المبحث الخامس: أدلة ولاية الفقيه
اتضح مما تقدم أنّ الفقهاء اتفقوا على ثبوت الولاية للفقيه في الأمور الحسبية،
ولكنهم اختلفوا فيما زاد عن ذلك، ولا بأس بعرض
موجز لأدلة الطرفين في المسألة، ويقع الكلام لبيانه في عدة فصول:
الفصل الأول: أدلة القول بعدم الولاية
لم يقل أحد حسب التتبع بنفي الولاية العامة، وإنما ذهب من لا يقول بعدم الولاية
العامة للفقيه بعدم ثبوتها فقط، وحاصل ما
ذكروه أنّ مقتضي الأصل الأولى هو عدم ثبوت ولاية أحد على أحد إلا ما خرج بالدليل
فالولاية منحصرة بالله عز وجل وثبوتها
لغيره يحتاج إلى دليل خاص، كما أنّ سلطنة الناس على أنفسهم ثابتة بسيرة العقلاء
وإمضاء الشارع الأقدس، وحينئذ فما لم يدل
دليل على ثبوت الولاية للفقيه أو غيره في أي مجال من المجالات، فمقتضي القاعدة هو
عدم الولاية.
وإنما يتقوم هذا الاستدلال على تقدير عدم وجود ما يدل على الولاية، فهو تام على
تقدير عدم ثبـوت شيء من الأدلة، أما لو قـام
الدليل فحينئذ ينتفي هذا الاستدلال تلقائياً.[55]
الفصل الثاني: أدلة القول بالولاية في الأمور الحسبية
لإقامة الاستدلال لإثبات الولاية في الأمور الحسبية والتي هي محل تسالم الفقهاء
نحتاج إلى تقديم عدة مقدمات وهي:
الأول: ما تقدم من أنّ الأمور الحسبية هي الأمور الضرورية التي لا يمكن أنْ تترك
بحال من الأحوال.
الثاني: أنه نتيجة لعـدم إمكـان ترك الأمور الحسبية، فهي من الأمور التي نقطع
بكونها من موارد اشتغال الذمة، ولا يتحقق فراغ
الذمة إلا بتحققها.
الثالث: أنّ الأمـور الحسبيـة من القضايا الولائيـة التي يتوقف تطبيقها على وجود
جهة تملك حق الإشراف وصلاحية إصدار
الأحكام، لأنّ تطبيقها بدون وجود تلك الجهة ينتهي إلى الفوضى واختلال النظام، وبذلك
يكون الأداء نقضاً للغرض.
وإذا تمت هذه المقدمات فمن الطبيعي حينئذ أنْ تثبت الولاية في الأمور الحسبية، فإذا
كان تطبيقها أمرٌ لابد منه، والشارع الأقدس
لا يرضى بتركه نتيجة لأهميته، وحيث أنْ تطبيقه بما يؤدي الغرض لا يتحقق إلا بممارسة
دور الولاية في هذا النطاق فلا محالة
لابد من ثبوت الولاية في هذه الأمور.
وهذا الدليل يثبت الولاية في جميع الأمور التي لابد منها ولا يمكن أنْ تترك كالقضاء
وشئون القصر والأوقاف وغير ذلك.[56]
الفصل الثالث: أدلة القول بالولاية العامة
اتضح مما تقدم أنّ كثيراً من الفقهاء المتقدمين وغيرهم قالوا بولاية الفقيه العامة
منهم الشيخ المفيد وشيخ الطائفة الطوسي رضوان
الله تعالى عليهما، ولم تكن طرحت فقط في الأزمنة الحديثة، ولكن مع ذلك اختلف
الفقهاء في أسلوب إثبات ولاية الفقيه العامة،
وقد بحثت في مواضع متعددة في الفقه، فتارة تبحث في أحكام صلاة الجمعة، وأخرى في
كتاب المكاسب عند التعرض لأبحاث
ذات صلة بالولاية في مواردها المتعددة، وثالثة في كتاب الخمس إلى غير ذلك من
الموارد، وقد ذكر لإثباتها عدة أدلـة، وهي
تنقسم إلى أقسام:
القسم الأول: الاستدلال التفصيلي بالنصوص
استند المثبتون إلى عدة من النصوص التي وردت عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله
وسلم وعترته الطاهرة صلوات الله
وسلامه عليهم أجمعين، ولا بأس ببيان روايتين من تلك النصوص كمثال ومن أراد زيادة
الإطلاع فعليه بالمطولات والكتب
المفصلة:
النص الأول: مقبولة عمر بن حنظلة
1ـ مقبـولـة عمر بن حنظلـة قـال: سألت أبا عبـد الله عليه السلام عن رجلين من
أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث
فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة أيحل ذلك ؟ قال عليهالسلام: من تحاكم إليهم
في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت وما
يحكم له فإنما يأخذه سحتاً وإن كان حقاً ثابتاً له، لأنه أخذه بحكم الطاغوت، وقد
أمر الله أن يكفر به، قال الله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ
يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا [57]، قلت: فكيف
يصنعان؟ قال: ينظران إلى من كـان منكم ممن روى حديثنا
ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكما فإني قد جعلته عليكم حاكما،
فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنما
استخف بحكم الله، وعلينا ردّ، والراد علينا الـراد على الله، وهو على حد الشرك
بالله.[58]
وقد اختلف الفقهاء في الاستدلال بهذا النص من جهتين:
الأولى: حجيته واعتباره.
