوجية قيمتها الخاصة، ولكنها قيمة ثانوية بالمقارنة مع دور القيادة وقيمتها، وما دام منهجنا هو التعدد ـ ألسببي فإننا لا نريد هنا الانتقاص من العناصر المؤثرة الأخرى وفي ظاهرة فريدة كظاهرة الثورة الإسلامية. إنّ مناقشتنا سوف تتركز على تجلية العامل الأكثر أهمية في انتصار الثورة.وكما ذُكر توّاً، إن التجديد أوجد فراغاً وأزمة ساهمتا في تسريع أحداث الثورة وتحقيق انتصارها عام 1979.
إنّ قيادة الإمام الخميني لعبت دوراً مهماً وضرورياً وحشدت كافة الناس وبكافة أصنافهم وطبقاتهم ومصالحهم المتباينة في دائرة النضال.نثبّت بعض الأدلّة (وليس الأسباب) على النظرية الآنفة الذكر، وكما يلي:
1 ـ بمقارنة عاملي الدين والزعامة الدينية، وبتقديم الدليل على الدعوى الثانية، يكفي القول أنه في السنوات التي سبقت الثورة، كانت تجليات الدين قد خسرت خسارة كبيرة، وفي مثل هذا الظرف، لم يكن هناك أي دافع أو قدرة لثورة دينية لأنْ تأخذ دورها أو تفعل فعلها لوحدها، العديد من المراكز والمسارح غير الملتزمة، أعداد متزايدة من أجهزة العرض التلفزيونية، برامج تلفزيونية ومسرحيات هابطة متأثرة بالثقافة الغربية، أعداد كبيرة من الخبراء الأمريكان والسوّاح الأجانب، هبوط التوجّه منخفض نحو القيم والطقوس الدينية كالعبادات الخاصة والصلوات وأمثالها، كل ذلك، وبدرجة ما، يمكن قياسه وتثبيته‏بالأرقام والمستندات. فقبل‏الثورة، كان هناك أكثر من 000ر40 خبير أجنبي في إيران، كما أن سفر الإيرانيين إلى الخارج كان مسألة عادية، وكما يقول ريجارد كوتام. فان الدين كان قد ضعف بنسبة كبيرة في إيران في الأعوام المحصورة‏ بين 1977 ـ 1979.
وعلى العموم يمكن القول بأن الانتقادات الأربعة للنظرية الدينية ليست خالية من القيمة وفقاً لافتراضاتنا..
2 ـ هناك دليل آخر على هذا الافتراض وهو التحليل المقارن لشعارات الناس ورسائل وبيانات القائد في مجرى الأحداث (أي
أحداث الثورة). ففي ذلك الوقت، لم يكن موضوع ولاية الفقيه معروفاً ولم تكن مسألة الولاية المطلقة للفقهاء مرفوعة أو معروفة أصلاً. وحتى مسألة الدولة الإسلامية فكانت غامضة وغير محددة. ويمكن أن نبيّن أيضاً بهذا العرض، أن الأغلبية النسبية من الشعارات كانت حول القيادة الدينية للإمام. وأكثر من ذلك يمكن أن يُضاف بأن الإمام وآية اللّه‏ مطهري، وحتى في عام 1990 كانا يؤكدان أنّ علماء الدين ليس لديهم النية أن يحكموا. كان مطهري يقول إن ولاية الفقيه تأخذ دور المنظّر الأيديولوجي وليس الحاكم. وفي رأيه، لا أحد في بحر التاريخ كان يتصور أنّ ولاية الفقيه تعني الحكم.[239]
3 ـ بعد حادثة انتفاضة التنباك أثناء حكم ناصر الدين شاه تحوّلت المعارضة ضد الاستعمار إلى معارضة ضد الاستبداد
والدكتاتورية. وفي الحقيقة، وجد الإيرانيون الشجاعة الكافية لاتّخاذ مواقف مناهضة ضد الحكومة الوطنية أيضاً. انّ المعضلة الرئيسية في الحركة الدستورية وحركة تأميم النفط هي فقدان القيادة الفريدة الكفوءة.
