مركز الصدرين للدراسات السياسية || الكتب السياسية

 


المبحث الرابع: وحدة مرجعية التقليد ومرجعية الولاية

بعد إنْ اتضحت الأدوار المتعددة التي تقوم بأدائها المرجعية الدينية يقع الكلام في قضية لم يبحثها الفقهاء السابقون، ولازال
التعرض إليها نادراً بين الفقهاء المعاصرين، لكن قد يستنبط من مجموع الفتاوى الموجودة الرسائل العملية نظرية معينة كما
سيتضح أثناء الحديث إنشاء الله تعالى، وهي هل يجب أن تتوحد مرجعية الولاية ومرجعية التقليد في مرجعية واحدة، أم يمكن
التفكيك بينهما، وليس المقصود من البحث هنا هو إمكان الجمع بينهما، فهذا مما لا خلاف فيه، وإنما البحث في إمكان الفصل،
وفى ثبوت التلازم أو عدمه، وقبل الإجابة على جواب المسألة لابد من التنبيه على خطأ وقع فيه الكثيرون حول موضوع وحدة
القيادة والمرجعية يرتبط بفهـم دستـور الجمهورية الإسلاميـة في المادة (107) قبل التعديل حيث تنص على أنه يشتـرط في الولي
الفقيه أنْ يكـون من مرجعاً مـن مراجـع التقليد[40]، وفهم البعض منها أنه لابد من توحيد المرجعية والقيادة بمعنى أنه لابد أنْ
يكون الولي الفقيه هو المرجع الوحيد للطائفة إلا أنّ المقصود من المادة (107) لا علاقة له بهذا الموضوع إطلاقاً، وإنما تشترط
المادة المذكورة في الولي الفقيه أنْ يكون من بين مراجع التقليد، وأنه لا يكفي كونه فقيهاً وليس المقصـود انحصـار مرجعيـة
التقليـد بـه، وصـرح الإمام الخميني قدس سره في رسالته التي بعثها للشيخ المشكيني (حفظه الله تعالى) رئيس مجلس الخبراء
إلى أنه منذ البداية لم يكن مقنعاً بتلك المادة، وأنه كان يري كفاية أن يكون الولي فقيهاً، وأنه لا يشترط أن يكون من ضمن مراجع
التقليد، ولا علاقة لهذا الأمر بتوحيد الولاية ومرجعية التقليد في شخص واحد، وإذا اتضح ما تقدم لا بأس أنْ نشرع في بيان
الجواب على المسألة المتقدمة، وقد اتضح أنه لا يوجد تداخل بين مرجعية التقليد ومرجعية الولاية، بل وظائف كل منهما منفصلة
عن الأخرى، فالفقيه من جهة كونه ولياً يمارس عملية إعمال السلطة والإشراف على تطبيق الأحكام، ولهذا فهو من جهة كونه
ولياً يحكم ولا يفتي، وبصفة كونه مرجعاً للتقليد يمارس عملية الإفتاء وبيان التشريع بسبب عجز المكلف عن الاستنباط، ولا
يمارس أي دور ولائي ويؤكد ذلك أنّ أدلة التقليد في الفقه مختلفة تماماً عن أدلة ولاية الفقيه، فلم يُستدل بدليل واحد من أدلة التقليد
لإثبات ولاية الفقيه ولا العكس، بل نجد الكثير من الكتب الفقهية تتعرض لأبحاث ولاية الفقيه في غير باب التقليد وفصوله،
فتجدهم يبحثون عنها تارة في كتاب الخمس وأخرى في المكاسب وثالثة في صلاة الجمعة ورابعة في أبحاث الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر أو أبحاث الجهاد وغير ذلك، كما قد تبحث من خلال باب التقليد من باب الاستطراد، ومع هذا فقد يظهر من
خلال مراجعة بحث الأبحاث الحديثة أو من خلال السؤال من بعض الفقهاء المعاصرين الاختلاف في المسألة على قولين:
الأول: القول بوحدة الولاية ومرجعية التقليد، وممن ذهب إلى هذا القول من الفقهاء المعاصرين المحقق السيد كاظم الحائري (
حفظه الله تعالى)، ونقله عن بعض العلماء المعاصرين[41]، وإلى هذا ذهب عدة ممن رجحوا تقليد الإمام الخامنئي (دام ظله) كما
صرحوا في عباراتهم بهذا الشأن.[42]
الثاني: القول بالفصل وعدم التلازم بين المرجعيتين، وإن كان لا مانع من الجمع بينهما، وهذا القول ظاهر في كلام الإمام
