مركز الصدرين للدراسات السياسية || الكتب السياسية

المرجعية والولاية

الإهداء

إلى العالم الجليل الذي استوعب تعاليم الإسلام ودافع عنه بقلمه وبدمه، إلى المفكر الإسلامي الفذ والمجاهد العظيم والفقيه المحقق
والشهيد المضحي في سبيل الله آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر (رضي الله عنه) وإلى أخته العلوية الشهيدة بنت الهدى
أهدي هذا الجهد المتواضع، وأسأل الله عز وجل أن يتقبله بأحسن القبول.
 


مقدمة :

بسم الله الرحمن الرحيم

المرجعية الدينية أحد أهم القضايا التي لا بد من البحث فيها عند الحديث عن تطبيق الشريعة الإسلامية، وأهميتها أوضح من أن
تحتاج إلى بيان، وقد اهتم الفقهاء بالحديث عنها في دراساتهم العلمية، وبحثوا في المواصفات التي يجب أن تتوفر فيها، وفي
الصلاحيات والوظائف المنوطة بها، وكلما زادت الحاجة إليها بسبب تطور الأوضاع الفكرية والإجتماعية والسياسية والإقتصادية
وغيرها لأجل أن يكون لها دورها في مجال تلبية حاجات الأمة والإشراف على مسيرتها لضمان سيرها على نهج الإسلام
الحقيقي فإن هذه الدراسات تفرض نفسها بقوة أكبر، وخصوصاً بعد التساؤلات الكثيرة التي ترتبط بهذه الموضوعات في أذهان
الناس، ونسأل الله عز وجل أن نوفق للبحث في هذا الموضوع بما يعطي صورة واضحة وبما يتكفل بالإجابة على أهم التساؤلات
المطروحة بهذا الشأن، وهو ما يقتضي أن نتحدث من خلال الأبحاث التالية:


