مركز الصدرين للدراسات السياسية || الكتب السياسية

المرجعية والولاية

المبحث الثامن: شروط مرجعية التقليد


تعرض الفقهاء لبيان شروط مرجعية التقليد في الرسائل العملية وبحثوها بالتفصيل، وما نحتاجه هو البحث في المسائل التي هي محل نقاش وبحث وأما ما هو متسالم عليه في الرسائل العملية فيمكن مراجعته في
الكتب المفصلة، ولعل من المناسب الحـديث عن الشروط التالية:
الشرط الأول: الاجتهاد

وشرطية الاجتهاد من الشروط الضرورية والبديهية، فالهدف الأساسي من التقليد هو التغلب على الغموض الذي يحيط بالأحكام الشرعية غير الضرورية، ولا يمكن أنْ يتم ذلك بدون الرجوع إلى المتمكن من استنباط
الأحكام الشرعية وهو الذي نعبر عنه بالمجتهد.
مفهوم (الفقه التقليدي) و (الفقه المتحرك)

ولكن وقـع النقاش أخيراً حـول مسـألة ذات صلـة أساسيـة بمفهوم الاجتهاد، وهي هل أنْ المطلوب هو الاجتهاد التقليدي المتبع في الحوزات العلمية، أو أن المطلوب أسلوب آخر في متابعة البحث العلمي، نجد البعض
من المثقفين وربما بعض طلاب العلوم الدينية يطرح ضرورة تغيير منهجية الاجتهاد وطرح طريقة أكثر توافقاً مع حاجات الزمان والمكان، وأطلق البعض على اسـم هـذا المنهـج مصطلـح > الفقه المتحـرك < في
مقابـل > الفقه التقليدي <، وبالتالي فالفقيه الأجدر والأولى إنْ لم يكن المنحصر به صلاحية المرجعية وفقاً لهذا الطرح هو من يتخطى الأسلوب التقليدي في البحث إلى الأسلوب المتحرك باعتبار أنه الأسلوب الأمثل
القادر على إعطاء القدرة للفقه الإسلامي لمعالجة متطلبات الواقع، وبهذا ينقسم مراجع التقليد إلى قسمين: مراجع تقليديين ومراجع عصريين يستوعبون احتياجات الواقع، وقد استند البعض في طرح هذا الأمر إلى
عدة من كلمات الإمام الخميني قدس سره ولاسيما بيانه الأخير الذي أصدره للحوزات العلمية في الثالث عشر من رجب والذي أكد فيه على أنّ الزمان والمكان عنصران أساسيان في الاجتهاد، وأنّ المجتهد الذي لا
يستوعب القضايا السياسية والاجتماعية ليس مجتهداً في المسائل السياسية والاجتماعية[119]، وإلي بعض عبارات السيد الشهيد الصدر قدس سره حول مستقبل الاجتهاد وأثر النظرة الإجتماعية على الاجتهاد، ووفقاً
لهذا الطرح فلدينا اجتهاد قاصر وغير متكامل يمارس الاستنباط بأسلوب بدائي، واجتهاد متطور.
وقبل أنْ نناقش هذا الفكرة ونعرض دلائلها وما يدور حولها من مناقشات لابد لنا أنْ نتعرض لما طرحه الإمام الخميني قدسسره بهذا الشأنْ لأنّ الكثير يستند في هذا الطرح إلى كلماته حول الفقه والاجتهاد ووظائف
الفقهاء والحوزات العلمية، فالإمام الخميني قدس سره يؤكد على أهمية أنْ يكون الفقه متحركاً، ولكنه في الوقت ذاته يؤكد على المنهج التقليدي المتبع لدى الفقهاء عبر التاريخ، وأنه لا بديل عنه، وأنه بالإضافة إلى
ذلك فقه متحرك وليس فقهاً جامداً، وأنه الفقه الوحيد القادر على استيعاب الإسلام وطرح ما تحتاجه البشرية على مختلف مستويات التشريع.
وبعبارة أخرى: الإمام الخميني قدسسره يؤكـد وبقوة على الفقه التقليدي، ويرى أنه فقه متحرك يجب تطويره وتفعليه بمقتضى ما عليه الحال في الحوزات العلمية من فتح باب الاجتهاد ومواصلة البحث العلمي.
وكذلك الحال بالنسبة للسيد الشهيد الصدر، فهو رغم كفاءته العالية على صعيد الدراسات الفقهية والأصولية وعلوم الحديث وغيرها، ولكنه ينتهج نفس الطريقة التقليدية المتعارفة، ورغم أنه مجتهد مجدد له نظرياته
الجديدة ولكنها لا تصنف في داخل أروقة البحوث العلمية خارج نطاق المدارس التقليدية المتعارفة.