الثانية: دلالته على الولاية العامة.
ولا بأس من الكلام وباختصار في كلا الجهتين من البحث:
أولاً: حجية النص المذكور واعتباره:
وقع الحديث في حجيته أيضاً من ناحيتين:
1ـ في سند الحديث، فهل هو حديث تام من جهة السند أو أنه ضعيف السند، وقـد ذهب عـدة
مـن الفقهاء منهم الإمام الخميني
قدسسره والسيد الشهيد الصدر قدس سره إلى صحة السند، بينما ذهب البعض الآخر منهم
المحقق السيد الخوئي قدس سره إلى
ضعفه[59]، وعمدة الكلام في السند يرتبط بالراوي المباشر للحديث وهو عمر بن حنظلة،
ولم يذكره أحد من المتقدمين بتوثيق أو
جرح حسب المصادر المتوفرة[60]، ومع هذا ذكروا لإثبات وثاقته عدة أمور وأهمها
الاستدلال برواية صفوان بن يحي عنه،
وهو لا يروي إلا عن ثقة وكذا رواية عدة أخرى من أجلة الأصحاب عنه.[61]
وقد ذكروا لإثبات أنّ صفوان بن يحي لا يروي إلا عن ثقة عدة أمور أهمها ما ذكره
الشيخ الطوسي قدس سره في عدة الأصول
أثناء حديثه عن تعارض الحديث المرسل مع الحديث المسند حيث قال:
وإذا كان أحد الراويين مسندا، والآخر مرسلا، نظـر في حال المرسل، فإن كان ممن يعلم
أنه لا يرسل إلا عن ثقة موثوق به، فلا
ترجيح لخبره على خبر غيره، ولأجل ذلك سوت الطائفة بين ما يرويه محمد بن أبي عمير،
وصفوان بن يحي، وأحمد بن محمد
بن أبى نصر، وغيرهم من الثقات الذين عرفوا بأنهم لا يروون ولا يرسلون إلا ممن يوثق
به، وبين ما أسنده غيرهم، ولذلك
عملوا بمرسلهم إذا انفرد عن رواية غيرهم.[62]
فالشيخ الطوسي قدس سره ينقل لنا حسب النص المتقدم أنّ صفوان بن يحي ومحمد بن أبي
عمير وأحمد بن محمد بن أبي نصر
وجماعة آخرين لم يذكر أسماءهم التزموا بأنْ لا يروون إلا عن ثقة يمكن الاعتماد على
نقله، فإذا قبلنا هذا الكلام فلا إشكال حينئذ
في ثبوت وثاقة عمر بن حنظلة، لأنه ممن روى عنه صفوان بن يحي، بيد أنّ مضمون هذه
العبارة لم يتسالم عليه المحققون، وقد
ناقش الاعتماد عليها عدة من الفقهاء منهم المحقق السيد الخوئي قدس سره في مقدمة
كتابه معجم رجال الحديث[63]، وأورد على
ذلك عدة من الإشكالات من أهمها انتقاض هذه القاعدة بثبوت روايتهم عن جماعة من
الضعفاء[64] ولا نريد هنا أنْ ندخل في
تفاصيل البحث إثباتاً ونفياً، فهذا مما لا يتسع به المقام ويجرنا إلى بحث مفصل في
علوم الحديث، وإنما نريد أنْ نعطى فكرة
سريعة عن أجواء النقاش في سند الحديث المتقدم، وهذه بعض تفاصيل البحث، وفى المقام
أمور أخرى نتركها للكتب المطولة.
ومجمل القول في سند مقبولة عمر بن حنظلة هو أنّ اعتبار سندها ليس محل اتفاق بين
المحققين، ففيهم من ذهب إلى صحة السند
واعتباره، وفيهم من ذهب إلى ضعفه.
2ـ في حجية الحديث من جهة اشتهار العمل به بين الأصحاب وقد اعتمد هذا الوجه عدد
كبير من الفقهاء منهم الشهيد الثاني
والمحقق الأردبيلي ومن المعاصرين الإمام الخميني قدس سره[65]، خصوصا وهذه الرواية
تلقاها الأصحاب بالقبول وأطلقوا
عليها اسم (المقبولة).
وهذا الأمر بحاجة إلى شيء من التوضيح، ويمكن القول في توضيحه بأنّ الشهرة التي وقع
الكلام في حجيتها والاعتماد عليها بين
المحققين تطلق على ثلاثة أمور:
الأول: الشهرة الروائية: والمقصود منها اشتهار الرواية بسبب كثرة تداولها، والمعروف
بين المحققين عدم حجيتها.