المبحث الأول: مفهوم المرجعية الدينية

المرجعية الدينية هي الجهة التي ترجع إليها الأمة في المجالين التاليين:
الأول: معرفة الإسلام.
الثاني: تطبيق أحكامه وتعاليمه.
وهذا الأمر يحتاج إلى بعض التوضيح، ويمكن أنْ نقول لأجل توضيحه أنّ الشريعة الإلهية شريعة تامة تستوعب جميع مجالات الحياة، ولم تقتصر على الجانب العملي والتشريعي فقط بل تشمل أيضاً الأسس النظرية والإعتقادية لفهم الوجود والحياة والارتباط بالإسلام لا يمكن أنْ يقوم فقط على إتباع الجانب التشريعي منه والمرتبط بالموقف العملي فقط، بل يتوقف على الإيمان بمبادئه وأصوله الفكرية والاعتقادية، بحيث يتم فهم الوجود وما يتصل به قائماً على أساس الرؤية العقائدية التي بينها الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وفصلها القرآن الكريم والعترة الطاهرة عليهم الصلاة والسلام، وعلى ما تقدم يتضح أهمية وجود مرجعية ترتبط بالفكر والعقيدة كما أنه لابد أيضاً من وجود مرجعية تربط بتطبيق الجانب التشريعي من الإسلام في مختلف أبعاد الحياة، وهي من خلال قيامها بأدوارها المطلوبة تستطيع أنْ تتقدم بالأمة نحو أهداف الإسلام في حدود ما توفر لها من فرص وإمكانيات، بخلاف الحال عند عدم تصدى الفقهاء ورجوع المجتمع الإسلامي لهم، ولذا يقول الشهيد السعيد السيد محمد باقر الصدر رضوان الله تعالى عليه:
إنّ أهم ما يميز المرجعية الصالحة تبنيها للأهداف الحقيقية التي يجب أنْ تسير المرجعية في سبيل تحقيقها لخدمة الإسلام،
وامتلاكها صورة واضحة محددة لهذه الأهداف، فهي مرجعية هادفة بوضوح ووعي تتصرف دائماً على أساس تلك الأهداف بدلاً من أنْ تمارس تصرفات عشوائية وبروح تجزيئية وبدافع من ضغط الحاجات الجزئية المتجددة، وعلى هذا الأساس كان المرجع الصالح قادراً على عطاء جديد في خدمة الإسلام وإيجاد تغيير أفضل لصالح الإسلام، في كل الأوضاع التي يمتد إليها تأثيره ونفوذه.[1]وسيأتي إنشاء الله تعالى التعرض لأوجه الحاجة للمرجعية في كلا الجانبين، ولكن مع ذلك كيف يتم الرجوع إلى المرجعية الدينية في البعدين العقائدي والفكري من جهة، والتشريعي من جهة أخرى، وهذا ما يستدعي أنْ نتحدث عن كل قسم بشيء من التفصيل:
أولاً: المرجعية العقائدية والفكرية
من الأمور التي يتفق عليها الفقهاء هو لزوم تحصيل اليقين في أصول الدين، وأنه لا يجوز الاكتفاء بإتباع الغير في ذلك، وقد ذكروا عدة أدلة على ذلك منها الآيات الكريمة الواردة في ذم إتباع الإبـاء والأجـداد في شئون العقيدة، حيث ركـزت على أمرين:
الأول: عدم جدوى تبعية الغير في شئون المعتقدات.
الثاني: عدم جدوى إتباع الظن، لأنه لا يغني عن الحق شيئاً مادام يوجد احتمال الخطأ فيه.
كما ذكروا أدلة عقلية ونقلية أخرى قد يطول الكلام بالتعرض لها في المقام، ومن ذلك يتضح أنْ الرجوع لأي أحد بمعنى تقليده وأخذ قوله دون المطالبة بالدليل والبرهان في أصول العقيدة غير صحيح، ولكن مع ذلك هل معنى ذلك انتفاء الجهة المرجعية التي يرجع إليها في أصول الدين والتعويل على الذات دون أنْ نعبأ بما يقال بهذا الشأن، أم أنه مع ذلك تبقى المرجعية الدينية قائمة ولكن بمفهوم آخر.
ويمكن القول بأن المرجعية بمعنى التقليد في أصول العقيدة كما اتضح غير صحيح، ولكن يمكن أنْ نطرح المرجعية الدينية في أصول العقيدة بمعنى الالتزام بالتعرف على مضامين العقيدة ومتابعة البحث من خلال الرجوع إلى المناهج العلمية التي وضعها علماء الإسلام، لأن علماء الإسلام وبسبب متابعتهم المستمرة عبر القرون العديدة قاموا بتنقيح ما هو مطروح من قضايا مختلفة بدقة، وناقشوا تلك الأدلة بما يحتاجه الباحث للوصول إلى النتيجة.
وعلى سبيل المثال فلو أراد شخص أنْ يكون طبيباً أو مهندسا أو غير ذلك، فليس المطلوب منه أنْ يتبع أقوال الأطباء والمهندسين دون أنْ يطالبهم بالدليل، وإنما عليه أنْ يبحث من خلال ما توصلوا إليه من دراسات وأبحاث، ولو أراد شخص أنْ يرجع إلى دراسة الهندسة أو الطب مثلا ويتجاوز ما هو مدون فيها من الأبحاث فسينتهي به الأمر إلى نتائج بدائية، وإلغاء أسس الحضارة الحديثة في جانبها الإيجابي، لأنه بمفرده وبتجاوز تلك الأبحاث لن يتوصل إلى معشار ما وصل له الباحثون قطعاً، وسيكرر ما قدمه الباحثون ربما في مرحلة بداية التاريخ، وسيكون بحثه بلحاظ الواقع بحث بلا نتيجة يُعتد بها عند العقلاء، ولذا فإنه إذا أراد أنْ يبحث وبعمق فلا بد أن يبدأ من خلال الأبحاث التي دونها العلماء في مجال الطب أو الهندسة مثلاً، ومن ثم لا بأس بأن يقوم بالنقد والتطوير من حيث انتهى إليه السابقون، وكذلك أيضاً بالنسبة للبحوث والدراسات الدينية فلو أراد أحد أنْ يستوعب الإسلام ومضامينه فلابد له أنْ يتحرك في فهمه من خلال دراسة ما بحثه الفقهاء ومن ثم لا مانع من القيام بالنقد والتطوير وفقاً للأسس العلمية من حيث ما انتهى إليه الفقهاء، فليس من الممكن أنْ يبدأ من الصفر ويتجاوز كل ما هو مبحوث بالفعل، حيث أنه لا يمكن لأحد بمفرده أنْ يصل في ذلك إلى نتائج يُعتد بها.