ولا بأس بعرض كلام الإمام الخميني قدسسره بهذا الشأن حيث يقول:
من الأمور المهمة التي أشعر بالقلق إزاءها هي مسائل الحوزات العلمية وخاصة الحوزات الكبيرة مثل الحوزة المقدسة في قم، يجب على العلماء الأعلام والمدرسين المحترمين الذين يريدون الخير للإسلام وللبلدان
الإسلامية أنْ ينتبهوا بجد خوفاً من أنْ تؤدي بهم التشريفات والاهتمام بالمباني العديدة من أجل أهداف الإسلام السياسية والاجتماعية إلى الغفلة عن المسألة المهمة في الحوزات وهي الإشتغال بالعلوم الشائعة خاصة
الفقه ومقدماته بالشكل التقليدي، وأنْ لا يؤدي الإشتغال بالمباديء والمقدمات إلى الغفلة لا سمح الله عن الغاية الأصلية أي المحافظة على تحقيقات العلوم الإسلامية وتنميتها وخاصة الفقه على طريقة السلف الصالح
وكبار المشايخ كشيخ الطائفة وأمثاله رضوان الله تعالى عليهم، والمتأخرين كصاحب الجواهر والشيخ الكبير الأنصاري رضوان الله تعالى عليهم، فلو فقد الإسلام لا سمح الله كل شيء ولكن بقي فقهه على الطريقة
الموروثة من الفقهاء الكبار فإنه سيتابع مواصلة طريقه، أما إذا حصل على كل شيء وفقد فقهه على طريقة السلف الصالح، فإنه سيكون عاجـزاً على مواصلـة طريـق الحـق وينتهي بـه الأمـر إلى الفساد.[120]
ويقول أيضاً مخاطباً طلاب العلوم الدينية ومسئولي الحوزات العلمية:
يجب أنْ لا تنسوا بأنه ينبغي عدم تخطى الأركان المحكمة للفقه والأصول المتبعة في الحوزات العلمية بأي شكل من الأشكال، وطبعاً فإنه ينبغي الاستفادة من محاسن الأساليب الجديدة والعلوم التي تحتاج إليها
الحوزات العلمية إلى جانب الترويج للاجتهاد الجواهرى بشكل محكم وثابت.[121]
ويقول قدس سره أيضاً: ويتحتم على الأساتذة والأفاضل الأجلاء أنْ يُخصصوا وقتا لدرء الأضرار وفق برنامج دقيق ومدروس عن الحوزات العلمية لاسيما حوزة قم وسائر الحوزات الكبرى والمهمة في هذا الظرف
بالذات، وعلى العلماء والأساتذة الموقرين أنْ لا يسمحوا بالانحراف عن طريق المشايخ العظام في الدروس والمباحث الفقهية والأصولية، فهي الطريقة الوحيدة لحفظ الفقه الإسلامي وأنْ يسعوا دائماً لإثرائه بالمزيد
من الدقة والبحوث والآراء والإبداع والتحقيق، ويحفظوا الفقه التقليدي، وهو إرث السلف الصالح الـذي يؤدي الانحراف عنه إلى إضعاف دعائم التحقيق والتدقيـق، فلتضف التحقيقات إلى التحقيقات.[122]
ويقول قدس سره أيضاً في آخر بيان أصدره للحوزات العلمية: وأما بشأن أسلوب الدراسة والتحقيق في الحوزات، فإنني أعتقد بالفقه التقليدي والاجتهاد الجواهرى، ولا أجيز التخلف عن ذلك ن فالاجتهاد صحيح على
ذلك النمط، ولكن هذا لا يعني أنّ الفقه الإسلامي ليس غنياً ولا خلاّقاً، إذ أنّ الزمان والمكان عنصران مهمان في الاجتهاد، ولو كان لمسألة حكماً معيناً في السابق فبحسب الظاهر قد تكون هي نفسها ضمن العلاقات
المتحكمة بسياسة واجتماع واقتصاد نظام معين يكون لها حكماً جديداً بهذا المعنى وهو أنه من خلال المعرفة الدقيقة للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لنفس الموضوع الأول الذي لا يختلف ظاهراً عن القديم
يغدو موضوعاً جديداً يتطلب قهراً حكماً جديداً.[123]
وهذه العبارة بحاجة إلى شيء من التوضيح لما تتضمنه من قضايا أصولية وفقهية تخصصية تتطلب الشرح، فالذى يطرحه الإمام الخميني قدس سره بعد التأكيد على أهمية الفقه التقليدي أنه ليس فقهاً جامداً بل هو فقه
متحرك وخلاّق وقادر على معالجة القضايا المتجددة والمستحدثة، وأنه يلحظ فيه عنصرا الزمان والمكان، فالزمان والمكان عنصران أساسيان في عملية الاجتهاد وبالنسبة لأسلوب البحث على مستوى الفقه التقليدي،
ومن ثم قام بشرح كيف يكون للزمان والمكان مدخلية في عملية الاجتهاد، وهذا هو ما يحتاج إلى التوضيح:
من الأمور المطروحة في أبحاث أصول الفقه أنْ الحكم الشرعي يتوقف على أمرين مهمين وهما الموضوع والمتعلق، والذي يهمنا هنا بيان المقصود من الموضوع والمقصود منه كما يطرحه علماء الأصول هو
مجموع الأمور المؤثرة في ثبوت الحكم الشرعي[124]، فالحكم لا يتحقق إلا بناءاً على تحقق المعطيات المؤثرة في تحققه، وعلى سبيل المثال فوجوب الحج إنما يثبت مع تحقق مجموعة معطيات بحيث لو اختل
واحد منها فإنه يلزم حينئذ تبدل الموضوع وانتفاء الحكم، وهذه المعطيات التي تؤثر بمجموعها هي عبارة عن البلوغ والعقل والاستطاعة، فلو تحققت الإستطاعة واختل شرط البلوغ، فلا تحقق للوجوب كما لو تحقق
شرط البلوغ واختل شرط الإستطاعة فلا يتحقق الوجوب أيضاً، وإنما يتحقق الوجوب بتحقق مجموع هذه الشروط، أما إذا زال أمر واحد من الأمور التي لها مدخلية في ثبوت الحكم فسيتبدل الموضوع حينئذ، وتبعاً
لذلك فقد يؤدي هذا التبدل إلى تغير الحكم الشرعي أيضاً، ولا بأس بتطبيق مثال على ذلك لزيادة التوضيح.
يذكر الفقهاء أنّ الضابطة في جواز وصحة البيع بالنسبة لما يراد بيعه أنْ تتوفر فيه ثلاثة شروط[125]:
الأول: أنْ يكون فيه منفعة، فلو كان ما يتحقق منعه ليس إلا الضرر المحض فلا يصح البيع حينئذ.
الثاني: أنْ تكون المنفعة محللة، فلو كان فيه منفعة لكنها محرمة لم يصح البيع أيضاً.
الثالث: أنْ تكـون المنفعة مقصـودة لدى العقلاء، بمعنى أنّ العقلاء يعتنون بهذه المنفعة ويضعون لها قيمة كما في سائر الأمور التي تباع، وعلى هذا فلو باع شخص حبة واحدة من الشعير مثلاً، فهذا البيع غير صحيح
والسبب في ذلك أنّ المنفعة الناشئة من هذه الحبة وإن كانت محلله ولكنها غير مقصودة لدي العقلاء، فالعقلاء لا يعطون لهذه المنفعة عناية واهتمام.
وعلى ضوء هذه المعطيات التي بمجموعها يصح البيع يبحث الفقهاء بشأن جلد الميتة، فقد انتهى المحقق الكبير الشيخ مرتضي الأنصاري قدس سره إلى أنه لا يجوز بيع جلد الميتة باستثناء حالة واحدة وهي البيع
لأجل سقي الزرع[126]، والسبب هو أنّ المنافع الأخرى غير منفعة الزرع وإنْ كانت منافع متحققة بالفعل ومقصودة لدي العقلاء ولكنها محرمة، وهذا بخلاف الحال بالنسبة للبيع لأجل سقى الزرع فإن منفعة سقى
الزرع بالإضافة إلى كونها مقصودة فهي محللة أيضاً وحينئذ يتحقق موضوع جواز البيع وصحته والذي هو عبارة عن مجموع العناصر الثلاثـة المتقدم بالنسبة للشيء الذي يُراد بيعه.[127]
ولكن لو كان الشيخ الأنصارى قدسسره موجوداً في زماننا لما أفتى باستثناء حالة سقى الزرع، لأنْ منفعة سقى الزرع في زماننا وإنْ كانت محللة ولكنها غير مقصودة بعد وجود الآلات الحديثة التي هي أكثر يسراً
وفائدة بحيث يُعد استبدال ذلك بجلد الميتة أمراً غير عقلائي، وبهذا يظهر أنْ موضوع جواز البيع تبدل من زمان الشيخ الأنصارى إلى زماننا رغم التشابه الظاهري، لأنّ أحد المعطيات المؤثرة في ثبوت موضوع
صحة البيع وهي كون المنفعة مقصودة، تبدلت، وتبعاً لها تبدل الموضوع، مما أدي إلى أنْ يكون بيع جلد الميتة لأجل سقي الزرع في زماننا غير جائز.