الثاني: الشهرة الفتوائية: وهو اشتهار الفتوى بين الأصحاب، بمعنى ذهاب غالبية
الفقهاء أو عدد كبير منهم إلى الإفتاء بمضمون
معين، وهذه الشهرة إن كانت بين المتأخرين كالمحقق والعلامة ومن بعدهم فالمعروف بين
الفقهاء عدم حجيتها، وأما لو كانت بين
المتقدمين، والذي يمتد زمانهم إلى زمان شيخ الطائفة الطوسي قدس سره تقريباً
المتوفى سنة (460 هـ)، فقد ذهب عـدد كبير من
المحققين منهم المحقـق السيـد البروجردي والإمام الخميني (رضوان الله تعالى عليهما)
إلى حجيتها.
الثالث: الشهرة العملية: بمعنى عمل المشهور يعنى غالبية فقهاء الطائفة برواية معينة
وإعتمادهم عليها، فالمشهور أنّ مثل هذه
الشهرة تجبر ضعف السند، فلو كانت الرواية ضعيفة، ولكن مع ذلك عمل بها المشهور،
فحينئذ تصبح حديثاً معتبراً، ويكون نفس
اعتماد المشهور سبباً لتجاوز مشكلة ضعف الإسناد والمشهور أيضاً أنه لو أعرض المشهور
عن العمل بخبر معين فإن ذلك
يوجب سقوطه من جهة الحجية، وإن كان تاماً من حيث السند، فإذا تم هذا المبني فحينئذ
تكون مقبولة عمر بن حنظلة المتقدمة
تامة الاعتبار والحجية، ولكن الشأن كله في تمامية هذا المبنى، ولم يقبله جماعة من
المحققين، ومن أبرزهم المحقق السيد الخوئي
قدس سره، ومن ثم قبل قوله جماعة من تلامذته، وحيئنذ فلا مجال للقول بحجية الخبر
المذكور.
ثانياً: دلالة مقبولة عمر بن حنظلة على ولاية الفقيه:
جاء في تقرير أبحاث المحقق النائيني قدسسره أثناء حديثه ولاية الفقيه العامة
النص التالي:
فالعمدة فيما يدل على هذا القول هو مقبولة عمر بن حنظلة، وفيه أنه عليه السلام قال:
(فإني جعلته عليكم حاكماً)، فإن الحكومة
بإطلاقها تشمل كلتا الوظيفتين[66]، بل لا يبعد ظهور لفـظ الحاكم فيمن يتصدى لما هو
وظيفة الولاة.
إلى أن قال: وبالجملة فرواية ابن حنظلة أحسن ما يتمسك به لإثبات الولاية العامة
للفقيه.[67]
وجاء في تقرير آخر له تعليقاً على دلالة مقبولة عمر بن حنظلة:
فإنّ صدرها ظاهر في ذلك، حيث أنّ السائل جعل القاضي مقابلاً للسلطان والإمام عليه
السلام قرره على ذلك، فقال: (سألت أبا
عبد الله عليه السلام عن رجلين من أصحابنا تنازعا في دين أو ميراث فتحاكما إلى
السلطان أو إلى القضاة أيحل ذلك ؟) … بل
يدل عليه ذيلها أيضاً حيث قال عليه السلام: (ينظران إلى من كان منكم ممن قد روى
حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف
أحكامنا، فليرضوا به حكماً فإني جعلته عليكم حاكماً، فإنّ الحكومة ظاهرة في الولاية
العامة، فإن الحاكم هو الذي يحكم بين
الناس بالسيف والسوط، وليس ذلك شأن القاضي.[68]
وبالجملة فقد استدل لإثبات ولاية الفقيه بالاستناد إلى مقبولة عمر بن حنظلة بعدة
أمور أهما ما يلي:
الأول: عبـارة: > فإني قـد جعـلتـه عليكم حاكما <، بدعوى أنّ لفظ الحاكم ظاهر فيمن
يتصدى لشئون الولاة[69]، وحيئنذ كما
يثبت بها ولاية الفقيه في شئون القضاء كذلك تثبت بها الولاية في عموم مواردها، وقد
استدل بذلك عدة من الفقهاء منهم المحقق
النائيني كما في عبارات أبحاثه المتقدمة.
