المبحث الثالث: حدود ولاية الفقيه
اتفق الفقهاء على أصل ثبوت الولاية لأجل تطبيق الشريعة الإسلامية في زمان الغيبة
غير أنهم اختلفوا في حدود تلك الولاية
على قولين:
الأول: ثبوت الولاية العامة للفقيه التي تشمل جميع الأحكام الولائية، ومن أقدم
النصوص التي تؤكد هذا المعنى عبارة الشيخ
الجليل أبي يعلى حمزة بن عبد العزيز الديلمي قدس سره المعروف بسلاّر والمتوفى عام
(448 هـ) حيث قال في كتابه المراسم:
فقد فوضوا (الأئمة) عليهم السلام إلى الفقهاء إقامة الحدود والأحكام بين الناس، بعد
أن لا يتعدوا واجباً، ولا يتجاوزا حداً وأمروا
عامة الشيعة بمعاونة الفقهاء على ذلك ما استقاموا على الطريقة.[10]
ونسبـه الفاضـل الآبي قدسسره وغـيره أيضاً إلى كـل مـن الشيخ المفيـد المتوفى
سنـة (413 هـ) وشيخ الطائفة الطوسي المتوفى
سنة (460 هـ) (قدس سرهما)[11]، وإلى هذا القول ذهب ابن الفقيه المحقق محمد بن إدريس
الحلي قدس سره[12] المتوفى
سنـة (598 هـ)، والعلامة الحلي قدس سره[13] المتوفى سنة (726 هـ)، والشهيد الأول
الشيخ محمد بن مكي العاملي[14] الذي
استشهد سنة (786 هـ)، والمحقق الفقيه أحمد بن فهد الحلي قدس سره[15] المتوفى سنة
(841هـ)، والشهيـد الثاني الشيخ زين
الدين العاملي قدس سره[16] الذي استشهد سنة (965 هـ) والمحقق الثاني الشيخ علي
الكركي العاملي قدس سره[17] المتوفى
سنة (940 هـ)، والمحقق المقدس الشيخ أحمد الأردبيلي قدس سره[18] المتوفى سنة (993
هـ)، والفقيه الشيخ محمد باقر
السبزواري قدس سره[19] المتوفى سنة (1090 هـ)، والفقيه المحدث الشيخ يوسف
البحرانيقدس سره[20] المتوفى سنة
(1186 هـ)، والفقيه المحقق الشيخ أحمد النراقي قدس سره[21] المتوفى سنة (1245
هـ)، والمحقق الشيخ محمد صالح
المازندراني قدس سره[22] المتوفى سنة (1081هـ)، والفقيه المحقق الشيخ الميرزا
محمد حسين النائيني قدس سره[23]
المتوفى سنة (1355هـ الموافق لـ 1936م) ومن ثم وافقهم على ذلك عدد كبير من الفقهاء
ولاسيما الفقهاء المعاصرين ومن
أبرزهم مؤسس الثورة الإسلامية في إيـران الإمام الخميني رضوان الله تعالى عليه.[24]
الثاني: ثبوت الولاية الخاصة، وإليه ذهب بعض الفقهاء منهم المحقق الحلي قدس سره
المتوفى سنة (676 هـ) في كتابه شرايع
الإسلام[25]، ووافقه تلميذه الفاضل الحسن بن أبي طالب اليوسفي الآبي قدس سره[26]
المتوفى بعد سنة (672 هـ)، والذي
تردد فيما عدا بعض موارد الخاصة حسب التتبع قليل جداً، ولم يعثر على متردد أو ناف
من المتقدمين[27]، وإنما تردد في الحكم
حسب المصادر المتوفرة جماعة من المتأخرين ومتأخريهم، والكثير أثبت الولاية في موارد
خاصة كالقضاء مثلاً لكنهم لم
يتعرضوا في كتبهم لغير ذلك مما يصعب معه دعوى الإجماع في المسألة، وفى عصرنا الحاضر
يوجد بعض الفقهاء أثبت الولاية
الخاصة في نطاق ما يعبر عنه بالأمور الحسبية.
ولنتعرف على نظرية الولاية الخاصة التي هي في دائرة الأمور الحسبية التي تشكل القدر
المتفق عليه مما تشمله ولاية الفقيه عند
فقهاء الشيعة الإمامية المعاصرين[28] بل جميع الفقهاء حسب ما ينقله المحدث البحراني
قدس سره في الحدائق[29] نحتاج أنْ
نتعرف على معني الأمور الحسبية ويذكر السيد المحقق الخوئي قدس سره كما في تقرير
أبحاثه أنّ الأمور الحسبية هي عبارة عن
الأمور التي لابد منها أو قل الأمور التي علمنا فيها باشتغال الذمة ولا يمكن أو لا
يصح تركها بحال من الأحوال.[30]
وما تقدم من تعريف الأمور الحسبية يشكل الضابطة الكلية لتشخيص مواردها، ويدخل في
نطاقها الأمور التالية:
1ـ شئون القصر، وذلك لأنه لا يمكن تركها بحال من الأحوال فإذا لم يكـن للقصر ولى
بالفعـل، فوليـه حسب ما يـذهب إليه جميع
الفقهاء هو الفقيه الجامع للشرائط.