الخميني قدس سره لاسيما في رسالته الأخيرة التي بعث بها لسماحة الشيخ المشكيني والتي أكد فيها أنه كان يرى من البداية عدم
المقتضى لأن يكون الولي الفقيه مرجعاً للتقليد وبالأولوية حينئذ عـدم لزوم توحيـد المرجعيـة والقيـادة في شخص واحـد[43]،
وذهب إلى هذا القول أيضاً الإمام الخامنئي (دام ظله).[44]
ولا بأس بعرض أدلة كلا الطرفين في المسألة:
أولاً: أدلة القول بعدم الفصل:
عمدة ما قـد يستدل بـه لإثبات ضرورة عدم الفصل هـو ما يلي:
الدليـل الأول: مـا ذكـره المحقـق السيـد كـاظـم الحـائـري (حفظه الله تعالى) بأن الفصل بين القيادة ومرجعية التقليـد في كـل زمـان
يـؤدي إلى إضعاف النظـام الإسـلامي وربمـا انهيـاره.[45]
وبعبارة أخرى: إسناد المرجعية إلى غير الولي الفقيه تضعيف عملي لولايته، والسبب هو أنْ المتدينين جبلوا على احترام
وتقديس المرجع الذي يقلدونه، وعدم تقديس غير المرجع بمقدار احترام وتقديس المرجع الذي يأخذون منه الحلال والحرام،
فالولي إنْ لم يكن مرجعاً في الحلال والحرام فإنه لا يكتسب تلك القدسية في النفوس، وبالتالي سينتهي الأمر إلى ضعف نفوذ
كلمته في الأمة.[46]
فإذا تحقق الضرر بسبب الفصل فلا محالة لابد من توحيد كلا الوظيفتين في مرجعية واحدة، لأنّ مثل هذا الضرر نقطع بعدم
رضا الشارع الأقـدس بوقوعه، ولأجل علاج المشكلة يمكن أنْ تُطرح عدة فرضيات:
الأولى: إناطة أمر الحكومة ومرجعية التقليد بفقيه يتمتع بالأعلمية بالفقه الإسلامي، ولكنه لا يملك القدرة الكافية لمعالجة الحوادث
الواقعة على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي.
الثانية: إناطة أمر الحكومة ومرجعية التقليد بفقيه يمتع بالأهلية الكافية في موضوع الإدارة وقيادة النظام الاجتماعي للأمة
الإسلامية، وقد يكون متقدما على غيره في هذا المجال، لكنه لا يكون متقدما على غيره في الفقه الإسلامي، بل قد يكون من هو
أعلم منه في هذا المجال.
الثالثة: إناطة كلا الأمرين بمن يتمتع بالأهلية الكافية في مجال الإدارة ويكـون في نفس الوقت هو الأعلم في الفقه الإسلامي أو لا
يقل عن غيره على الأقل.
والفرضية الثالثة إنْ كانت ممكنة فلا إشكال في أنها تكون متعينة حينئذ، ولا مجال مع إمكان ذلك أن يُرجع الأمر إلى من لا يكون
متقدماً على غيره في الفقه أو في مجال الإدارة، وأما إذا لم يكن هذا الأمر ممكناً، فقد ذكر المحقق السيد الحائري (دام ظله)، بأن
العقل يقتضي اختيار الفرضية الثانية، لأنّ حفظ النظام ووحدة المجتمع الإسلامي أهم من إحراز الدقة والإطلاع الأوسع في الفقه
بالنسبة للمسائل الفرعية، ولا يمكن التضحية بالنظام الإسلامي أو بوضع الأمة السياسي والاجتماعي لمجرد الإرجاع إلى من هو
أدق نظراً وأكثر إطلاعاً في المسائل الفرعية.[47]
وإذا اتضح ما أفاده المحقق السيد كاظم الحائري (حفظه الله تعالى) يمكن أن نقول حينئذ في مقام مناقشته بأنه لو سلمنا بما ذكره
من أنّ الفصل يؤدي دائماً إلى إضعاف دور الولي الفقيه أو النظام الإسلامي، فكلامه حينئذ تام ولا غبار عليه، ولكنه غير تام على
إطلاقه، وهذا ما يحتاج إلى شيء من التوضيح فالأثر السلبي للفصل بين المرجعيتين على تقدير قبوله لا يخلو من أحد الأمور
التالية:
أحدها: أنْ يكون بسبب التـداخل في القيام بدور الإشراف في القضايا الولائية بين الولي الفقيه ومرجع التقليد مما قد يتسبب في
وجود فوضى واضطراب ينتهي إلى إضعاف النظام الإسلامي أو إضعاف دور الولي الفقيه في الأمة.