وهذه ليست مشكلة مع الثورة الإسلامية. كان الإمام الخميني يمتلك الشخصية الشجاعة المبرّزة صاحبة الإرادة، وكان سياسياً وفقيهاً ورشيداً، ورجلاً عارفاً بالزمن الذي كان يعيش فيه. أنّ روحية الإمام كانت واضحة لكل إنسان. العديد من الذين يستمعون إليه كانوا يبكون عندما يستمعون إلى خطاباته ومواعظه.
إنّ قيادة الثورة كانت على عاتق الإمام بشكل رئيسي وإذا كان لرجال الدين حصة كبيرة في قيادة الثورة، فإنها كانت على الأغلب لكونهم أتْباع وأنصار لقائد الثورة العظيم. مطهري، في استدلاله بأن التجمعات السياسية وغير السياسية الصغيرة لم تلعب دوراً كبيراً في الثورة، يرجع إلى النظريات المختلفة حول أسباب الثورة. إن مطهري وبشكل ممتع وصريح، وبدون قصد، جلّي القيادة الدينية في توضيحه للعامل الديني.[240]
إن الخصائص الفريدة عند الإمام جعلت الناس يثقون بشخصه أكثر من قناعتهم برسالته. أما هيكلية الدولة الإسلامية فلم تكن واضحة للناس، ومع ذلك ووفقاً للثقة والاعتقاد الكبيرين اللذين شعر بهما الناس بقائد ديني شبيه بالنبي، فأنهم تحركوا بذلك الاتجاه. وعندما قال الإمام: «فقط جمهورية إسلامية، لا كلمة أقل ولا كلمة أكثر» فان الناس حينها لم يكن لديهم فهماً كاملاً أو استيعاباً كاملاً لهذه العبارة، ولكن كلمة الإمام لا نقاش فيها بالنسبة لديهم.
يقول زيبا كلام:«إن الإمام كان قائداً وطنياً وضد الامبريالية ولم يكن زعيماً للقوى السياسية الدينية وحسب. انه قائد ضد الدكتاتورية بالنسبة للمثقفين، وقائد جماهيري محبوب للملايين من عموم الإيرانيين رجالاً ونساءً ووفقاً للصورة التي كانت مرسومة في أذهانهم عن الشاه ونظامه»[241].كدي، أيضاً، تقول بأن الإمام الخميني أصبح رمزاً لقائد ثورة ومثالاً للكثيرين من الناس غير المتديّنين[242]. محمدي، الذي يؤكد بأن القيادة والأيديولوجية والناس هي عناصر الثورة، يوضح بشكل غير مقصود أو بدون وعي دور العامل القيادي في محاولة توضيح دور الأيديولوجية.[243] عميد زنجاني، هو الآخر، في توضيحه لعناصر الثورة، يدخل مباشرة في موضوع القيادة.
4 ـ إن الإسلام والتشيع إنما هما نصّان يمكن أن ينطويا على قراءات مختلفة وعديدة. فقد لعبت المرجعيات الشيعية أدواراً مختلفة في مجرى التاريخ ولم يكن لديها نفس التصورات والقراءات للعلاقة التي يجب أن توجد بين السياسة والدين. فالتشيع الذي رُوّج من قبل مرجعيات غير سياسية، مثل آية اللّه‏ الخوئي، لا يمكن أن يكون بأي حال من الأحوال جذراً أو أصلاً في ثورة، فضلاً عن موجدٍ لها. قراءات مختلفة للتشيع عُرضة متوازية بعضها مع البعض الآخر، وبالتالي فلا يمكن القول على الإطلاق بأن الأيديولوجية لوحدها كانت السبب الرئيسي للثورة.