وبهذا يظهر كيف أنّ الزمان والمكان تدخلا في تبدل الموضوع وبالتالي في تبدل الحكم الشرعى.
ومجمـل ما يريد الإمام قدسسره قوله هو أنّ الزمان والمكان قد يكون لهما الأثر في تبدل الموضوعات مما قد ينعكس على تبدل الحكم الشرعى، وهذه هي النكتة الأساسية التي بينها رضوان الله تعالى عليه لبيان تدخل
الزمان والمكان في عملية الاجتهاد.
وليس في كلام الإمام قدسسره وفقاً للعبارة المتقدمة غير ذلك، وإذا كان البعض يستند إلى الإمام رضي الله عنه لإثبات أنّ لديه رؤية أخرى لدور الزمان والمكان، فليس في كلمات الإمام غير هذه الجهة لا في هذه
العبارة ولا في غيرها، وهذه العبارة لا تعطي للزمان والمكان أثراً على الاستدلال العلمي خلاف ما هو المتعارف في البحوث العلمية عند سائر الفقهاء.
نعم لا مانع من طرح فكرة أخرى بشرط أنْ تستند تلك الفكرة إلى الدليل العلمي، وأما مجرد الاقتراح والحوار الخطابي الذي لا يقوم على البراهين كما نجده كثيراً في كثير من الأطروحات وإبداء وجهات النظر،
ولكن عند البحث عن الأدلة والبراهين نجد المسألة تتحول إلى مجرد استهلاك للعبارات وتجاوز لروح البحث وتتبع الأدلة ومنهج النقد العلمي، فهذا مما لا يمكن القبول به.
وهذا الأمر لا نقوله هنا ونحن نتحدث عن الفقه، وإنما يصر عليه كل مختص في مجال اختصاصه، فالطبيب والمهندس مثلاً لا يقبلان كل منهما في حقله مجرد أنْ يأتي كل فرد باقتراح لعلاج مشكلة ما، وإنما يصر
كل منهما على معالجة ذلك وفقاً للأسس والموازين المتبعة، كما أنه لو كان لأحد اعتراض على بعض تلك الموازين فلا بد أنْ يكون الرفض طبقاً لقواعد النقد العلمي، وليس لمجرد التفاعل النفسي سلباً أو إيجاباً مع
الفكرة.
وهذا الأمر من بديهيات العقل ومن أهم أسس ومناهج البحث العلمي الذي لا يختلف عليها عالم في أي باب من أبواب العلوم والمعارف.
وقد إتضح أنّ الإمام قدسسره استند إلى نفس قواعد الفقه التقليدي في إثبات مدخلية الزمان والمكان في ممارسة عملية الاجتهاد.
وعلى هذا الأساس استند لإثبات أنّ غير المطلع على الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي ليس مجتهداً في هذه المجالات، وذلك لأنّ عدم الإطلاع يؤدي إلى الجهل بالموضوعات ولاسيما الموضوعات المستحدثة
التي تحمل في مضمونها مجموعة معطيات تكون مؤثرة في ثبوت الحكم الشرعي، فمثلاً النظام الدولي، من لا يستوعبه كموضوع معاصر له ما يميزه من خصوصيات قد تتدخل في ترتب الحكم الشرعي وثبوته لا
يمكن أنْ يكون مجتهداً في النظام الدولي، والسبب أنْ الحكم متوقف على الموضوع ورتبة الموضوع حسب اصطلاحهم متقدمة على الحكم، فعدم معرفة الموضوع تلقائياً يستلزم وبالضرورة امتناع معرفة الحكم، وعلى
هـذا يكـون معرفـة الموضوعات[128] المستحدثة الكثيرة لـه مدخليه في تحقق الاجتهاد المطلق.[129]
وهذا أيضاً ما ذهب إليه الإمام الخامنئي دام ظله حيث يقول:
وملاك الأعلمية أنْ يكون أقدر من بقية المجتهدين على معرفة حكم الله تعالى واستنباط التكاليف الإلهية من أدلتها، ومعرفته بأوضاع زمانه بالمقدار الذي له مدخلية في تشخيص موضوعات الأحكام الشرعية، وفي
إبداء الرأي الفقهي لتبيين التكاليف الشرعيـة لها دخل في الاجتهاد أيضاً.[130]
ويقول الشهيد المطهري قدسسره: عمل الفقيه والمجتهد هو استنباط الأحكام الشرعية، إلا أنّ معرفته وإحاطته وطراز نظرته إلى العالم تؤثر تأثيراً كبيراً في فتاواه، على الفقيه أنْ يكون محيطاً إحاطة كاملة
بالموضوع المطلوب منه إصدار فتوى فيه، فإذا إفترضنا فقيهاً دائم الإنزواء في بيته أو مدرسته، ثم نقارنه بفقيه آخر يعايش حركة الحياة حوله نجد أنّ كليهما يرجعان إلى الأدلة الشرعية لاستنباط الحكم ولكـن كل
منهما يستنبط حكمه على أساس وجهة نظره الخاصة.[131]
وبعد أنْ عرضنا نظرية الإمام (قده) حول الفقه المطلوب والاجتهاد المعتبر، ورأيه حول دور الزمان والمكان لا بأس أنْ نستعرض الفكر الآخر الرافض لمنهجية الفقه التقليدي، والذي يتبنى فكرة الفقه المتحرك
بوصفه مقابلاً للفقه التقليـدي المتعارف.
ولعل عمدة النقد الذي يوجهه أصحاب هذا الفكر هو نقد الواقع الذي يعيشه الكثير في الحوزات العلمية من عدم الاهتمام بقضايا المسلمين الكبرى سواء على مستوى البحث العلمي، أو على مستوي التصدي العملي،
فتجد الكثير لا يعرف أبسط الأحداث التي تجرى على الأمة الإسلامية، كما أنه ليس لديه اهتمام إلا بزاوية الأحكام الفردية الصرفة، ووجود هذا الأمر في الحوزات العلمية لدي الكثيرين أمر غير قابل للإنكار، بل
يصل الحد في بعض الحالات إلى القدر الذي يؤدي إلى الضغط على المراجع والفقهاء الكبار للحد من قيامهم بأدوارهم الإصلاحية، والشواهد على ذلك كثيرة جداً.