ثانيها: أنْ يكون بسبب التعارض الذي قد يقع بين حكم الولي الفقيه وفتوى مرجع التقليد الذي قد يتسبب أيضاً في إيجاد حالة من
إضعاف دور الولي الفقيه أو النظام الإسلامي.
ثالثها: أنْ يكون بسبب عدم تحقق الاحترام بالقدر الكافي بسبب عدم التصدي لمرجعية التقليد، وبالتالي فكلمته لا تكون نافذة
بالمستوي المطلوب من التفاعل بين الأمة والولي الفقيه.
فإذا كان السبب المؤدي إلى الإضعاف هو الفرضية الأولى، فإنما يؤدي ذلك إلى الإضعاف فيما لو حصل التعارض بالفعل، أما لو
فرضنا أنْ الأوضاع على العكس من ذلك وأنّ الفقهاء المتصدين يدركون أهمية دور الولي الفقيه وعدم مزاحمته، أو أنه لا يوجد
القدر المعتد به من الاختلاف، فإنّ الإضعاف لا تحقق له، بل يمكن القول بأنّ عملية التوحيد بحسب الأوضاع الاجتماعية متعذرة،
بل مستحيلة، والآثار السلبية للعمل من أجل الوصول إلى هذه النتيجة قد تكون أخطر بكثير من واقع الفصل الذي تعيشه الأمة
نظراً لما قد تؤدي إليه من اختلافات واضطرابات تكون على حساب القضايا الكبرى، خصوصاً والأمة غير مهيأة بالفعل لذلك لا
من الناحية الفكرية والثقافية ولا من الناحية الاجتماعية.
وإذا كان السبب هو الفرضية الثانية، فيمكن الجواب عن ذلك بما تقدم من أنْ نطاق دور القيادة والمرجعية الولائية هو الأحكام
الولائية، وأنْ أمر الولي الفقيه في هذا البعد نافذ حتى على الفقهاء الآخرين، وأنْ نطاق مرجعية التقليد خصوص الأحكام غير
المتوقفة على السلطة والتي عبرنا عنها بـ (الأحكام غير الولائية)، ومن الواضح جداً أنْ التقليد في قطع يد السارق مثلاً غير
ممكن إلا إذا كان القاضي غير مجتهد[48]، وإلا فإن قطع اليد يجب أنْ يكون من خلال الرجوع إلى السلطة التي تملك حق هذا
الإجراء لا من باب التقليد، ولو تعارض حكم القاضي مع فتوى المرجع فلا إشكال حينئذ في تقدم حكم القاضي إذا كان له صلاحية
التصدي للقضاء.
وإذا كان السبب هي الفرضيـة الثالثـة وهي التي اعتمد عليها المحقق السيد الحائري (حفظه الله تعالى) لإثبات أنْ الفصل يؤدي
إلى التضعيف، فيمكن الجواب بأنّ التوحيد وإنْ كان يعطي قوة أكبر للولي الفقيه بلا شك، ولكن العمل على إيجاد ذلك يؤدي إلى
نقض هذا الغرض، ويخلق اختلافات ومشاكل بين الاتجاهات وعموم الناس مما يؤدي إلى زيادة الإضعاف والتفكك، وحينئذ
ستضعف كلمة الولي الفقيه.
ولكي نتخلص من مشكلـة إضعاف النظام الإسـلامي أو سلطة الولي الفقيه فالحل الوحيد هو تربية الأمة وتثقيفها نحو دور الولي
الفقيه وأهمية الارتباط به، وكلما تقدم وعي الأمة كلما كانت النتائج أقرب إلى الصواب، وأما مع تخلف الأوضاع الثقافية فالتغلب
على المشكلة مستحيل، بخلاف ما لو تقدمت حالة الوعي، فستحل المشكلة مع الفصل بين مرجعية التقليد ومرجعية الولاية ومع
توحيدهما أيضاً.
