المبحث الثاني: وظائف المرجعية الدينية
اتضح مما تقدم الجهات المتعلقة بدور المرجعية، ولكن يبقى الكلام في أسلوب قيام
المرجعية بهذه الأدوار، وكذا طريقة تعامل المكلفين، وبعبارة أخرى تحديد طبيعة عمل
المرجعية الدينية بالنسبة لكل جهة من الجهات الثلاث.
ولا بأس بالحديث عن كل جهة من الجهات المتقدمة.
أولاً: دور المرجعية في بعد الفكر والعقيدة
مما لاشك فيه أنّ هذا الدور يعتبر من الأدوار المهمة والحساسة جداً، لما لبعد
العقيدة من الآثار الكبرى على جميع مسائل الحياة، بل يمكن القول بأن العقيدة تمثل
الأساس التي تقوم عليه الشريعة في كافة جوانبها، بحيث لو اختل البعد العقائدي، فإنه
سيؤدي إلى خلل عام على جميع المستويات، وهذا ما يؤكد أهمية الحفاظ على هذا الجانب
وتفعيله في الأمة بما يتطابق مع أهداف الإسلام، وبالبداهة فإنّ السير بهذا الإتجاه
يتوقف على الإشراف الصحيح على حركة الأمة بما يتوافق مع الأصول والمباديء الأصيلة
التي تؤخذ من المصادر المعتبرة، ويتوقف أيضاً على رجوع المجتمع إلى تلك الجهة التي
استوعبت التعاليم الإلهية الحقة وعملت لأجل الحفاظ عليها، وتواصلت مع البحوث
والدراسات المعمقة منذ زمن الرسول والعترة الطاهرة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين،
وإلي يومنا هذا والتي تتمثل بالفقهاء الجامعين للشرائط.
وبهذا يتضح طبيعة الدور الذي تقوم به المرجعية الدينية في بعد الفكر والعقيدة، حيث
أنها تقوم بالإشراف على الحركة الفكرية والثقافية، وتسعي لأن تكون الحالة الفكرية
متطابقة مع المناهج العلمية المقررة، وبحيث تكون عملية استمرار لما انتهت له
الأبحاث المعمقة، وذلك من خلال توجيه الأمة والارتباط بها، ومن خلال التنبيه على
الأساليب القاصرة أو الخاطئة، إذ أنّ السير بلا توجيه وإشراف سيؤدي إلى الفوضى
الفكرية وإلي إتباع المناهج القاصرة والخاطئة، وبالتالي نقض أهداف الحركة الثقافية
والعقائدية وإعاقة التقدم العلمي، وهذا هو الدور الذي تقوم به المرجعية على المستوى
العقائدي بالإجمال ولا بأس بأن نتحدث عنه بشيء من التفصيل، حيث يمكن القول بأن
المرجعية ولأجل أنْ تقوم بدورها الضروري لأجل الإشراف على الواقع الفكري والعقائدي
للأمة، فإنها تمارس ذلك من خلال المحاور التالية:
الأول: طرح الأصول الإعتقادية والفكرية طرحاً صحيحاً ومتطابقاً المصادر المعتبرة،
وذلك بالوسائل المناسبة لمتطلبات الواقع، وبالأسلوب الذي تقتضيه الظروف والمتغيرات
وإذا لم تتصدي الجهة المسئولة المتمثلة بالمرجعية الدينية لهذا الجانب فمن الطبيعي
حينئذ أنْ يُفتح المجال على مصراعيه أمام الشبهات والأطروحات المغلوطة والفهم
القاصر لما في الكتاب والسنة، وستشق الرؤية غير المبنية على أسس علمية طريقها في
المجتمع ذلك لأن الفكر والعقيدة حاجة طبيعية ملحة يقتضيها الطبع الإنساني بفطرته،
فالإنسان مفطور على التفكير ويشعر بحاجته إلى التعرف، وإذا لم يتحرك في تفكيره على
أسس علمية صحيحة فإنّ ذلك سيؤدي به نحو التخبط والخلط، ونحو نتائج غير متطابقة مع
الواقع، ولا يختص ذلك بالمسائل الدينية، بل يشمل جميع مسائل الحياة، ففي القضايا
التي تتطلب المختصين إذا لم يتصدى له ذووا الاختصاص، فإن ذلك يؤدي إلى التأخر
والتخلف والوقوع في المفاسد، بخلاف ما لو تصدى ذووا الإختصاص، فإن ذلك يؤدي إلى
وضوح القضايا ذات الصلة بالاختصاص، وتبلورها، وتكامل الأفكار بشكل منظم وصحيح.ثم
إنّ المرجعية تقوم بطرح الأصول الفكرية والإعتقادية من خلال إمكانياتها الفعلية
كتصنيف المصنفات أو الإشراف على تدوينها والإشراف على دور المبلغين والتأكد من
كفاءتهم وتمكنهم من المعلومات واستيعابهم لها بدقة وعمق وشمولية حتى يمكنهم تأمين
الخطاب الديني الصحيح والمترابط والذي يغطي كافة الاحتياجات الفكرية التي يحتاجها
المجتمع بالفعل.