يقول المحقق الثاني الشيخ على الكركي العاملي في شرح عبارة: > فإني جعلته عليكم
حاكماً <: والمقصود من هذا الحديث هنا
أنّ الفقيه الموصوف بالأوصاف المعينة منصوب من قبل أئمتنا عليهم السلام، نائب عنهم
في جميع ما للنيابة فيه من مدخل، وهذه
استنابة على وجه كلى، ولا يقدح كون ذلك في زمن الصادق عليه السلام، لأنّ حكمهم
وأمرهم عليهم السلام واحد كما دلت عليه
أخبار أخرى، ولا كون الخطاب لأهل ذلك العصر لأنّ حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم
والإمام عليه السلام على الواحد حكم
على الجماعة بغير تفاوت كما ورد في حديث آخر.[70]
ولكن أجيب عن هذا الاستدلال: بأنّ مورد الرواية هو مسائل القضاء وهو قرينة على أنّ
الحاكم بمعنى القاضي، والوالي
والقاضي وإنْ كانا متغايران عرفاً، فالقاضي هو الذي يصدر عنه الحكم، والوالي هو
الذي يقوم بتنفيذ الحكم، إلا أنّ الحاكم
والقاضي ليسا متغايران، فقد يطلق لفظ الحاكم ويُراد به القاضي ولو كان القاضي غير
الحاكم لما صح أنْ يقول الإمام عليه
الصلاة والسلام > فإني جعلته عليكم حاكماً <، مع أنّه في صدر الرواية كان مورد حديث
وسؤال السائل هو القاضي، وعليه
فالحاكم في لفظ الحديث هو القاضي، وليس الوالي.[71]
وهذا الجواب ذكره السيد المحقق الخوئي قدسسره في مناقشة أستاذه المحقق النائيني
(طاب ثراه) ولكنه جواب غير تام فإنّ
السؤال تعلق بالرجوع إلى القاضي كما تعلق بالرجوع إلى السلطان أيضاً يقول عمر بن
حنظلة: > سألت أبا عبد الله عليه السلام
عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان أو إلى
القضاة <، فليس مورد السؤال هو
خصوص القاضي، وإنما مورده هو الرجوع في المنازعات، وذكر مثال الدين والميراث ليست
له قرينية واضحة على أنّ
المسئول عنه هو خصوص موارد القضاء وإنما ذكر على سبيل المثال، لاسيما بعد الالتفات
إلى أنّ الرجوع إلى السلطان عادة
يكون في غير هذه المسائل، والإمام تعلق جوابه في حكم الرجوع إلى السلطان أيضاً كما
تعلق بالرجوع القضاة بقرينة السؤال،
كما أنه لا ينبغي الإشكال في أنّ لفظ الحاكم أكثر ظهوراً في الوالي والسلطان منه في
القاضي، فإرادة القاضي من لفظ الحاكم
تحتاج إلى القرينة بخلاف الحال بالنسبة إلى إرادة الوالي أو السلطان منه فما ذكره
المحققون في استفادة الولاية العامة من العبارة
المذكورة تام، وبنحو ذلك أجاب الإمام الخميني قدسسره عن هذا الإشكال.[72]
الثاني: السـؤال لم يتعلـق بالرجـوع إلى القـاضي فقـط، وإنمـا تضمن أيضاً الرجوع
إلى السلطان، والجواب تضمن الرجوع إلى
الفقهاء بدلاً عن كل منهما بمقتضى ظهوره في التطابق مع السؤال في متعلقه، وحينئذ
تثبت الولاية العامة بهذا الجواب، لأنّ الإمام
عليه الصلاة والسلام جعل الفقيه هو البديل عن السلطان المتصدي لشئون الولاية. وهـذا
الاستدلال ذكـره المحقق النائيني قدس
سره فيما تقدم من كلامه، وكذلك الإمام الخميني قدس سره أيضاً.
وقد ناقشه السيد المحقق الخوئي قدسسره بأنه لا دلالة لذلك على كون الفقيه هو
الحاكم، وذلك لأنّ الحاكم كما يمكن أنْ يرجع إليه
في شئون الولاة فقد يرجع إليه فيما هو من شئون القاضي أيضاً.
وهذه المناقشة غير تامة أيضاً، إذْ يكفي في الدلالة إطلاق السؤال وعدم تقييده
بالمرافعات المختصة بالقضاة، والدين والميراث لا
إشكال أنه من باب المثال ولا قرينية له على الإختصاص بما هو من شأنْ القضاة،
والجواب بعد ملاحظة إطلاق السؤال
وبمقتضى ظهوره في تطابقه مع متعلق السؤال يدل على الولاية، لأنه يشمل بمقتضاه شئون
الولاة على الإطلاق ولا بتحديد بشأنْ
دون آخر.
الثالث: تعليل الإمام بالاستناد إلى الآية الكريمة وهي قوله عز وجل:(يُريدونَ أَنْ
يَتَحاكَموا إِلى الطّاغوتِ وَقَدْ أُمِروا أَنْ يَكْفُروا بِهِ)
[73]، والآية الكريمة لا إشكال في أنها ظاهرة في إرادة حكّام الجور، وأنّ منشأ
الرجوع إلى الفقهاء هو حرمة الرجوع إلى حكّام
الجور مطلقاً كما تدل عليه الآية الكريمة، وعليه فالرجوع إلى الفقهاء إنما هو لجميع
شئون الحياة والتي لا يجوز فيها الرجوع إلى
حكام الجور، فيكون المراد حينئذ هو التنصيب للولاية العامة[74]، وحينئذ فمتعلق
الحديث المتقدم هو ولاية الأمر في باب
القضاء وفيما هو من شئون السلاطين والولاة أيضاً.[75]
وقبل أنْ ننتقل للكلام في النص الثاني لا بأس بالإشارة على سبيل الاختصار، إلى أنّ
مقبولة عمر بن حنظلة وإن كان قد يناقش
في سندها، وكذلك في مبني إنجبار ضعف السند بالشهرة العملية على تقدير القول به،
ولكن يمكن إثبات صدورها عن الإمام
المعصوم عليه الصلاة والسلام وحجيتها من جهة أخرى، وهي: أنّ القرائن الموجودة في
الخبر تفيد الاطمئنان بعدم كون الحديث
من الموضوعات، وتلغي الاحتمال المعتد به بشأن عدم الصدور، ووجه الاستدلال لإثباتها
بالقرائن هو أنّ الأحاديث الموضوعة
إما أنْ تهدف إلى التبديل والتلاعب بالشريعة لأغراض معينة، أو بسبب الغلو أو النصب
أو غير ذلك من جهات الانحراف
العقائدي والفكري، وأما تثبيت الحق والدفاع عنه والمبالغة في حفظه فمن المطمئن أنه
لم يتعلق به الوضع، وصدر كلام الإمام
عليه السلام لا إشكال في تطابقه مع المضامين المتواترة بشأن حرمة الركون إلى حكام
الجور والرجوع إليهم، وإعانتهم حتى على
بناء مسجد كما في عبارات بعض الأخبار، بل يمكن عد ذلك من ضروريات مذهب أهل البيت
عليهم الصلاة والسلام والذي
تطابقت عليه كلمات فقهائهم إلا ما خرج بالدليل، وفيما بعد تنص عبارة: > فإني جعلته
عليكم حاكماً < إلى ارتباط شيعتهم بالفقهاء
وهذا لا إشكال في أنّ فيه تقويه للمذهب وإعزاز للدين، ومن المطمأن أنّ لا يتعلق
بمثل هذا المضمون غرض للوضع.