وحتى الفقيه لا يمكنه أنْ يصل إلى مقام الفقاهة والاجتهاد إلا إذا استوعب ما حققه من سبقه من الفقهاء، كما لا يمكنه أنْ يبلغ إلى الحد المعتد به لو اكتفى بالإطلاع على مادون في حقبة زمنية معينة، بل لابد له أنْ يطلع وبدقة على سير البحث العلمي من بدايته إلى نهايته، ولو فرضنا أنّ أحداً من الناس استوعب كلمات الفقهاء إلى حدود القرن الثامن الهجري فرجع إلى كتب المحقق والعلامة وغيرهما، واكتفى بذلك ولم يتابع سير الأبحاث الذي استمر إلى هذا اليوم، فحينئذ قد تكون لهذا الشخص قدرة على البحث والتقييم لكنه لا يعتد به، لأنّ ذلك الاجتهاد الذي قد يتوصل إليه اجتهاد بدائي بلحاظ الواقع، كما أنه لو اكتفى أحد بدراسة كتاب القانون في الطب لابن سينا في هذا الزمان فلا يمكن أنْ يشهد له أحد بأنه طبيب يمكن الاعتماد عليه ولو كانت عقليته بنفس مستوى عقلية الشيخ الرئيس ابن سينا نفسه، لأنّ هذا التخصص البدائي لا يمكن استبداله والاعتماد عليه في مقابل ما توصل إليه علماء الطب في هذا الزمان، وهذا الأمر لا يلغي قيمة ما بحثه الشيخ الرئيس أو غيره من العلماء في أي حقل من حقول المعرفة إذ لولا تلك الأبحاث والجهود لما كان بالإمكـان للبشرية أنْ تصل إلى ما هي عليه الآن من الرقي والتقـدم المستمر.وبالجملة، فالمرجعية في أصول العقيدة يقصد بها المرجعية في المنهجية وأسلوب البحث، ولاشك أن هذه المرجعية هي للفقهاء أعلى الله تعالى كلمتهم لكونهم المتخصصين في هذه الأبحاث والمهتمين بها من خلال القرون الطويلة، وأي تقييم أو بحث لا يمكن أنْ نفترضه بحثاً علمياً قائما على أصوله ما لم ينتهي إلى من حيث انتهوا إليه من الأبحاث والدراسات.وليس في ذلك أي تعطيل لدور العقل البشري، بل هو تنظيم علمي ومنطقي طبعي للبحث والمعرفة.وقبل أنْ ننتقل إلى بحث آخر لا بأس من الإشارة إلى أنه يمكن القول وفقاً لما تقدم بأنّ تشدد الفقهاء في أمر الاجتهاد في جانب منه هو أمر صحيح وفي محله، فتجدهم لا يقبلون مجرد البلوغ إلى القدرة على البحث والنقد لوصف شخص أنه فقيه أو مجتهد مع أنه أحياناً يمكنه بالفعل أنْ يقوم بنقد بعض الأفكار وتقييمها، لأنّه ليس المطلوب هو الوصول إلى القدرة على التقييم والنقد بقول مطلق، بل يراد البلوغ إلى هذا المستوى بخصوصيات معينة، وأنْ يكون بهذا المستوى بلحاظ الأبحاث الفعلية المعمقة التي بحثها الفقهاء بعمق وشمولية، والتي هي عبارة عن عملية امتداد ومتابعة للأبحاث السابقة، فليس المطلوب أنْ لدينا في هذا الزمان اجتهاد في حدود أبحاث كتب العلامة أو صاحب المدارك أو غيرهما، وإنما المطلوب اجتهاد يتناسب مع الأبحاث المدونة، ويملك نفس المستوى من العمق الفعلي.
ثانياً: المرجعية في الجانب التشريعي
يمكن القول بأنه عندما نريد أنْ نتحدث عن المرجعية في الجانب التشريعي فتارة نتحدث عن الشريعة على مستوى التشريع
وأخرى على مستوى التطبيق، أما على المستوى الأول فيمكن القول بأنه لا خلاف بين علماء المسلمين أنّ عصر التشريع ينتهي بزمان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه لا يحق لأحد بعد ذلك أنْ يأتي بحكم جديد في أي جانب من جوانب الحياة، ولكن مع ذلك لا تنتفي المرجعية في النطاق التشريعي، فإن أصل التشريع وإن كان قد تم وانتهى في زمان الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، بيد أنّ بيان التشريع وتوضيح مقاصده هو حاجة مستمرة في جميع الأزمنة، وفي ظل وجود الأئمة المعصومين عليهم الصلاة والسلام فإنهم يمثلون المرجعية العليا بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن ثم الفقهاء الجامعون للشرائط، حيث أنّ عليهم في كل زمان أنْ يقوموا بدراسة الشريعة الإسلامية ويحاولوا التعرف على جميع جهاتها، ومن ثم بيانها للناس كي يتمكنوا من تطبيق ما جاء به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وسنبين فيما يأتي إنشاء الله تعالى أدلة الحاجة إلى هذه المرجعية، وحدود صلاحياتها.
وما تقدم هو شأن المرجعية من جهة التشريع، ويبقى مجال واحد مهم من مجالات المرجعية الدينية، وهو مجال المرجعية في تطبيق الأحكام الشرعية، والمرجعية بهذا المعنى تحمل في مضمونها جهتين:
الأولى: الإشراف على حركة الأمة ومتابعة ما هي عليه للأخذ بها في حدود الإمكانات المتاحة نحو أهداف الإسلام، ووضع برامج شاملة مبنية على فهم الأحكام الإلهية لتقدم الأمة نحو نهج الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
الثانية: رجوع الأمة إليها باعتبارها الجهة التي تمثل الإسلام المحمدي الأصيل.والمرجعية بهذا المعنى له شروط وضوابط، ولها أدلة مستقلة عن الأدلة المرتبطة بالمرجعية في بعد بيان التشريع.وبما تقدم يتضح أنّ للمرجعية الدينية ثلاث جهات:
الأولى: العقيدة والفكر.
الثانية: بيان التشريع.
الثالثة: المرجعية في مقام تنفيذ الأحكام الشرعية بمعنى الإشراف على حركة الأمة، ورجوع الأمة إلى الجهة المسئولة في مقام تطبيق الإسلام.

 

السابق || التالي   || الهوامش

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية

مركز الصدرين للدراسات السياسية