ويمكن القول بأنّ الفكر المتحجر الذي نجده في كثير من الأوساط هو الذي دفع بطرح أنّ الفقه التقليدي يختلف عن الفقه المتحرك، خصوصاً بعد ملاحظة الأدوار السيئة التي يقوم بها أصحاب القدسية الجوفاء المزيفة
لمواجهة التغيير الإيجابي وللوقوف بوجه المصلحين والمناضلين من أجل الدفاع عن أهداف الإسلام الكبرى.
ينقل العلامة السيد نور الدين الأشكوري وهو أحد التلامذة البارزين للسيد الشهيد الصدر أنّ البعض إقترح على السيد الشهيد أنْ يسجل دروسه في أشرطة الكاسيت، فوافق السيد على ذلك، ولكن بسبب الظروف
والأجواء التي كانوا يعيشونها فقد قاموا بتسجيل ذلك بشكل سرى بحيث لا يؤدي انتشار مثل هذا الخبر إلى اتهام السيد الشهيد ببعض الأمور التي يراد منها إسقاطه، وفي أحد الأيام ونتيجة للاشتباه، فبدل أنْ يقوم
المسجل بتسجيل الدرس، صار يبث صوت السيد الشهيد، فأدى ذلك إلى حرج السيد خشية أنْ يُستغل ذلك استغلالاً سلبياً.
وهذا مثال واضح من الأمثلة التي تُظهر حجم التحجر والتخلف في بعض الأوساط بحيث يعتبر تسجيل درس أحد كبار الفقهاء من الأمور التي يُحذر منها خشية التهم الباطلة، مع أنّ الأولى لهذه الأجهزة أنْ توظف
لخدمة نشر الدين والفكر ولاسيما مثل أفكار الشهيد الصدر رضوان الله تعالى عليه، وهذا المثال إنْ كان يكشف عن شيء فهو يعطي صورة للظروف التي كان يعانى منها السيد الشهيد والصدر وأمثالـه من العلماء
والفقهاء.
ومن الأمور التي تُعطى نفس الصورة والتي شهدناها عندما كنا ندرس بقم المقدسة، عندما طبع كتاب كفاية الأصول والذي يعتبر أبرز الكتب المدونة في علم الأصول في الحوزة بالطبع الحديث لأول مرة رأيت أحد
الأشخاص المعروفين فأخبرته بذلك وكنت أتوقع أنه سيفرح لسماع هذا الخبر، ولكنه كان بالعكس من ذلك تماماً حيث أبدي انزعاجه من طباعة الكتاب، وقال بأنه سيكون الطلبة بعد طبع هذا الكتاب طلبة غير جادين
في الدراسة، وكأنّ وضوح أحرف الكتاب وطباعته بأسلوب جيد أحد عوائق التقدم العلمي والدراسي وأنّ الطباعة الحجرية القديمة هي سبب نضج المعلومات وتقدم الدراسة الحوزوية.
يوجد ظاهرة لدي البعض لا يمكن أنْ ننكرها ولعلها صارت تؤول إلى التقلص وبسبب عدم تقدمهم العلمي والدراسي على النحو المطلوب يستبدلون نقص الكفاءة العلمية بالتظاهر ببعض الشكليات التي لا تخرج عن
كونها رياءاً وحب ظهور، فتجدهم يعترض على لبس الساعة اليدوية أو يتشدد على بعض الأمور غير المهمة، بل البعض تجده من الصعب أنْ يتكلم من أجل أنْ يحفظ وقاره، وتجده جافاً في التعامل مع الناس، بل قد
ينظر إلى الناس بنظرة تعالى وعدم احترام.
ونفس هؤلاء هم الذيـن كانـوا يتصـدون لفكر الإمام الخميني قدس سره في بداية الثورة الإسلامية وأخذوا على عاتقهم العمل من أجل إضعاف ارتباط الأمة بها، وقام بعضهم بالتشكيك حتى في مرجعية الإمام رضوان
الله تعالى عليه، في حين أنّ بعض هؤلاء كان يدافع عن الشاه وبقوة، ويقف بوجه أي حركة مناهضة للحكم الجائر في ذلك الحين.
كما أنّ البعض من هؤلاء في لبنان كان همهم الوقوف بوجه المقاومة الإسلامية في لبنان دون أنْ يكون لديهم أدني موقف يذكر ضد العدو الصهيوني، فتجد الأحاديث الكثيرة التي تدود في مجالسهم حول من الذي
يتحمل مسؤولية دماء الشهداء ويتحركون من خلال هذه الكلمات لتشكيك الناس في شرعية المقاومة، وكنا نسمع من بعض أصحاب القدسية الجوفاء التشكيك في المستوى العلمي لقادة المقاومة أمثال الشهيد العلاّمة
الشيخ راغب حرب قدس سره ومن ثم الشهيد العلامة السيد عباس الموسوي قدس سره لهدف التقليل من أهميتهم والدفع بضعف وجودهم في المجتمع الإيماني.
وهكذا كان الأمر لدي بعض هؤلاء في قم المقدسة في العمل لتقليل أهمية الثورة الإسلامية وعلمائها وما تقوم به من إنجازات في خدمة الإسلام.
ونتيجة لإمعان هؤلاء المتحجرين في التصدي للثورة الإسلامية وأهدافها، بل ولمعارضة أي إصلاح لوضع الأمة أضطر الإمام الخميني قدس سره مراراً متعددة للتصـدي لهم في خطبه، بل اعتبر أنّ تآمر هؤلاء قد
تزيد خطورته عن مؤامرات دول الاستكبار العالمي.