إن قراءة الإمام الخميني للإسلام والتشيّع هي التي منحت الناس الطاقة الثورية والقوة. إنه أجاب على السجالات المتعلقة
بالمواجهة بين الحضارة الغربية والحداثة، تماماً كما فعل الراحل آية اللّه‏ النائيني. وبوضوح، علينا ألا نتوقع أننا نستطيع العثور على أية قراءة واضحة لظاهرتي التشيع والإسلام المعاصرتين. ولمواجهة الحداثة والظاهرة الجديدة، يحتاج الدين، أي دين، إلى قادة ومترجمين (أي قرّاء) له، يُفترض أن يكونوا من القادرين على توظيف النصّ القديم في ظروف جديدة. هذه المهمة الصعبة والتي تبدو مستحيلة، لم تكن في قدرة أي أحد سوى الإمام الخميني.إن إسلام الإمام كان إسلاماً ثورياً ولم يستطع الائتلاف مع القراءات التقليدية والمحافظة. بالتأكيد إن آثار الدكتور شريعتي وخطاباته يجب ألاّ يجري تجاهلها إطلاقاً.لقد كانت مساهمتها عظيمة جداً في تعبئة الجماهير وخاصة الشباب. أنّ قراءة كقراءة الإمام، كان لها بُعداً ثورياً ساعد كثيراً في تعبئة الناس. جدير ذكره أيضاً، إن التشيّع كان دائماً دين الرفض والثورة.
قبل قراءة الإمام للدين وعلاقته بالسياسة، كان الإسلام والتشيّع، وحتى مفهوم (ولاية الفقيه) كلّها حاضرة بمعناها العام في الأذهان. مع ذلك، فان شخصية الإمام هي التي منحت هذا الوجود النصف ميت في جسم التشيع والفكر السياسي في إيران حياة جديدة وبثّت فيه روحاً جديدة.
5 ـ بالإضافة‏ إلى الأسباب الرئيسية للثورة الإيرانية، توجد هناك عوامل عديدة ثانوية ومسرّعة ساهمت في توفير التعبئة الممكنة في الوسط الجماهيري، وأخيراً في انتصار الثورة. واحد من هذه العوامل هو إدارة الرئيس الأمريكي كارتر وضغطها على ما سُمّي حقوق الإنسان عام 1356 (1977) وعدم مبالاة الولايات المتحدة في إبداء معارضة عملية تجاه انتصار الثورة. وكلما كان النظام يتراجع والقوى العالمية لا تُبدي معارضة واضحة تجاه تصاعد رياح الثورة، فان الناس الثوار والذين كان أغلبيتهم من الشباب من مواليد الستينات 1961، أصبحوا أكثر جرأة وجسارة وشجاعة. ومع ذلك فان الثورة الإيرانية، لم يكن لديها، وخلافاً للعديد من ثورات العالم، عدداً مهماً من الثوار القتلى.العامل المساعد المسرّع الآخر، كان مرض الشاه (بالسرطان). فقد كان الشاه قد أُخبر بمرضه من قبل طبيْبين فرنسيْين، الأمر الذي ترك أثراً سلبياً على شخصيته. لقد كان دائماً يُهاجم المعتقدات المقدسة للناس، ولم يكن قادراً على اتخاذ قرارات سليمة. بالإضافة إلى ذلك، إن عقله كان قد أصيب بعدوى وهم المؤامرة. وبما انه لم يكن قادراً على تصوّر أو الاعتقاد بأن الجمهور الخالي من أي سلاح، وبأيدي فارغة يستطيع أن يكتسح جيشه ذي 700000 رجل، فانه أصرّ على فكرته الموهمة القائلة بأن هذه الحركة الثورية كانت مؤامرة أو مخطط لها من قبل القوى الأجنبية، بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية.الناس، شاهدوا ضعف النظام وخوائه مع التزام الولايات المتحدة جانب الصمت من جانب، ومن جانب آخر، أعجب هؤلاء الناس بإصرار الإمام الخميني وتألّقه وقاطعيته. وكما يقول وليم لانجر «إن انتصار أية ثورة يأتي نتيجة لضعف واندحار القوة الحاكمة، أكثر منه نتيجة قوة وتصميم الثوار».