الثاني: التصدي للأطروحات القاصرة أو المنحرفة، والتي نشأت بسبب الاشتباه أو بسبب
التآمر الثقافي الذي يقوم به أعداء
الإسلام لأجل السيطرة على مقدرات الأمة الإسلامية، وذلك بواسطة النقد الموضوعي، أو
بكشف هويتهم للناس أو غير ذلك حسب ما تقتضيه المصلحة وبلحاظ ما يتطلبه الظرف الذي
تطرح فيه القضايا المغلوطة، وبدون هذا التصدي سيحصل الضياع لا محالة في صفوف
المسلمين وسيتسع بحيث لا يتمكن الناس من تمييز الحق من الباطل كما أنّ الأمر سيؤدي
بالنتيجة إلى أنْ يتحمل الفقهاء المخلصون تبعات الطرح المنحرف، وينتهي إلى توهم
إقرارهم لتلك المسائل، ولذا نجد الفقهاء عبر التاريخ مضافاً لقيامهم بدور التوجيه
وبيان الأصول الإعتقادية كانوا يتصدون وبقوة لذوي الأفكار المنحرفة سواء من الداخل
أو الخارج، كما هو ظاهر في تصديهم بما أتيح لهم من إمكانات وحسب تشخيصهم لقابلية
التغيير لأطروحات الغلاة والنواصب، وللملحدين وذوي الاتجاهات المنحرفة على اختلاف
انتماءاتهم وإن كانوا يواجهون أثناء قيامهم بذلك الدور عوائق وموانع تحد من حركتهم
أو تضفي عليها شيئاً من التعقيد كالاصطدام ببعض الأعراف والتقاليد المتجذرة التي قد
تكون أحيانا في قوة الدين، بل قد يتوهم الناس أنها من الأصول، كما كانوا يواجهون
الظروف السياسية الصعبة التي تقترن مع القمع والمواجهات بحيث لا يتمكن الفقيه من
ممارسة دوره بحرية، ولكنهم مع ذلك يقومون بالتصدي للانحرافات حسبما تقتضيه المعطيات
الفعلية للدور الذي يقومون به، ولذا فإن التاريخ يشهد لكثير من المصلحين والذين
تصدوا للأفكار المنحرفة أنهم تحملوا لأجل ذلك كثيراً من التبعات الثقيلة كالسجن أو
التعذيب أو النفي أو غير ذلك، بل قد يؤدي التشخيص إلى اختيار التضحية بالنفس من أجل
مواجهة الفكر المنحرف كما نجد ذلك واضحاً في نهضة سيد الشهداء أبى عبد الله الحسين
عليه الصلاة والسلام، وقد اعتبر أنّ ما قام به ليس إلا لأجل الإصلاح في أمة جده
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهكذا نجد ذلك في شواهد يزخر بها التاريخ في
صفحاته المشرقة عند تعرضه لحياة الذين قدموا أنفسهم قرباناً لله تعالى من أجل
الدفاع الحقيقة.