يقول الإمام الخميني قدسسره: إنّ رجال الدين العملاء المتظاهرين بالقداسة والمتحجرين منهم، لم يكونوا قلة يوماً ولن يكونوا، ففي الحوزات العلمية من ينشط ضد الثورة وضد الإسلام المحمدي الأصيل، وهناك
اليوم نفر من هؤلاء يوجه سهامه تحت ستار القداسة إلى أصول الدين والثورة والنظام، وكأنّ هؤلاء لا تكليف لهم إلا هذا، إنّ خطر المتحجرين والحمقى المتظاهرين بالقداسة في الحوزات العلمية ليس بقليل، وعلى
طلاب العلوم الدينية الأعزة ألا يغفلوا لحظة عن هذه الأفاعي الخادعة فهـؤلاء مروّجوا الإسـلام الأمريكي، وأعـداء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.[132]
ويقول أيضاً: وذات يوم إجتمع في منزلي المرحوم آية الله البروجردي، والمرحوم آية الله الحجة، والمرحوم آية الله الصدر، والمرحوم آية الله الخونساري للتداول في أمر سياسي مهم فتقدمت إليهم أنْ يحددوا موقفهم
من هؤلاء المتظاهرين بالقداسة البلهاء وأنْ يعتبروهم أعداء من الداخل، لأنّ هؤلاء لا يهتمون بما يجرى، ويحولون بين العلماء الحقيقيين وبين تسلم السلطة، والأخذ بزمام الأمور، فهؤلاء يوجهون أكبر لطمة
للإسلام، ويبرزون الإسلام بصورة مشوهة كأقصى ما يكون التشوه، ويوجد من هؤلاء كثير في النجف وقم وخراسان، ولهم تأثير على البسطاء والبلهاء أمثالهم من الناس، هؤلاء يعارضون من يصرخ في الناس
لإيقاظهم مما غطوا فيه من السبات، هؤلاء يدعون الناس إلى الكسل والتخاذل، هؤلاء يعارضون من يعارض ويقاوم نفوذ الإنجليز والأمريكان، علينا أنْ ننصح أمثال هؤلاء أنْ يرجعوا عن غيهم، وننبهم عن الخطر
المحدق بالإسلام والمسلمين، وأنْ نفتح أبصارهم تحت ضوء الشمس على الخطر الصهيوني والإنجلو أمريكي الذي يمد الكيان الإسرائيلي بمقومات الحياة.[133]
ومع هذا فلا بد لنا أنْ نكتشف موضع الإشكال وبدقة، فليست المشكلة في الفقه الإسلامي، كما ليست في كبار الفقهاء وإنما المشكلة في الأجواء التي تعيشها المجامع العلمية، والمجتمع الإسلامي بسبب الواقع السياسي
الذي تعرضت له الأمة الإسلامية عبر التاريخ، فكان نتيجة ذلك وجود بيئة لها تأثيرها للتحجر غير قابلة للإنكار كانت ولازالت تسدد ضربات قوية لحركة الصحوة على مر التاريخ، وهذه الحالة تستمد قوتها في
الغالب من وجودها الاجتماعي في الشارع، ومن تثبت بعض الأفكار التي روجت لها دول الاستكبار العالمي وعملت على ترسيخها واقتنعت بها المجتمعات لاسيما قبل قيام الثورة الإسلامية مثل فكرة فصل الدين عن
السياسية، بل فصل الدين عن جميع شئون الحياة وحصره في نطاق المسجد ودور العبادة، بحيث أصبح هذا الأمر من المسلمات التي تعطى مصداقية لمن يطرحه عند عامة الناس، وتجعل الأطروحات التي تدعوا إلى
النهضة والتغيير أطروحات غريبة تفتقد إلى الدليل والمصداقية، وإنْ كانت هذه الأوضاع تحسنت تحسناً ملحوظاً بعد قيام الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني رضوان الله تعالى عليه، وزاد هذا التحسن بعد انتصار
المقاومة الإسلامية في لبنان على أيدي المجاهدين الشرفاء من أبناء الإمام الراحل وجيل حزب الله، وستكون أفضل مع استمرار الجهاد والصمود في فلسطين وسائر بلدان العالم الإسلامي.
إنّ المشكلة التي أوجدت التحجر مشكلة معقدة ولابد من دراستها بدقة، فعالمنا الإسلامي فقد المرجعية الإسلامية مدة طويلة في كثير من جوانب الحياة، واقتصر الناس في الرجوع إليهم في بعض المسائل العبادية
والفردية، نتيجة للظروف السياسية التي كانت تعيشها الأمة، ومن ثم قامت دول الاستكبار العالمي للعمل من أجل حد دور علماء الدين وإيجاد مرجعيات فكرية واجتماعية بديلة، من خلال المستشرقين وعبر قنوات
العمالة والتآمر، ومن أبرز ما قاموا به الحركة الواسعة للماسونية والتي انضم لها الكثير من الكتاب والمفكرين[134]، ومن ثم استطاعوا بعد أنْ سيطروا على العالم الإسلامي على تقليص دور المرجعية الدينية ودور
المناضلين والمخلصين، وفرضوا أفكارهم بواسطة المؤسسات المختلفة سواء كانت فكرية وثقافية وغيرها، وعلى سبيل المثال فإن الموسوعة الإسلامية التي صنفها عدة من المستشرقين ودونوا فيها الكثير من
الإساءات للرسول الأعظم صلى الله عليه وآلهوسلم والإسلام ورموزه عندما ترجمت لأول مرة في مصر وعلق عليها مجموعة من كبار المفكرين في ذلك الوقت أمثال طه حسين وحسن إبراهيم اعتبروا ذلك فتحاً
عظيماً للفكر والثقافة كما يظهر من تقديم الموسوعة، و كان هذا النتاج الإستشراقي[135] يمثل أحد أبرز النتاجات التي عكف عليه كثيرٌ من الباحثين حتى لمعرفة التاريخ الإسلامي، وكانت الجامعات في بلداننا أحد
المراكز المهمة لنشر الفكر العلماني والإستشراقي يقول السيد الشهيد الصدر قدس سره:...[136]
وبعد أنْ سَقط الحكم الإسلامي على أثر غزو الكافر المستعمر هذه البلاد لم يَعد هذا العزل مختصاً بحركة الإجتهاد عند الإمامية بالخصوص، بل شملت عملية العزل السياسي التي تمخض عنها الغزو الكافر للإسلام
ككل والفقه الإسلامي بشتى مذاهبه، وأقيمت بدلاً عن الإسلام قواعد فكرية أخرى لإنشاء الحياة الإجتماعية على أساسها، واستبدل الفقـه الإسلامي بالفقه المرتبط حضارياً بتلك القواعد الفكرية.[137]
وهذا كله مضافاً إلى ما كانت تعيشه الأمة من انحطاط سياسي واجتماعي عبر التاريخ حيث كانت الدول الإسلامية تحت سيطرة طواغيت الأمة وجبابرتها من بني أمية وبنى العباس ومن بعدهم ممن عملوا على