وبهذا الأسلوب تثبت عدة من الروايات التي يُطمئن بأنّ مضامينها لم يتعلق بها الوضع،
ككثير من أدعية أهل البيت عليهم السلام
كدعاء الندبة ودعاء كميل ودعاء الصباح وغير ذلك من الأدعية المقطوع بصدورها مع أنها
غير تامة السند، والاستدلال بواسطة
القرائن ليس بعزيز في بحوث الفقهاء لا سيّما متقدميهم، ولذا يذكر شيخ الطائفة
الطوسي قدس سره في كتابه عدة الأصول بأنّ
الأصحاب إنما يبحثون في سند الحديث بعد اليأس من العثور عن القرائن المثبتة أو
النافية، فإذا فقدت القرائن حينئذ يبحث في
سند الحديث[76]، فدراسة الحديث بلحاظ القرائن مقدم على النظر في سنده من حيث
الاعتبار وعدمه.
النص الثاني: رواية إسحاق بن يعقوب
وهو الحديث الذي رواه إسحاق بن يعقوب قال: سألت محمد بن عثمان العمري رضي الله عنه
أنْ يوصل لي كتاباً قد سألت فيه
عن مسائل أشكلت على فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان عليه السلام.[77]
وذكر ما في التوقيع إلى أنْ قال: وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة
حـديثنـا فإنهم حجتي عليكـم وأنا حجـة الله عليهم.
[78]
وقد وقع الفقهاء في مناقشة الاستدلال بهذه الرواية من جهتين، الأولى من جهة السند
والثانية من جهة الدلالة.
سند الرواية:
أما بالنسبة للسند فعمدة الكلام فيه يقع في الراوي المباشر وهو قليل الرواية وليس
له من الروايات حسب المصادر المتوفرة سوى
خبر واحد غير هذا الحديث رواه عن الشيخ الجليل محمد بن عثمان العمري رضوان الله
تعالى عليه.[79]
ولا ترجمة له في كتب الجرح والتعديل حسب المصادر المتوفرة كما أنه لا يوجد إشارة
ولو عابرة إليه بمدح أو قدح سوى ما
تضمنه ذيل هذا الحديث مما يُستفاد منه مدح الإمام عليه الصلاة والسلام له، لكنه
إنما يتم على تقدير ثبوت الخبر عنه صلوات الله
وسلامه عليه، ولأنه لم يثبت توثيقه فالمعروف بـين المحقـقيـن ضـعـف سنـد الحـديـث
المتـقـدم، يقـول الإمـام الخمينيقدس سره:
والرواية من جهة إسحاق بن يعقوب غير معتبرة.[80]
ومع هذا حاول بعض المحققين التغلب على مشكلة السند، ولعل أفضل ما قيل بهذا الشأن ما
ذكره المحقق السيد كاظم الحائري،
ومحصل ما أفاده هو: أنّ إسحاق بن يعقوب حدث الشيخ الكليني قدس سره بالتوقيع في
ظرف كانت للتوقيع الشريف من الناحية
المقدسة قيمته الخاصة، بحيث لا يرد إلا للثقات والخواص، والكذب بشأنه لا يصدر إلا
من شخص في غاية الخبث والكذب،
فيدور أمر محمد بن إسحاق بين أمرين لا ثالث لهما، فإما أنْ يكون في أعلى درجات
الوثاقة أو من الخبثاء والوضاعين، ولو كان
من الصنف الثاني فليس من الممكن عادة أنْ يخفى مثل هذا الأمر على مثل الشيخ الكليني
قدس سره مع ما هو عليه من ضبط
ودقة.[81]
ثم ذكر (حفظه الله تعالى): أنه يمكـن أنْ تعالج مشكلـة السند بأسلوب آخر، وذلك بأن
نقول: بأنه لو فرضنا عدم صدق إسحاق بن
يعقوب، فإن هذه الفرضية لا تخلو من أحد أمرين:
الأول: أنْ يكون غير صادق في أصل التوقيع.