الثالث: إقامة المؤسسات الفكرية والتربوية والإشراف على حركتها والعمل على توجيه
كافة قطاعات الأمة حسب التمكن نحو الارتباط بتلك المراكز، والقيام بتوجيه الأمة نحو
تفعيل دور المواقع التي لديها من المساجد وغيرها في خدمة الهدف التربوي والثقافي،
ومتابعة سير تلك المؤسسات لأجل ضمان سيرها الفكري على النهج الصحيح، وهذا الأمر
قامت به المرجعية الدينية في حدود ما لديها من الإمكانات، ولاشك بأنّ زيادة الوعي
وتفاعل الأمة مع الجهة التي تشكل محور العمل الإيماني يمكن المرجعية من خلال الأمة
بتكامل مثل هذه الأعمال.
ولا بأس في ختام هذا الفصل من ذكر ما ذكره المحقق السيد الشهيد الصدر رضوان الله
تعالى عليه في مقام بيان أهداف المرجعية الصالحة، خصوصاً وله صلة قوية بما نحن فيه
حيث يقول:
ويمكن تلخيص أهداف المرجعية الصالحة رغم ترابطها وتوحد روحها العامة في خمس نقاط:
1ـ نشر أحكام الإسلام على أوسع مدى ممكن بين المسلمين، والعمل لتربية كل فرد منهم
تربية دينية تضمن التزامه بتلك الأحكام في سلوكه الشخصي.
2ـ إيجاد تيار فكري واسع في الأمة يشتمل على المفاهيم الواعية من قبيل المفهوم
الأساسي الذي يؤكد بأنّ الإسلام نظام كامل لشتى جوانب الحياة، واتخاذ ما يمكن من
أساليب لتركيز تلك المفاهيم.
3ـ إشباع الحاجات الفكرية للعمل الإسلامي، وذلك عن طريق إيجاد البحوث الكافية في
مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والمقارنات الفكرية بين الإسلام وبقية
المذاهب الاجتماعية، وتوسيع نطاق الفقه الإسلامي على نحو يجعله قادراً على مد كل
جوانب الحياة بالتشريع، وتصعيد الحوزة ككل إلى مستوى هذه المهام الكبيرة.
4ـ القيمومة على العمل الإسلامي والإشراف على ما يعطيه العاملون في سبيل الإسلام في
مختلف أنحاء العالم الإسلامي من مفاهيم وتأييد ما هو حق منها وتصحيح ما هو خطأ.
5ـ إعطاء مراكز العالمِية من المرجع إلى أدنى مراتب العلماء الصفة القيادية للأمة
بتبني مصالحها والاهتمام بقضايا الناس واحتضان العاملـين في سبيل الإسلام.ووضوح هذه
الأهداف للمرجعية وتبنيها وإنْ كان هو الذي يُحدد صلاح المرجعية ويُحدث تغييراً
كبيراً على سياستها العامة ونظراتها إلى الأمور وطبيعة تعاملها مع الأمة، ولكن لا
يكفي مجرد وضع هذه الأهداف ووضوح إدراكها لضمان الحصول على أكبر قدر ممكن من مكاسب
المرجعية الصالحة، لأنّ الحصول على ذلك يتوقف إضافة إلى صلاح المرجع ووعيه
واستهدافه على عمل مسبق على قيام المرجعية الصالحة من ناحية، وعلى إدخال تطويرات
على أسلوب المرجعية ووضعها العملي من ناحية أخرى.[2]
ثانياً: دور المرجعية في القيام ببيان التشريع
التشريع الإسلامي ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: التشريع الذي ثبت من الدين بالضرورة، بمعنى أنّ نسبته إلى الشريعة لا
تحتاج إلى إقامة الدليل، وذلك بسبب تسالم المسلمين واعتنائهم به جيلاً بعد جيل كأصل
وجوب الصلاة اليومية وكونها مشروطة بالطهارة ووجوب الصوم في شهر رمضان وأصل وجوب
الحج والخمس والزكاة، وغير ذلك مما لا مجال لحصره لكثرته، فهذه المسائل لا تحتاج
إلى أدلة، وإثبات أنها من الشريعة الإسلامية لا يحتاج إلى بحوث ولا دراسات، لأنّ
اهتمام المسلمين بها جعل انتسابها للدين بديهياً، وهذا ما يجعل المسلمون بمختلف
طبقاتهم يعتنون بهذه المسائل دون الرجوع في إثباتها إلى أحد، وهذه المسائل يعبر
عنها بضروريات الدين.