ولقد أجاد المحقق السيد الحائري (دام ظله) حيث قال: وتحقيق الحال في المقام: أنه متي ما وقع التزاحم حقاً بين تقليد الأعلم
ومصلحة قيادة الأمة تقدم الثاني على الأول بلا إشكال للقطع بأهميته، ولكن قد تتفق إمكانية حل التزاحم كأنْ نعمل مثلاً على
توعية الأمة على مقاييس التقليد ومقاييس القيادة وتوضيح الفرق بينهما، وإمكانية إنفكاك أحدهما عن الآخر، بحيث تصبح الأمة
متقبلة للتفكيك، ولا يوجب التفكيك شل القيادة عن النجاح.[49]
الدليـل الثاني: أنّ فتـاوى الولي الفقيـه لـيس بالضـرورة أنْ تتطابق مع فتاوى مرجع التقليد، وبالتالي فقد يُصدر الولي الفقيه
أحكاماً طبقاً لفتاواه تتعارض مع فتاوى مرجع التقليد، فالأحكام الولائية ليست منفصلة عن المباني الفقهية، فإذا تحقق التعارض
فلا محالة لابد من انتفاء إحدى المرجعيتين.[50]
وهذا الدليل في غاية الضعف، ويمكن أنْ نسجل عليه الملاحظتين التاليتين:
الأولى: أنه لا يوجد تداخل بين مرجعية التقليد ومرجعية الولاية، فنطاق دور المرجع من باب التقليد هو الإحكام غير الولائية كما
أوضحنا ذلك فيما تقدم، وأما الأحكام الولائية فلا يمكن أنْ نتصور التقليد فيها، لأنه لا يمكن أنْ تطبق من باب التقليد، حيث أنْ
تطبيقها بدون الرجوع إلى الجهة الولائية يؤدي إلى الفوضى واختلال النظام، ولهذا بني الفقهاء سريان حكم الولي الفقيه حتى
على المجتهدين الآخرين[51]، والولي الفقيه إنما يرجع إليه في الأحكام الولائية، وسبب الرجوع إليه في الأحكام الولائية هو
توقف إقامة تلك الأحكام على الرجوع إليه، وإلا فبدون الجهة الولائية فلا يمكن تطبيق الحكم الولائي حتى مع وجود فتوى
المرجع، وقد اتضح ذلك من خلال مثال قطع السارق.
الثاني: أنّ هذا الإشكال يختص بمورد واحد وهو مورد التعارض، ولكن في صورة عـدم التعـارض فلا يـرد مثـل هـذا الإشكـال،
بل يبقى دور كل منهما على قوته بلا مزاحمة.[52]
دليل القول بجواز الفصل بين الولاية ومرجعية التقليد
يمكن أنْ يستدل لإثبات صحة الفصل بين مرجعية الولاية ومرجعية التقليد هو أنّ مرجعية التقليد تختلف عن مرجعية الولاية من
جهة الوظيفة المناطة بكل من المرجعيتين، وتختلف أيضاً في بعض الشروط، ففي مرجعية التقليد وإنْ كان قد يقال بأنه يشترط
فيها شيء من الإطلاع على الواقع والبصيرة بالأمور، لكن لا يشترط فيها القدرة التامة في إدارة الشئون السياسية والاجتماعية،
بينما هذا الأمر يعتبر شرط أساسي في الولي الفقيه وهو مقدم على شرط الأعلمية، بخلاف الحال بالنسبة لمرجعية التقليد،
فالأعلمية وسعة الإطلاع الفقهي مقدمة فيها على هذا الشرط[53]، وإن كان شرط الأعلمية في حد ذاته محل خلاف بين الفقهاء.
كما أنّ مرجعيـة التقليـد يمكـن أنْ تتعـدد، ويمكـن للفـرد الواحد أنْ يرجع إلى شخص واحد في التقليد بأنْ يقلد أحد الفقهاء في
بعض أبواب الفقه كالعبادات مثلاً، والبعض في البعض الآخر، بينما الأمر بالنسبة للولي الفقيه ليس كذلك.
ويؤيد ذلك أنّ القيادة لا يمكن أنْ تخضع للمعايير الفردية للمكلف، فإن الاختلاف بحسب المعايير الفردية ينتهي إلى الفوضى
والاختلال وعدم الاجتماع على أمر واحد، بخلاف الحال بالنسبة للتقليد.[54]

السابق || التالي   || الهوامش

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية

مركز الصدرين للدراسات السياسية