ترسيخ المفاهيم التي لا تتعارض مع مصالحهم وتكون في نفس الوقت بعيدة عن نهـج أهـل البيت عليهم السلام حتى ترسخت فكرة أنّ إمام المسلمين وخليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا فرق بين أنْ يكون
براً أو فاجراً، وعمل الطواغيت دائماً على ترويج فقه البلاط الذي لم ينسجم يوما من الأيام مع روح الإسلام وتعاليمه وعلى تقليص ومطاردة علماء الإسلام المناضلين والمدافعين الحقيقيين عن الإسلام المحمدي
الأصيل وهذا كله كان له أثره البالغ في تكوين قناعات لدي الأمة تقوم على أساس عزل الدين عن الحياة وإبعاده عن القضايا السياسية الكبرى، وكان له تأثيره حتى داخل الحوزات، وكان المتخلفون في المجامع
العلمية يملكون قوة مستمدة من الحالة التي تعيشها الأمة، في حين نجد أنّ الفقهاء طيلة تاريخ الصراع كانوا يرفضون فكرة فصل الدين عن السياسية ويرفضون تلك الأفكار المنحرفة وقد إرتبطوا طوال المسيرة بنهج
وتعاليم النبي وعترته الطاهرة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وتحملوا لأجل ذلك مختلف أساليب القمع والتعذيب والمواجهة مع الطواغيت والظلمة حتى صار ذلك معلماً بارزاً في مدرسة أهل البيت عليهم الصلاة
والسلام ونجد الفقهاء دائماً يعملون جاهدين على الاهتمام بجميع شئون الحياة، فهذا هو المرجع الديني الكبير الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء (المتوفى سنة 1373هـ – 1954 م) يقول:
إذا كان معنى السياسية طلب الخير وخدمة الناس وتوجيههم ومنعهم من الفساد والخيانة ونصيحة الحكام وعامة الشعب، وتحذيرهم من الوقوع في أسر الاستعمار والعبودية لهم، نعم إذا كان معنى السياسية هذا، فإننا
من أم رأسنا حتى أخمص أقدامنا سياسيون، ذلك لأنّ كل ذلك يُعتبر من واجباتنا الأساسية.[138]
وإذا أردنا أنْ نقرأ تاريخنا الحديث فسنجد الفقهاء الكبار هم واجهة نهضة الشعوب نحو التحرر والابتعاد عن قيود الذل والتبعية لدول الظلم والاستكبار، فهذه ثورة العشرين التي تصدت للاحتلال البريطاني كانت
بقيادة فقهاء النجف الأشرف، وقد أخذت انطلاقتها بفتوى المرجع الأعلى حينها الميرزا الشيخ محمد تقي الشيرازي قدس سره وبمشاركة كبار الفقهاء معه ومنهم المرجع الكبير السيد محمد كاظم اليزدي والسيد أبو
الحسن الإصفهاني والميرزا الشيخ محمد حسين النائيني وشيخ الشريعة الإصفهاني والشيخ محمد جواد الجزائري والشيخ محمد جواد البلاغي والشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء والسيد محمد سعيد الحبوبي
وغيرهم مما لا يتسع المقام لذكرهم، واستمرت حركة النهضة والتغيير في العراق نحو التصدي السياسي والاجتماعي إلى زمان المرجع الديني الكبير السيد محسن الحكيم كان إلى جانبه عدد كبير من الفقهاء أمثال
الشيخ مرتضي آل ياسين والشيخ محمد رضا المظفر والسيد الشهيد الصدر وغيرهم، إلى أنْ نجح طواغيت العراق في المرحلة الأخيرة في عهد حزب البعث العفلقي في مواجهة العلماء وإبعادهم عبر وسائل القمع
المختلفة عن المجتمع، خصوصاً في تلك المرحلة قد طُرح الفكر العلماني والقومي بقوة تبعه حركة إخراج علماء الدين وفيهم كبار العلماء والفقهاء من النجف الأشرف إلى إيران بحجة أنّ هؤلاء ليسوا عراقيين مما
أدي إلى توجيه ضربة قوية للمرجعية الدينية، وإلى أنْ آلت الأمور إلى الطاغية الفاجر صدام الذي سانده في بداية الأمر العالم كله من أقصاه إلى أقصاه بما في ذلك الدول العربية باستثناء الجمهورية الإسلامية
وسوريا، فأقدم على قتل عدد كبير من الفقهاء كالسيد الشهيد الصدر والشهداء من آل الحكيم وغيرهم، وزجّ عدداً كبير في السجون وضيق على المرجعية الدينية وعلماء الحوزة إلى الحد الذي لم يبق منها سوى أطلال
الماضي وجماعة من الفقهاء المحاصرين فرج الله تعالى عنهم.
وهكذا لو أردنا أنْ ننظر إلى تاريخ كبار فقهائنا الحديث في إيران وبالتحديد في القرن الماضي فسنجد أنْ الفقهاء هم القيادة التي تصدت طيلة هذه السنين لنفوذ المستكبرين والدول الكبرى، وتصدوا لجميع مظاهر
الفساد وقدموا العدد الكبير من الشهداء طيلة قرن من الزمان أمثال العالم الجليل الشيخ فضل الله النوري والعالم الجليل السيد حسن المدرس والشهيد السيد نواب الصفوي وغيرهم ممن لا مجال لحصرهم، وكانت فتوى
المرجع الأعلى للطائفة حينها بتحريم التبغ بسبب كونه سبباً لنفوذ المستعمرين بسبب حصر صلاحية التجارة به للإنجليز من قبل الشاه ناصر الدين أحد حكام الدولة القاجارية لها أثرها البالغ في تحطيم نفوذ الاستكبار
البريطاني وفي التحرك نحو الحركة الدستورية في إيران وبدأت بعدها المصادمات الشديدة بين الفقهاء وحكام الدولة القاجارية بسبب تفاعل تلك الدولة مع أطماع الدول الإستكبارية الكبرى حتى قامت الدولة القاجارية
حينها بقتل أحد كبار الفقهاء شنقاً وهو الشيخ فضل الله النوري رضوان الله تعالى عليه، وتمكن الفقهاء بفضل صمودهم من فرض تغييرات كثيرة في الواقع القائم حينها، واستمرت تلك المواجهات إلى عهد رضا شاه
إلى أنْ آل الأمر إلى سقوطه، ونتيجة لصمودهم وببركة تصدى أحد كبار مراجع هذه الأمة وهو الإمام الخميني رضوان الله تعالى عليه والذي قاد المسيرة التي إنطلقت منذ قرابة قرنين من الزمن إلى أنْ انتهى الأمر
إلى سقوط الشاه وقيام الجمهورية الإسلامية.