وقد لا يتسالم على بعض المسائل جميع المسلمين، ومع هذا فقد تكون متسالمة لدى أتباع
مذهب معين بحيث أنّ انتسابها لذلك المذهب صار بديهياً بسبب اعتنائهم بها في مختلف
الأزمنة كالقول بجواز الجمع بين الصلاتين عند الشيعة الإمامية، فإن انتساب هذا
القول إلى مذهب أهل البيت عليهم الصلاة والسلام لا يحتاج إلى إقامة البراهين، وذلك
لأنه صار ضرورياً بسبب تسالم فقهاء هذه المدرسة على مر التاريخ، وهذا النمط من
المسائل وإن لم يكن ضروري الانتساب إلى الدين عند جميع المسلمين، لكنه ضروري
الانتساب عند أتباع المذهب، وهذا القسم يُطلق عليه الفقهاء مصطلح ضروريات المذهب.
وهذا القسم نجد أنّ أتباع كل مذهب يعتنون به ويقومون بوظيفتهم نحوه دون الرجوع إلى
أحد وذلك بسبب ثبوتـه لديهـم
بالضرورة، ونفـس عنصر الضرورة (= البداهة) يغنيهم عن الرجوع إلى أي جهة لإثبات
انتسابه إلى المذهب.
القسم الثاني: التشريع الذي يحتاج ثبوته إلى إقامة الأدلة والبراهين، وقد تسبب
الفاصل الزمني الطويل بين الأمة وزمان التشريع إلى أنْ يكون ثبوته من الشريعة
الإسلامية أمراً يحيطه الغموض، ومن هنا كان إثبات ما تقتضيه الشريعة الإسلامية
بالنسبة لهذه
المسائل متوقفاً على الدراسات العلمية التخصصية التي تهدف إلى استيعاب الكتاب
والسنة واستنباط الأحكام منها، ومن الأمثلة
على ذلك جواز النظر إلى وجه وكفي الأجنبية وعدمه، فالجواز أو الحرمة كلاهما ليس
أمراً قطعياً بديهي الانتساب إلى الشريعة الإسلامية، وإنما إثبات الجواز أو الحرمة
يتوقف على الاستدلال التفصيلي والبحث في نصوص القرآن الكريم والسنة الشريفة، وهذا
القسم يضم عدداً ضخماً من المسائل الشرعية التي لا يتيسر الوصول إليها بدون البحث
والاستنباط، كما أنّ الإختصاص في هذه المسائل ليس متيسراً إلا لعدد قليل من
المختصين في الفقه الإسلامي، بل إنّ ليس كل مختص يستطيع البحث التام في هذه
المسائل، وإنما خصوص من بلغ درجة الاجتهاد وكان لـديه القدر الكافي من الإطلاع بما
يمكنه من ممارسة عملية استنباط الأحكام الشرعية.
والقسم الأول من الأحكام وهي الضروريات يمكن للمكلف أنْ يقوم بأدائها دون وجود أي
عقبات أمام فهمها وتطبيقها، بينما الأمر في المسائل غير الضرورية والتي تحتاج إلى
الاستدلال على العكس تماماً، فهي غامضة بالنسبة لغير المجتهد، ولا يعرف غير المختص
موقف الشريعة منها بشكل واضح، كما أنه من المتعذر أنْ نطلب من جميع المكلفين أنْ
يتخصصوا إلى بلوغ درجة الاجتهاد، لما يتطلبه الوصول إلى مرتبة الاجتهاد من بذل جهد
وتفرغ لمدة طويلة، فلم يكن من حل حينئذ إلا الرجوع إلى المختص القادر على استنباط
الحكم الشرعي وهو المعبر عنه في السنة الفقهاء بـ (المجتهد)، وهذه العملية وهي
رجـوع غيـر المختـص إلى المجتهـد يسميـها الفقهـاء بعمليـة (التقليد)، ومن هنا
يمكننا أن نقول في باديء الأمر بأن التقليد هو عبارة عن رجوع غير المختص إلى المختص
(= المجتهد) في المسائل الشرعية غير الضرورية، أي التي تتوقف معرفتها على البحث
والاستدلال.