6 ـ من منظور علم الاجتماع السياسي، يُعتبر الموروث أو القوة الموروثة نمطاً من أنماط الحكم السياسي التقليدي حيث تفرض العائلة الامبريالية (المالكة) حكمها الظالم من خلال منظومة فكرية تصنعها على مذاقها الخاص. وفي المنظومة الوراثية الامبريالية (الاستبدادية) هذه، توضع القوة السياسية بشكل كامل بين يدي الحاكم الدكتاتور وتحت قبضته، بحيث لا تسمح بإقامة أي وجود سياسي متين، له امتيازات خاصة في الساحة السياسية للبلد. إن إمبراطورية إيران كانت من هذا النوع الوراثي. وبخصوص بديل عن هذا النظام، يُقال بأن أحد الطرق أو الوسائل لإيجاد تغييرات في النظام الملكي هو الاستفادة من القوة
والفظاظة الثورية.وفقا لـ برنتون وفيلا «في مسار تحوّل النظام الوراثي، تأخذ الطبقة الوسطى دائماً جانب المعارضة». ويقول هنتنغتون أيضاً: « إنّ النموذج البديل يفترض وجود معارضين أشدّاء لتغيير ميزان القوة لصالحهم وفرض الغلبة على النظام» ويبدو في هذا المسار بوضوح، أنّ القيادة الساحرة التقليدية يمكن أن تكون إحدى هذه البدائل. وعلى اعتبار أنّ أحد ملامحنا الثقافية السياسية هو خلّق الأبطال، فان هذه الخصيصة ينبغي أن تصبح مفهومة وأكثر مقبوليةً.
استنتاج:في بداية توضيح هذا البحث، أثيرت خمس تساؤلات يبدو أنها تتحدى النظريات القائمة بخصوص الأجوبة المتعلقة بـ (كيف ولماذا) الثورة الإسلامية. ورغم أنّ الجواب على هذه الأسئلة يمكن استخلاصه من الإيضاحات المارّة الذكر، فإننا هنا، مع مراجعة سريعة تقول:
1 ـ كيف حدثت ثورة دينية في حقبة زمنية، كان الدين فيها وعلى جميع الأصعدة ضعيفاً.
إنّ تأثير القيادة الدينية كان أقوى بكثير من الدين نفسه في مسار انتصار الثورة الإسلامية، وإنْ كان من المستحيل رسْم خط
واضح للتمييز بين هذين العنصرين. وبلحاظ ظهور العوامل المسرّعة، مثل سياسة كارتر في حقوق الإنسان وفقدان الموقف العملي للولايات المتحدة، وضعف شخصية الشاه، والجو المنفتح نسبياً الذي ساد بعد فترة قمع، كلها ساعدت على إيجاد ظروف ساهمت في تكريس الزعامة الدينية للإمام الخميني. الجماهير هي الأخرى، معتمدةً وبلا قصد على القيم الدينية الأصيلة والنبيلة، سارت خلف قائدها وأطاعته، وساعدت فيتفتح أزهار الثورة الإسلامية.
2 ـ كيف استطاع الشعب الإيراني الأعزل، الخالي من كل أنواع الأسلحة إلاّ الإيمان باللّه‏ والقبضات الخالية أنْ يقتحم نظاماً مسلّحاً مدعوماً من كافة القوى الأجنبية؟
صحيح أنّ أبناء الشعب لم يكونوا يملكون سلاحاً، ولكنهم استُنهضوا بزعامة الإمام الخميني، وراحت قلوبهم تنبض من أجل قيمهم الدينية فيما لم تُبدِ الولايات المتحدة أي فعل علني أو صريح للوقوف في وجه الثورة. الشاه، هو الآخر وبفقدانه لتوازنه النفسي قام بعدة قرارات خاطئة منها تسرّعه في تبديل رؤساء وزرائه الضعفاء، الأمر الذي منح الشعب اندفاعاً مضافاً لمواجهته مسبّباً بذلك للنظام صعوبات أخرى.
بالطبع، كانت هناك حوادث أخرى ساعدت في تحويل (جزيرة الاستقرار) إلى مركز للثورة الإسلامية.
3 ـ لماذا لم تقم أمريكا، التي شاهدت أنّ مصالحها في إيران والمنطقة أصبحت في خطر، بأي عمل عسكري لإيقاف انتصار الثورة؟
لقد كانت الولايات المتحدة تأمل إنها ستكون قادرة على التعاطي مع قادة الثورة، وخاصة بزرگانأو حكومة بزرگان المؤقتة. لحدّ ما، إن تردّد الولايات المتحدة يرتبط بفقدان الأمريكان لفهم حقيقي لظروف إيران. إنّ التقارير التي كانت تُرسل إلى واشنطن من قبل السفارة الأمريكية في طهران، وحتى آخر الأيام، لم تكن تُعِر أي اهتمام باحتمال حصول ثورة.من ناحية أخرى، وعندما أصبحت الانتفاضة واسعة الانتشار، فإن سياسات الانقلاب العسكري وأمثالها لم تعُد ذات جدوى.