وهكذا لو سعينا لنتصفح حياة الفقهاء في مواقع أخرى فسنجدهم دائماً يمارسون دورهم الإصلاحي في سبيل رفع كلمة الدين، فهذا هو العالم الكبير السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي الذي تصدى للاستعمار
الفرنسي وكان نتيجة لذلك أنْ حكم عليه بالإعدام غيابياً أكثر من مرة، وهذا هو العالم الكبير السيد محسن الأمين العاملي في سوريا والذي وقف بوجه الفرنسيين بكل إمكانياته.
وعندما بدأ احتلال فلسطين على أيدي الصهاينة كان الفقهاء من أوائل المناضلين الذين تحركوا نحو مواجهة الدول الكبرى والصهيونية من بداية أيام الاحتلال وكشواهد على ذلك، فقد أصدر المرجع الكبير الشيخ
محمد حسين آل كاشف الغطاء فتواه المعروفة سنة (1938م) والتي جاء فيها:
فيا أيها العرب، ويا أيها المسلمون، بل يا أيها البشر ويا أيها الناس أصبح الجهاد في سبيل فلسطين واجباً على كل إنسان لا على العرب والمسلمين فقط، والخطة العملية في ذلك هي أنّ من يستطيع اللحوق بمجاهدي
فلسطين بنفسه فليلحق، وإني ضمين أنه كالمجاهدين مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بدر.[139]
وجاء فيها أيضاً: وليكن كل واحد على علم جازم أنّ القضية قضية موت العرب وحياتها، وليعلم ناشدوا الوحدة العربية أنهم لا يجدونها أبداً إلا بنصرة فلسطين.[140]
وقال أثناء خطبة له سنة (1934 م) في الوقت الذي كانت فيه فلسطين لا تزال تحت الانتداب البريطاني:
الله الله في أوطانكم، الصهيونية بين أضلاعكم وهي سوس السياسة والبلاء المبرم والداء العظال... وأنتم هامدون خامدون لا تحسون بهذا البلاء العظيم الذي ينذركم بالتلف.[141]
إلى أن قال: القوم في جد وإحتهاد وأنتم مشغولون بالزخارف والسفاسف التي لا تنفع ولا تجدي، والتي لا يبلغ الإنسان بها إلى مجد ولا رفعة ، أنتم مشغولون بالمقاهي والملاهي والسينمات والأشياء التوافه الساقطة...
اتقوا الله أيها الناس: إن لم يكن لم دين وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحراراً في أوطانكم، كلمة عظيمة قالها ذلك الرجل العظيم أول الإسلام الحسين بن على عليه السلام.
أيها الناس أول مجد شرف في الإنسان الغيرة، ومن لا غيرة له لاحس له، ومن لاحس له ليس بإنسان.[142]
ويقول في كلمة أخرى له: الحكومات والدول كلها تعلم أو يجب أنْ تعلم أنّ الشعوب ليست اليوم على وضعها السابق كسلع تباع وتشتري في الأسواق العالمية، في أسواق المستعمرين كغنائم حروب تقسم سهاما بين
الفاتحين، المغرب حصة فرنسا والمشرق لإنكلترا والجنوب لهولندا وإيطاليا وهكذا، ثم فتحت أخيراً أمريكا عيونها وجاءت تريد الحصة الوافرة، بل الكل من هذه الفريسة وتضحك على الذقون، فتقدم المساعدات
المالية والأسلحة الرمزية والقواعد العسكرية، ولاشيء إلا المواعيد الخلابة والأقاويل الكاذبة.
إلى أنْ قال: تبذل أمريكا الأسلحة الفتاكة لإسرائيل نقداً لا وعداً، تدفعها بلا قيد أو شرط ولو تقاتل بها العرب، بل على أنْ تقاتل بها العرب.[143]
إلى أنْ قال: نعم تقول أمريكا بلسان الحال الذي هو أبلغ من لسان المقال أعطيكم السلاح على أنْ يقاتل بعضكم بعضاً حتى تهلكوا جميعاً كما هو الحال اليوم في إيران ومصر وسوريا وغيرها وخاصة الدول العربية،
وشعوبها ذات الجامعة العربية التي فرقت العرب ومزقتهم شر تمزيق وخانتهم وطعنتهم بالصميم، وانكشف أنّ رئيسها وسبعة من أعضائها جواسيس للأجانب، بل عمال للإنكليز مستأجرون على ضرب العرب
وتمزيقهم وقد أخذوا الألوف أجرة بل مئات الألوف على هذه الخيانة.[144]
إلى أنْ قال: فهل سمعت طيلة هذه المدة مع هذه الهجمات الفظيعة من اليهود على قري الأردن هل سمعت أنّ العرب أو الدول العربية المحيطة بإسرائيل من كل جهاتها هل سمعت أنهم قتلوا كلباً يهودياً أو هرة يهودية
فضلاً عن إنسان أو صورة إنسان.[145]
وهذا هو العالم الكبير الشيخ عبد الكريم الزنجاني قدس سره الذي عمل على مجابهة الصهيونية وذهب إلى المسجد الأقصى لدعم الجهاد والوحدة الإسلامية وعمل ترسيخ ذلك من خلال زيارات الكثيرة للبلدان
الإسلامية من أجل العمل على تحرير فلسطين المغتصبة، ومما جـاء في خطبتـه في المسجـد الأقصى
المبارك سنة (1936 م): أيها العرب، أيها المسلمون، ليس لكم بعدما كشرت الدول المسيطرة على العالم أنيابها، وأفصحت لكم عن سوء نياتها، وأنه لم يبق أي أمل في عدلها وإنصافها، نعم لا وسيلة لكم إلى الحياة
والبقاء في صحيفة هذا العالم وعدم الانقراض من لوح هذا الوجود إلا بالاتفاق يداً واحدة على العهود البارة على الدفاع عن بلادكم المقدسة بالنفس والنفيس، ومقاطعة كل عمل صهيوني، وأنْ تسدوا حاجة فقراء
فلسطين، لكي يكون لكم النجاح مأمولاً والنجاة من خطر الصهيونية قريبة، وإلا فالذل المخلد.[146]
وهذا هو العلامة المجاهد المحقق السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي قدس سره المتوفى سنة (1957م) مضافاً لمواقفه البطولية في مواجهة الاستكبار الفرنسي في سوريا ولبنان، وقف وبقـوة بوجـه العدو
الصهيـوني منـذ أيامـه الأولى، وكـانت من كلماته المهمة بهذا الشأنْ سنة (1947م):
أيها العرب والمسلمون، هذا شهر المحرم الدامي الذي انتصرت فيه عقيدة وبُعثت منه قضية، ألا إنّ قتلة الحسين بِكر في القتلات، فلتكن قدوتنا بِكراً في القـدوات، ولنكـن نحن من فلسطين مكـان أبى الشهداء عليه
السلام من قضيته ليكون لنا ولفلسطين ما كان له ولقضيته من حياة ومجد وخلود، أيها المسلمون والعرب لقد دقت الساعة وحمّ الأجل، وموعدنا فلسطين، فيها نموت وعليها نحيا، والسلام عليكم يوم تموتون شهداء
ويوم تُبعثون سعداء.[147]
وقد أوردنا هذه النبذة اليسيرة التي تعطي جانباً من دور بعض الفقهاء أعلى الله تعالى كلمتهم لأجل أنْ يطلع البعض ممن يجهل تاريخ هؤلاء حتى توهم البعض أنْ لا دور للفقهاء وعلماء الدين في حركة التغيير في
التاريخ الحديث، ويعتقد البعض أنّ الإمام الخميني (رضوان الله تعالى عليه) هو أول معلم من معالم دور الفقهاء في القرن العشرين ولاشك أنّ الإمام الخميني رضوان الله تعالى عليه كان شخصية عظيمة ومتميزة،
ولكن توهم أنه الوحيد الذي كان يقود عملية التغيير أمر غير صحيح ولا يقبله نفس الإمام (قدس سره)، فكلماته زاخرة ببيان دور الفقهاء وجهادهم وأثرهم على وعي الشعوب والدفاع عن قيم الإنسانية وكرامة
الشعوب.