الثاني: عدم الصدق في بعض الخصوصيات.
أما بالنسبة للفرضية الأولى فهي غير واردة لأنّ مثل ذلك مما لا يخفى على مثل الشيخ
الكليني قدسسره وهو الدقيق في نقل
الحديث والضابط له، والمعاصر في نفس الوقت لتلك المرحلة الزمنية، فإذا لم يكن يثق
بالنقل لاسيما مع أهمية التوقيع في تلك
المرحلة فعلى الأقل سيؤدي ذلك إلى الارتياب والتردد بحيث يمتنع عن رواية النص
المذكور.
وأما بالنسبة للفرضية الثانية فغير واردة أيضاً لكونه بعد ثبوت أصل التوقيع يثبت
تبعاً لذلك كونه من الأجلة والمعتمد عليهم عند
الأصحاب، ومع هذا فيمكن دفع احتمال الكذب من جهة أخرى وهو أنه لو صدر فإما أنْ يكون
لمصلحة شخصية كبيرة تدعوه إلى
التحريف، وهي غير واردة فليس في مثل هذا التحريف ما يؤدي لذلك، وإما أنْ يكون من
جهة التساهل في النقل وإنْ كان يحتمل
عادة في النقول الشفوية، لكنه لا يحتمل عادة في التوقيعات والنقول المكتوبة.[82]
هذا حاصل ما أفاده، ولكنه قابل للمناقشة فلو كان إسحاق بن يعقوب هو الراوي المباشر
عن الإمام صلوات الله وسلامه عليه فلا
إشكال في أنّ ما ذكره تام، إذْ لا يمكن أنْ ينقل ذلك عن الإمام عليه الصلاة والسلام
إلا من كان في أعلى درجات الوثاقة أو من
يكون من الخبثاء والوضاعين وهذا مما لا يخفى على أمثال ثقة الإسلام الكليني قدس
سره فيكون نفس النقل عنه حينئذ دليل على
جلالة قدر الراوي وعلو منزلته، خصوصاً بعد ملاحظة أنّ التشرف برؤية الإمام أرواحنا
لتراب مقدمه فداء لم يكن متاحاً لجميع
الناس في تلك المرحلة.
غير أنْ الأمر ليس كذلك، فإسحاق بن يعقوب لم يروي الخبر مباشرة عن الإمام عليه
الصلاة والسلام، وإنما رواه بواسطة الشيخ
الجليل محمد بن عثمان العمري رضوان الله تعالى عليه، والنقل عنه ليس بهذه المثابة،
حيث كان يمكن لعامة الشيعة أنْ يرجعوا
إليه، ويسألوه، ويطلبوا منه أنْ يسأل من الإمام عليه الصلاة والسلام، ولا فرق في
رواية الحديث في تلك المرحلة بين أنْ تكون
الرواية عن الشيخ العمري رضوان الله تعالى عليه أو عن أحد الأئمة عليهم الصلاة
والسلام قبل الغيبة من حيث الدلالة على
الوثاقة وعدمه، ولا كلام في أنه لا يقتضي الوثاقة، فقد روي عن الأئمة عليهم الصلاة
والسلام بعض الوضاعين المتفق على
وضعهم كأبي البختري، ونقل عنه بعض أجلة الأصحاب كمحمد بن أبي عمير[83]، وروي بعض
أجلة الأصحاب عن جماعة في
غاية الضعف أمثال سهل بن زياد وعمرو بن شمر ومحمد بن سنان وغيرهم، وكان سبب النقل
عنهم عدم اليقين بكذبهم في تلك
النقول واحتمال صدور النص، فلأجل تلك القيمة الاحتمالية للنص نقلوه، وهذا الأمر
متعارف عند رواة الشيعة والسنة، وإذا كان
النص يُحتمل صدوره فلا مانع من نقله لاسيما مع اهتمام علماء الجرح والتعديل بالبحث
في شأن الرواة، ومادام النص بقيمته
الاحتمالية يؤمن مادة مهمة للبحث قد يستفيد منها العلماء والمحققون، وخصوصاً
والحديث لم ينقل حينها لعموم الناس، بل في
كتب الحديث التي عادة يتداولها المحققون والناقدون.