وقد اعتنى الفقهاء بشرح هذه العملية من جانب المجتهد وشرحها من جهة المقلد،
فالمجتهد يقوم باستنباط الأحكام الشرعية تارة بلحاظ تكليفه الشخصي، وأخرى يقوم
بإستنباطها بلحاظ تكليف المقلد، وفي الصورة الثانية يفسر جماعة من كبار الفقهاء
كالمحقق الخراساني والمحقق النائيني وغيرهم[3] عملية الاستنباط والإفتاء والتصدي
لبيان الأحكام الشرعية بأنها نيابة من قبل المجتهد عن غيره، بسبب عجزه عن استنباط
الأحكام الشرعية.[4]وأما تفسير العملية من جهة المقلد فهي عبارة عن عملية رجوع من
قبل غير المختص إلى المختص (= المجتهد).
وبما تقدم يتضح أهمية وأسباب عملية التقليد، فهي كما يقول الفقهاء مسألة بديهية
فطرية جبل عليه الإنسان بطبعه[5]، ويدعو إليها العقل بالضرورة، إذ بدونها لا يمكن
الوصول لمعرفة الكثير من الأحكام الشرعية بسبب العجز عن استنباط الأحكام من أدلتها
المقررة، وهذا الأمر لا يختص في المسائل الفقهية، بل يشمل جميع مجالات الحياة، ففي
جميع المجالات التي تتوقف معرفتها على التخصص والدراسة المعمقة لابد من الرجوع إلى
المختص كما هو الحال بالنسبة للرجوع إلى الطبيب والمهندس وغير ذلك من المجالات التي
تحتاج إلى المختصين، وبدون ذلك سيفوت على أغلب الناس الاستفادة من هذه العلوم
وستصبح الحياة في حال من التخلف الدائم، وبهذا يتضح جانب مهم من أدوار المرجعية في
بعد بيان التشريع، حيث أنها بعد قيامها بدورها في دراسة الأحكام الشرعية تقوم ببيان
التشريع الإسلامي في الجوانب الغامضة والتي تتوقف على البحث والاستدلال وذلك
بالوسائل المتيسرة للفقيه والتي تعد منها تدوين الرسالة العملية والإجابة عن
الاستفتاءات والمسائل الشرعية حتى يكون الناس على بصيرة في أمور دينهم في جميع
جوانب التشريع.
ثالثاً: دور المرجعية بالنسبة لتنفيذ الأحكام الشرعية
بعد أنْ اتضح مما تقدم أنّ الأحكام الشرعية تارة تكون بديهية الانتساب إلى الدين
وأخرى يكون انتسابها غامضاً ومتوقفا على البحث الاستدلالي، يمكن حينئذ أن نتساءل هل
أنّ التغلب على الغموض والذي تؤمنه بالنسبة لغير المجتهد عملية الإفتاء وعملية
التقليد يحل المشاكل أمام تطبيق الأحكام الشرعية ويكون المكلف بعد ذلك متمكناً من
تطبيق الأحكام الشرعية في جميع مجالات التشريع، أم أنه توجد شروط موضوعية أخرى لابد
من توفرها مضافاً إلى عمليتي الإفتاء والتقليد، والجواب أنّ الأمر يختلف من مسألة
إلى أخرى فبعض المسائل لا يحتاج المكلف لأجل القيام بتطبيقها أكثر من أن يعرف الحكم
الشرعي ومن ثم يقوم بتنفيذه،
بيد أنّ البعض الآخر لا يكفي فيه هذا المقدار، ويتوقف مضافاً لوضوح الحكم على وجود
جهة مشرفة تقوم بمتابعة تطبيق الأحكام الشرعية والإشراف على تنفيذها، وهذا الأمر
يحتاج إلى شيء من التوضيح، ويمكن القول في مقام التوضيح بأن الأحكام الشرعية بلحاظ
طبيعة الأفعال المرتبطة بها تنقسم إلى قسمين:
الأول: الأحكام غير المتوقفة على وجود سلطة تشرف على عملية تنفيذها، وذلك لأن
الأعمال المتعلقة بها لا تحتاج إلى ذلك بشكل مباشر مثل إقامة الصلاة والتصدق على
الفقراء[6]، ولأنّ تطبيقها بعد التعرف عليها وبـدون الرجـوع مباشرة فيها إلى جهة
مشرفة لا يؤدي إلى محذور، وهذه الأحكام لا يحتاج المكلف فيها إلى أكثر من صدور
الفتوى من الفقيـه وأن يقـوم هـو بعمليـة التقليـد، وهـذا القسم من الأحكـام يمكـن
أنْ نسميـه بـ (الأحكام غير الولائية) أي غير المتوقفة على وجود جهة ولائية تشرف
على تنفيذها.