4 ـ كيف ولماذا اختار الناس طريق الثورة والاستشهاد والتضحية على حساب مصالحهم الماديّة؟
رغم إنّ الناس (طبعاً ليس دائما) كانوا يعيشون ظروفاً معيشية جيدة نسبياً، إلاّ أنهم لم يكونوا مقتنعين بالأوضاع السائدة كما أن الفقر والثراء لم يكونا بنفسيهما سبباً في الثورة، ولكن عدم القناعة بالأوضاع المعاشية دفعهم أفراداً وجماعات (كجسد واحد متكامل)على النهوض.كان الاعتقاد الشائع أنّ الشاه وعائلته الخاصة يبدّدون ثروة البلد. وإن الرجل كان دمية بيد أمريكا وكانت لديه النيّة على استغلال واستغفال الأمة، وهكذا.ورغم أنّ نظام الشاه كان يواجه أزمة اقتصادية نسبية عام 1977 مقارنة بالسنوات السابقة وخاصة سنة 1973 التي ارتفعت فيها أسعار النفط فجأة إلى أربعة أضعاف، إلا أنّ مما يجب توضيحه، وقبل كل شيء، أن مجرد التضخم والمشاكل الاقتصادية لم تكن هي العوامل الرئيسية المحفزة للثورة. هذا أولاً.
وثانياً، ورغم أنّ الناس كانوا يعانون بعض المعاناة الاقتصادية، إلاّ أنّهم ما زالوا في وضع اقتصادي ليس سيئاً جداً، أي أنهم لم يكونوا يعانون بشكل حاد للحدّ الذي يدفعهم إلى تغيير الوضع عن طريق الثورة. إنّ من غير المنطقي أن نزعم بأن الناس ثاروا وضحّوا بدمائهم وحياتهم وتحمّلوا تضحيات جسام عديدة لمجرّد تحقيق مستوى معيشي أفضل أو لمجرّد أن المستقبل الاقتصادي للبلد لم يكن واضحاً لديهم تماماً.
وبكلام أكثر دقّة إنّ الناس كانوا يجهلون وضعهم الاقتصادي المستقبلي في تلك الفترة.
5 ـ كيف يمكن تفسير أو تبرير الانكسار في الأعوام المحصورة بين 1963 ـ 1977؟
إنها لحقيقة واقعة بأن الثورة الإسلامية في إيران لها جذورها في أحداث 15 خرداد 1342 (6 يونيو 1963)، ولذلك، فمن الضروري بعض الشيء الإجابة على السؤال المتعلق بفترة الهدوء النسبي في الأعوام المحصورة بين عامي 1963 و 1977.
إن تحقيق حالة الانسجام بين التنمية الاقتصادية (الناقصة والظاهرية) والتقدم الثقافي والسياسي كان بحاجة إلى وقت كافٍ من أجل أن يتكامل لتأسيس الأرضية المناسبة للثورة. نعم، إن متطلبات هذه الظاهرة كانت قد توفرت في بحر السنين المذكورة، ولكن الحاجة إلى إزالة الحواجز وإيجاد العوامل المسرّعة لم يبدأ الإحساس بهما بعد. وفي عام 1977 كان كلا المطلبين قد وُجدا في وقت واحد وكانا بحاجة إلى تنسيق العلاقة بين التنمية الاقتصادية والسياسية من جهة، وإزالة العوائق (كالتدخل الأمريكي المفتوح، أو حضور الجيش القوي الموالي للشاه) من جهة أخرى. إضافة إلى ذلك، أنّ العناصر المسرّعة (مثل حملة حقوق الإنسان لكارتر وسرطان الشاه) كانا عملا كمحفزين للثورة وعجلا بردّ الفعل. وأخيراً يمكن القول إن القيادة الدينية للإمام الخميني برزت كأهم عنصر من عناصر انتصار الثورة وإنها وجهت اللطمة الأخيرة أو الضربة القاضية للجسد نصف الميت للملكية وبالأخرى للنظام الملكي المشلول.

السابق  || الهوامش

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية

مركز الصدرين للدراسات السياسية