دلالة الحديث:
بعد أنْ فرغنا من الكلام في السند ننتقل البحث في دلالة النص المتقدم، وقـد استدل
بها لإثبات الولاية العامة من جهتين:
الأولى: عبارة > وأما الحوادث الواقعة <، حيث أنّ ظاهرها مطلق الأمور التي لابـد
مـن الرجوع فيها إلى الولي.[84]
الثانية: التعليل بعبارة: > فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم <، فهو يتناسب مع
ما هو وظيفة الولاة والتصدي للقضايا
الكبرى.[85]
وقد ذكرت مناقشات كثيرة لمناقشة دلالة النص المتقدم ولعل أهمها الاعتراض بأنّ ما
تقدم لو تم فإنما يتم على تقدير كون الألف
واللام في عبارة: > وأما الحوادث الواقعة < هي الألف واللام الجنسية والتي تُفيد
العموم، ولكنه لم يثبت، فمن المحتمل أنْ تكون
الألف واللام للعهد، وأنّ المقصود من الحوادث هي قضايا معينة خارجية تضمنها سؤال
إسحاق بن يعقوب والذي لم ينقل إلينا في
كتب الحديث، وعلى هذا التقدير فالإرجاع حينئذ يكون في تلك المسائل بخصوصها وليس
لعمـوم الحـوادث والأمـور، وحينئـذ فلا
مجال للتمسك بهذا النص لإثبات ولاية الفقيه، بل لابد أن نبحث عن دليل آخر.[86]
ولكن هذا الاعتراض غير تام كما أجاب بذلك عدة من المحققين ولو سلمنا بتمامية
الإشكال، فإنما يؤثر على الاستدلال بصدر
الحديث، ولكنه لا يؤثر على الاستدلال بإطلاق التعليل، أو بإطلاق العبارة في نفسها
بغض النظر عن كونها تعليلاً، حيث تفيد
كونهم حجة في مطلق الأمور.[87]
وهذه هي خلاصة الاستدلال بالحديث المذكور، ومن أراد التفصيل فعليه بالكتب المفصلة.
القسم الثاني: الأدلة العقلية
ذكر الفقهاء عدة أدلة عقلية لإثبات ولاية الفقيه، وأهمها الدليلان الآتيان:
الدليل الأول[88]
وخلاصة هذا الدليل أنّ شمولية أحكام الإسلام لجميع شؤون الحياة تقتضى ولاية الفقيه
ببيان: أنّ أحكام الإسلام كما تشمل الأحكام
الفردية غير المتوقفة على الولاية فإنها تشمل أيضاً الأحكام الولائية والتي لا يمكن
أنْ تطبق بدون وجود جهة ولائية ترجع إليها
الأمة بالفعل، وقد تقدم أنّ الأحكام الولائية هي التي يلزم من تطبيقها بدون الرجوع
إلى الجهة الولائية الفوضى واختلال النظام،
ومقتضي ثبوتها كما هو ثابت من الدين بالضرورة ومقتضي عدم إمكان تعطيلها هو ثبوت
الولاية العامة للفقيه، لأنه بدون ذلك
ينتهي الأمر إلى تعطيل تلك الأحكام، و تطبيقها بـدون وجـود جهـة ولائيـة غيـر ممكن
لأنه ينتهي إلى المفسدة ونقض الغرض.
ويمكن أنْ نستدل بنفس ما تقدم لإثبات الولائية في الأمور الحسبية حيث يمكن القول:
أولاً: أنّ جميع شئون الإسلام علمنا أنّ الشارع لا يرضى بتركها مضافاً إلى أنّ
قضايا المسلمين الكبرى السياسية والاجتماعية
وغيرها من الأمور التي لا يمكن أن تترك.
ثانياً: نتيجـة لأهميتها وعـدم إمكان تركها فحينئذ يتولد من ذلك العلم باشتغال
الذمة فيها.
ثالثاً: القضايا السياسية والاجتماعية وغيرها من الأمور التي يتوقف تطبيقها على
وجود جهة ولائية تتولي مسؤولية تنفيذها،
وتطبيقها بدون ذلك يؤدي إلى الفوضى واختلال النظام وهو نقض للغرض.
وحينئذ فتمامية تلك المقدمات تستلزم ثبوت الولاية للفقيه في الأحكام الولائية.
وهذا الاستدلال اعتمده عدة من الفقهاء والمحققين منهم الفقيه الكبير المحقق الشيخ
محمد حسن النجفي قدس سره في موسوعته
جواهر الكلام، يقول قدس سره:
بل لولا عموم الولاية لبقى كثير من الأمور المتعلقة بشيعتهم معطلة.
ثم قال: فمن الغريب وسوسة بعض الناس في ذلك، بل كأنه ما ذاق من طعم الفقه شيئاً،
ولا فهم من لحن قولهم ورموزهم أمراً، ولا
تأمل المراد من قولهم: إني جعلته حاكماً وقاضياً وحجة وخليفة[89] ونحو ذلك مما يظهر
منه إرادة نظم زمان الغيبة لشيعتهم في
كثير من الأمور الراجعة إليهم.
إلى قال: وبالجملة فالمسألة من الواضحات التي لا تحتاج التي لا تحتاج إلى أدلة.[90]
ويقول الفقيه المحقق السيد عبد الأعلى السبزواري قدس سره:
والذي ينبغي البحث عنه إنما هو في سعة الولاية.
ثم قال: والحق أنّ هذا البحث يدور مدار سعة بسط اليد وعدمها، فالمتشرعة يرون
للفقيـه المبسـوط اليد من الولاية ما لا يرونه
لغيره، فكلما زيد في بسط يده تزداد سعة الولاية، ومقتضي فطرة الأنام أنّ الفقيه
الجامـع للشرائط بمنزلـة الإمام عليهالسلام إلا ما
اختص المعصوم به، وذلك يقتضى سعة الولاية إلا ما خرج بالدليل كما يقتضيها إطـلاق
قولـه عليهالسلام > فإنهم حجتي عليكم
<، هذا مع أنه بعد سد باب الرجوع إلى أبواب حكّام الجور وقضاتهم والأخذ منهم وعدم
الميل إليهم بنحو أكيد[91]، مع عموم
الابتلاء للاحتياج إلى ولاية الفقيه الجامع للشرائط، فهل يتصور أنْ يهمل الشارع هذه
الجهة بالنسبة إلى أمته ويذرهم حيارى،
فالتشكيك في ولاية الفقيه فيما تُبسط يده بالنسبة إليها مما لا ينبغي.[92]
وهذا الدليل على متانته لم نجد من اعترض عليه من الفقهاء، وإنما غالبية المناقشات
تتركز حول دلالة النصوص.