2ـ الأوقاف من مساجد وممرات وغيرها للسبب المذكور.
3ـ الحقوق الشرعية التي يلزم استخراجها من المال كالخمس والزكاة لنفس السبب.
4ـ الأموال العامة بناءاً على أنّ الدولة التي لا يحكمها الإمام المعصوم عليه
السلام ولا الفقيه الجامع للشرائط لا تملك ولا تنفذ
تصرفاتها شرعاً كما هو رأي جماعة من الفقهاء منهم السيد المحقق الخوئي قدس سره،
فهذه الأمور تدخل في نطاق ولاية الفقيه
ولذا يذهب مثل السيد المحقق الخوئي قدس سره إلى أنه لا يصح تملك الرواتب إلا
بإجازة الفقيه الجامع للشرائط لأنّ هذه الموارد
تدخل في حدود ولايته، ولكن بعض الفقهاء منهم الإمام الخميني قدس سره يذهبون إلى
أنّ الدولة التي لا يحكمها الإمام المعصوم
أو الفقيه الجامع للشرائط تملك حكماً أو قل تكون بحكم المالك، وإلا فإن المالكية
الحقيقية غير متحققة بالنسبة لها أيضاً في نظر
الجميع، وعلى النظرية الثانية فإن تملك الأموال التي تؤخذ من الدولة لا يحتاج إلى
إذن الفقيه.
5ـ جهاد الكفار والتصدي لمؤامراتهم، وقد ذكر السيد المحقق الخوئي قدس سره أنه
يدخل في نطاق الأمور الحسبية، يقول قدس
سره:
إنّ الجهاد مع الكفار من أحد أركان الدين الإسلامي، وقد تقوى الإسلام وانتشـر أمره
في العالم بالجهاد مع الدعوة إلى التوحيد في
ظل راية النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، ومن هنا فقد اهتم القرآن به في
نصوصه التشريعية، حيث قد ورد في الآيات
الكثيرة وجوب القتال والجهاد على المسلمين مع الكفار المشركين حتى يُسلموا أو
يقتلوا، ومع أهل الكتاب حتى يسلموا أو يعطوا
الجزية عن يد وهم صاغرون، ومن الطبيعي أنّ تخصيص هذا الحكم بزمان موقّت وهو زمان
الحضور لا ينسجم مع اهتمام
القرآن وأمره به من دون توقيت في ضمن نصوصه الكثيرة.[31]
ويقول أيضاً: … وقد تحصل من ذلك أنّ الظاهر عدم وجوب سقـوط الجهاد في عصر الغيبة
وثبوته في كافة الأعصار لدى توفر
شرائطه، وهو في زمن الغيبة منوط بتشخيص المسلمين من ذوي الخبرة في الموضوع أنّ
الجهاد معهم مصلحة للإسلام على
أساس أنّ لديهم قوة كافية من حيث العدد والعدة لدحرهم بشكل لا يُحتمل عادة أنْ
يخسروا في المعركة، فإذا توفرت هذه الشرائط
عندهم وجب عليهم الجهاد والمقاتلة معهم.[32]
ثم قال: أنا لو قلنا بمشروعية أصل الجهاد في عصر الغيبة، فهل يعتبر فيها إذن الفقيه
الجامع للشرائط أو لا ؟ يظهر من صاحب
الجواهر قدس سره اعتباره بدعوى عموم ولايته بمثل ذلك في زمن الغيبة، وهذا الكلام
غير بعيد بالتقريب الآتي، وهو أنّ على
الفقيه أنْ يُشاور في هذا الأمر المهم أهل الخبرة والبصيرة من المسلمين حتى يطمئن
بأنّ لدى المسلمين من العدد والعدة ما يكفي
للغلبة على الكفار الحربيين، وبما أنّ عملية هذا الأمر المهم الخارج بحاجة إلى قائد
وآمر يرى المسلمون نفوذ أمره، فلا محالة
يتعين ذلك في الفقيه الجامع للشرائط، فإنه يتصدى لتنفيذ هذا الأمر من باب الحسبة
على أساس أنّ تصدي غيره لذلك يوجب
الهرج والمرج، ويؤدي إلى عدم تنفيذه بشكل مطلوب وكامل.[33]
6ـ الدولة الإسلامية إذا قامت، فإن الفقهاء وإنْ اختلفوا في ثبوت الولاية لأجل
إقامة الدولة الإسلامية، ولكنهم لا يختلفون في ثبوت
الولاية للفقيه على الدولة الإسلامية بعد قيامها، لأنّ الدولة الإسلامية تندرج
حينئذ في نطاق الأمور الحسبية، إذ لا خلاف في أنها
لو قامت فالمحافظة عليها واجبة[34]، وأنها لا يمكن أن تترك بحال من الأحوال، ولذا
صرّح عدة من الفقهاء الذين يذهبون إلى
القول بالولاية في خصوص الأمور الحسبية بوجوب الالتفاف حول قيادة الإمام الخميني
قدس سره، وكان ذلك انطلاقاً من موقفهم
الفقهي تجاه الموضوع، وممن دعا إلى ذلك في بداية قيام الثورة الإسلامية الفقيه
المحقق السيد الخوئي قدس سره وكذلك المحقق
الشيخ محمد على الأراكي قدس سره، وعدد من الفقهاء المعاصرين (حفظهم الله تعالى)
حيث يصرحون من حين لآخر بوجوب
حفظ الجمهورية الإسلامية وحرمة إضعافها.