الثاني: الأحكام التي لا يمكن أنْ تطبق إلا بالرجوع إلى سلطة تملك حق متابعة
تنفيذها، وتمارس سلطتها لأجل إقامتها، مثل أحكام القضاء، والأحكام الاقتصادية
العامة والأحكام المتعلقة بالأوضاع السياسية والاجتماعية العامة، والسبب في حاجة
مثل هذه الأحكام إلى السلطة أنْ تطبيقها بدون الرجوع إلى السلطة المسئولة عن عملية
التنفيذ يؤدي إلى الفوضى واختلال النظام، ومن الأمثلة التي توضح هذا الأمر أنه لو
أعطي حق إقامة الحد على السارق أو القاتل مثلاً لكل أحد من الناس فسيؤدي ذلك إلى
الفوضى والفساد، ومن هنا فلا يمكن أنْ تُقام هذه الحدود على وجهها الصحيح إلا بوجود
سلطة قضائية تقيمها، وإذا لم يوجد مثل تلك السلطة فليس من حل حينئذ إلا تعطيل
القيام بذلك الحكم لأنه سينتهي إلى اختلال النظام، وهكذا الحال بالنسبة لكثير من
الموارد كما في قضايا المسلمين الكبرى والتي تتطلب وجود جهة تشرف عليها وإلا فلو
تركت لكل أحد سيؤول الأمر إلى المفاسد، وهذا القسم من الأحكام يمكن أن نسميه بـ
(الأحكام الولائية) لأنها تتوقف على الولاية والسلطة.
ولا فرق في هذا القسم من الأحكام بين أنْ تكون واضحة أو غير واضحة، فهي على كل حال
تتوقف على السلطة، ولذا يقول المحقق الكبير الوحيد البهبهاني قدس سره:
وأما حاكم الشرع، فقد أشرنا إلى أشغاله ومناصبه، وهي مما ينتظم به أمر المعاد
والمعاش للعباد، والظاهر أنّ حكمه مثل حكم القاضي ماض على العباد مجتهدين كانوا أم
مقلدين، له أو لغيره، أم لا يكونوا قلدوا أحداً، لاشتراك العلـة، وهي كـونـه
منصـوباً مـن المعصـوم عليهالسلام، ولأن حصول النظام لا يكون إلا بذلك.[7]
ويقول الإمام الخميني قدسسره:ينفـذ حكم ولى الأمـر في حق الجميع حتى على
المجتهدين الأخر.[8]
ويقول الإمام الخامنئي دام ظله:رأي ولى أمر المسلمين هو المتبع في المسائل المتعلقة
بإدارة البلد الإسلامي، وبالقضايا العامة للمسلمين، وكل مكـلف يمكنـه إتباع مرجـع
تقليـده في المسائـل الفـرديـة المحضة.[9]
وبما تقدم يتضح دور المرجعية الدينية في بُعد تطبيق الأحكام الشرعية، حيث تقوم
بالإشراف على تطبيق الأحكام، وممارسة
الولاية من أجل إقامتها، وهذا هو ما يعبر عنـه بالولاية وهو الذي يناط بمن يتصدى
لمسؤولية ولاية الفقيه.