الدليل الثاني
وهو الذي إعتمده الإمام الخميني قدسسره مضافاً للدليل المتقدم وحاصل هذا الدليل:
أنّ الحكومة الإسلامية من أهم الأهداف
الإسلامية في جميع الأزمنة[93]، ومن أهم الأمور الثابتة بملاحظة الأحكام الإلهية
التي تشمل جميع شئون الحياة أهمية العمل من
أجل إقامة الدولة الإسلامية، ولا يمكن إقامة الحكومة الإسلامية بدون تولى الفقهاء
لشئون المسلمين للعمل على إقامة الدولة قبل
قيامها، وإدارة شئونها إذا وفقوا لتأسيسها، وهذه الأمور من القضايا التي تتوقف على
الولاية، ولا يمكن تطبيقها بدون ذلك.
وهذا الاستدلال يتوقف على ثبوت ضرورة إقامة الحكومة الإسلامية، ولعل هذا الأمر هو
الأمر الذي يضاف إلى فكر الإمام
الخميني قدس سره بالنسبة لمسألة ولاية الفقيه، فكان أول فقيه تعرض لطرح ولاية
الفقيه العامة من زاوية الحكومة الإسلامية،
وقد كان كثير من الفقهاء الذين ذهبوا إلى الولاية العامة ومشروعية إقامة الدولة
الإسلامية طرحوا هذا الأمر من غير هذه الزاوية
ومنهم المحقق النجفي قدسسره فقد كان يري عدم إمكانية إقامة الدولة الإسلامية
بحسب الظروف التي يعيشها المسلمون كما
صرح بذلك في كتابه القيم جواهر الكلام[94]، وأما الإمام الخميني قدسسره فكان
يعتقد بأهمية إقامة الحكومة الإسلامية، وأنها من
أهم أهداف الإسلام، ولذلك بنى على أهميتها مبدأ ولاية الفقيه، وخطط أيضاً لإقامة
الدولة الإسلامية، كما أنه كان يعتقد أنّ الأمور
لا يمكن أنْ تستقر إلا بتصدي الفقهاء مباشرة دون الاعتماد على غيرهم وذلك من خلال
التجربة التي مرت بها الحركة الإسلامية
لاسيما في إيران والعراق، وسنتعرض لها الموضوع بشيء من التفصيل في البحوث الآتية
إنشاء الله تعالى.
وهذا الدليل كسابقه من الأدلة القوية، ولم نجد لحد الآن من ناقشه من المحققين.
وكلا الدليلين يعتمدان على أنّ شمولية أحكام الإسلام تستلزم ولاية الفقيه، ولذا
يقول الإمام الخميني قدسسره:
ولاية الفقيه فكرة علمية واضحة، قد لا تحتاج إلى برهان، بمعنى أنّ من عرف الإسلام
أحكاماً وعقائد يرى بداهتها، ولكن وضع
المجتمع الإسلامي، ووضع مجامعنا العلمية على وجه الخصوص، يضع هذا الموضوع بعيداً عن
الأذهان، حتى لقد عاد اليوم
بحاجة إلى برهان.[95]
القسم الثالث: سيرة الفقهاء وتسالمهم
من أهم الأدلة لإثبات ولاية الفقيه سيرة الفقهاء في عصر الغيبة وتسالمهم على مبدأ
ولاية الفقيه، حيث ذهب إلى القول بها الشيخ
المفيد وشيخ الطائفة والشيخ أبو يعلى حمزة بن عبد العزيز المعروف بسلاّر الديلمي
كما تقدم ذلك، ولم ينقل الخلاف بينهم بهذا
الشأن ولو بنحو الإشارة، وهذا التسالم لا إشكال في دلالته لاسيما بعد ملاحظة قرب
عهدهم بالسفراء وخطورة هذا الموضوع الذي
لا يمكن أنْ يكون بالنسبة لأمثال الشيخ المفيد وشيخ الطائفة من الأمور الغامضة التي
قد تخفى عليهم، ولا يمكن أنْ ينتهي عهد
الغيبة الصغرى بدون أنْ يبين الإمام عليه الصلاة والسلام وظيفة الشيعة وفقهائهم
تجاه قضاياهم الكبرى والخطيرة وأنْ يتركهم
مهملين، وهذا ما يفيد القطع بأن أعيان الطائفة ورموزها كالشيخ الكليني والصدوق
الأول وسعد بن عبد الله الأشعري القمي
وأمثالهم من أركان المـذهب انتهى إليهم الأمر بـلا غمـوض ولا ريبة، وأنهم تناقلوا
هذا التسالم وعملوا بمضمونه.