يقول الفقيه المحقق أستاذ الفقهاء والمجتهدين الميرزا الشيخ محمد حسين النائيني
قدس سره المتوفى سنة (1355هـ الموافق لـ
1936م) في كتابه تنبيه الأمة وتنزيه الملة:
من جملـة الثوابت الموجـوده في مذهبنا نحن الإمامية هو أنّ عصر الغيبة على مغيبه
السلام هناك ولايات تُسمي بالوظائف
الحسبية لا يرضى الشارع المقدس بإهمالها، حيث نعتقد أنّ نيابة فقهاء عصر الغيبة قدر
متيقن فيها وثابت بالضرورة، حتى مع
عدم ثبوت النيابة العامة لهم في جميع المناصب، إذ أنّ الشارع المقدس لا يرضى
باختلال النظام وذهاب بيضة الإسلام، ومن
جهة أخرى نجد أنّ اهتمام الشارع بحفظ البلدان الإسلامية وتنظيمها أكثر من اهتمامه
بسائر الأمور الحسبية، ومن هنا يثبت لدينا
بما لاشك فيه نيابة الفقهاء العموميين[35] في عصر الغيبـة في ما يتعلق بإقامة
الوظائف المذكورة.[36]
ويقول الفقيه المحقق الميرزا الشيخ جواد التبريزي دام ظله:
ذهب بعض فقهائنا إلى أنّ الفقيه العادل الجامع للشرائط نائب من قبل الأئمة عليهم
السلام في جميع ما للنيابة فيه من مدخل،
والذي نقول به هو أنّ الولاية على الأمور الحسبية بنطاقها الواسع، وهو كل ما عُلم
أنّ الشارع يطلبه ولو لم يعين له مكلفاً خاصاً،
ومنها بل أهمها إدارة نظام البلاد وتهيئة المعدات والاستعدادات للدفاع عنها، فإنها
ثابتة للفقيه الجامع للشرائط.[37]
ويقول أيضاً: الولايـة الثابتـة للنبي صلى الله عليـه وآلـه والأئمـة عليهم السلام
هي ولايتهم على الأمر والنهي فيما يرجع إلى
أموال الناس وأعراضهم، لا أنّ لهم ولاية في التصرف مباشرة في أموال الناس وأعراضهم،
وهذه الولاية ثابتة للفقيه الجامع
للشرائط للأمر من باب الحسبة، أعنى الأمور التي لابد من تحققها في الخارج ويتوقف
عليها نظام معيشة العباد وحفظ الأمن
للبلاد، وتمكين المؤمنين لقطع أيادي الأعداء، ودفع المتجاوزين من أراضيهم.[38]
وقـد سئل المحقـق الميرزا جواد التبريزي (حفظه الله تعالى) السؤال التالي:
ما الفرق إذن بين مختاركم ومختار السيد الخوئي قدس سره مادام المناط هو علمنا
بأنّ الشارع يطلبه ؟
فأجاب: لا فرق، ولكن السيد قدس سره لم يُصرح بأنّ نطاقها الواسع من الأمور
الحسبية.[39]
وبهذا يتضح أنّ الاختلاف في ولاية الفقيه سعة وضيقاً ليس له أثر عملي بالنسبة لثبوت
ولاية الفقيه على الحكومة الإسلامية بعد
قيامها، وإنما يترتب الأثر العملي على نتيجة البحث بالنسبة لثبوت الولاية لإقامة
الحكومة الإسلامية، وعليه فولاية الفقيه الفعلية
على الدولة الإسلامية محل اتفاق بين الفقهاء سواء القائلين منهم بالولاية العامة أو
الولاية الخاصة في نطاق القضايا الحسبية.