وقد اتضح مما تقدم أنّ الأحكام التي ترتبط بشكل مباشر مع ولاية الفقيه هي خصوص
الأحكام الولائية.
العلاقة بين الوظائف المذكورة للمرجعية اتضح مما تقدم أنّ للمرجعية الدينية ثلاث
وظائف أساسية:
الأولى: الإشراف العقائدي والفكري.
الثانية: بيان التشريع الإسلامي.
الثالثة: الإشراف على تطبيق الأحكام الشرعية وممارسة دور السلطة لأجل إقامتها.
والوظيفة الأولى منوطة بكل الفقهاء بلا استثناء وهي تتطلب متابعة دائمة للأوضاع
الثقافية والفكرية التي تعيشها الأمة، ولا يتوقف القيام بهذه الأدوار على أنْ يتصدى
الفقيه لمرجعية التقليد ولا على ممارسة عملية الإفتاء بين الناس على المستوى
التشريعي كما لا يتوقف ذلك أيضاً على أنْ يتصدى الفقيه لشئون الولاية، فجميع
الفقهاء وظيفتهم التصدي لجميع مظاهر
الأطروحات المنحرفة، كما أنّ عليهم طرح الإسلام المحمدي الأصيل في جميع شئونه
وقضاياه، وبهذا يتضح أنّ جميع الفقهاء الواجدين للشرائط يمتلكون صفة المرجعية في
المسائل العقائدية والفكرية، وأما الجانب الثاني فيتصدى له الفقيه من خلال عملية
الإفتاء إذا تقلد منصب مرجعية التقليد، فمرجع التقليد وظيفته عبارة عن بيان الأحكام
الشرعية للمكلفين بسبب الغموض الذي يحيط بها، وقد بحث الفقهاء مفصلاً في شروط تلك
المرجعية كما سيأتي التعرض لذلك إنشاء الله تعالى.
وأما الشق الثالث وهو عبارة عن دور ممارسة السلطة لأجل إقامة الأحكام الشرعية
والإشراف على تطبيقها، فهو وظيفة الولي الفقيه والذي يتصدى لشئون الولاية.وبما تقدم
يتضح أنه لا يوجد تداخل بين الوظائف الثلاث سواء قلنا بوحدة مرجعية الولاية ومرجعية
التقليد أو قلنا بالفصل بينهما، فإن الولي الفقيه نفسه لو كان هو مرجع التقليد
أيضاً فالجهات التي يتصدى لها بصفته مرجعاً للتقليد تختلف عن الجهات التي يتصدى لها
من جهة كونه الولي الفقيه، فهو من جهة كونه مرجع تقليد يتصدى فقط لعملية الإفتاء
التي يصفها عدة من المحققين كما تقدم بأنها عملية نيابة من المجتهد عن غير المجتهد
بسبب عجزه عن التخصص والاستنباط، وأما من جهة كونه الولي الفقيه فيتصدى إلى ممارسة
سلطته من أجل إقامة الأحكام التي تتوقف إقامتها على وجود السلطة وهذا الدور من
وظيفته القيام به ولو كان الحكم واضحاً، ومن هنا يفرق الفقهاء بين مصطلح (الحكم)
ومصطلح (الفتوى) فالفتوى هي عبارة عن بيان الفقيه لما استنبطه من الأدلة، وأما
الحكم فهو عبارة عن ممارسة الفقيه لصلاحياته بأن يقوم بإعمال ولايته لأجل إقامة
الحكم الشرعي، والقسم الأول وهو الفتوى تتعلق فقط بالمقلدين، وأما القسم الثاني،
فلم يخصصه الفقهاء بالمقلدين كما تقدم، بل يشمل سائر المكلفين، لأنّ الرجوع فيه من
جهة الولاية وليس التقليد.
وقد تبين مما تقدم أنّ المرجعية التي تثبت للولي الفقيه من جهة أنه ولي الفقيه هي
الأحكام الولائية والتي تتوقف على السلطة بشكل مباشر، وأما الأحكام غير الولائية
فإنما يُرجع فيها للفقيه من جهة التقليد وليس من جهة الولاية.