وإذا أردنا أن نتتبع نضال الفقهاء وعملهم من أجل الإصلاح فإننا نحتاج إلى مجلدات كثيرة، وقد صنفت بعضها من قبل بعض الباحثين أمثال الشيخ على الدواني والسيد حميد الروحاني وغيرهم.
ومجمل القول فالفقهاء لم يكونوا يوماً جامدين ولا متحجرين، ولكن الواقع التي عاشته الأمة الإسلامية لاسيما قبل قيام الثورة الإسلامية المباركة، مضافاً لتقاعس البعض كان له الأثر البالغ في شق الطريق نحو الجمود
والتحجر.
الشواهد على حركية الفقه الإسلامي
وما تقدم بيانه كان بالنسبة لدور الفقهاء، وأما بالنسبة للفقه الإسلامي، فمن الأمور الذي تسالم عليها الفقهاء أعلى الله تعالى كلمتهم فتح باب الإجتهاد، وبالتالي تفعيل دور العقل وفقاً للموازين والضوابط العلمية وبناء
التطور العلمي على أساس التقييم والنقد العلمي، ونظرة عابرة إلى بحوث الفقهاء لما يقارب الأكثر من عشرة قرون متواصلة يُلمس من خلالها هذا المعنى، ونتيجة لذلك نجد التطور الضخم في علم الأصول وعلم الفقه
وعلم الحديث وعلم التفسير وعلم الكلام وغير ذلك من العلوم بحيث أنه لو أردنا أنْ نقارن بين البحوث العلمية بين زمان شيخ الطائفة الطوسي مثلاً والوقت الحاضر فسنجد البون الشاسع في مستوي البحث العلمي،
مضافاً لتوسع الدراسات في مباني الفقه الإسلامي وأسسه، فكتاب المبسوط على سبيل المثال الذي صنفه شيخ الطائفة يمثل أكبر موسوعة فقهية وصلت إلينا على مستوى مصنفات المتقدمين يقع في ست مجلدات،
بينما كتاب جواهر الكلام للمحقق النجفي قدس سره يصل إلى ثلاث وأربعين مجلداً حسب الطبعة الحديثة وكله بحوث معمقة جداً ونقاشات واسعة لأقوال المحققين، ومنـذ صاحب الجـواهر المتوفى سنة (1266 هـ)
وإلى هذا اليوم تطورت الأبحاث بأضعاف ما في هذه الموسوعة القيمة، ولازال فقه مدرسة أهل البيت عليهم السلام قائم على أساس التقييم والنقد العلميين، وهذان العاملان هما أهم عوامل حركة الفكر بشكل عام
والفقه على وجه الخصوص، فيمكن لكل أحد أنّ يمارس النقد والتقييم شريطة أنْ يكون مختصاً ومستوعباً للأبحاث العلمية بعمق، وشريطة إتباع النهج العلمي أيضاً، والدراسات العليا في الحوزات العلمية كلها قائمة
على النقد والتقييم، وإذا كانت الحوزة العلمية نعم الفقهاء يرفضون بعض موارد النقد والتقييم، وذلك إذا كانت من قبل غير المختص والذي لا يستوعب البحوث الفقهية وغيرها بالدقة التي تؤهله للنقد، وهذا الأمر
منطقي وبديهي، ففي جميع الاختصاصات لابد أنْ يتصدى للبحث والنقد المختصون لأنهم يملكون مقومات النقد العلمي، وأما غير المختص فمن الطبيعي أنه لا يمكن أنْ يتصدى لمناقشة البحوث التي تحتاج إلى
استيعاب كامل للبحوث المعمقة.
ومن أهم الشواهد مضافاً لذلك على حركية الفقه الإسلامي وقدرته على معالجة جميع القضايا حتى المستجدة ما تقدم عن الإمام الخميني (رضوان الله تعالى عليه) بشأنْ دور الزمان والمكان في الإجتهاد.
موارد التحجر والجمود في تاريخ الفكر الشيعي
ولنستكمل الحديث حول الجمود الفكري لتكوين رؤية شمولية متكاملة نستعرض من خلالها بعض أهم مواقف الفقهاء من الفكر المتحجر، ولعل من أبرز تلك الأمور موقف الفقهاء مـن المدرسـة الإخباريـة والتي تضم
في داخلها عـدد من العلماء الأجلاء والمحققين[148]، هذه المدرسة كانت قائمة على عدة أمور وأهمها:
أولاً: رفض عملية تقييم الأحاديث الموجودة في كتب الحديث ودعوى أنها قطعية الصدور ولاسيما أحاديث الكتب الأربعة، ولم يقتصروا على الكتب الأربعة طبعاً، فعندهم جميع كتب المتقـدمين أحاديثها قطعيـة
الصـدور ، نعم ربمـا لـديهـم مناقشات في كتب يسيرة جداً.[149]
ثانياً: رفض الدليل العقلي[150] وسيرة العقلاء[151].
ثالثاً: رفض تشكيل علم بعنوان أصول الفقه يتكفل بدراسة أسس وقواعد الاستدلال.[152]
وقد حاول علماء هذه المدرسة إسناد ما ذهبوا إليه إلى قدماء الأصحاب كالشيخ الصدوق والشيخ المفيد والسيد المرتضي وشيخ الطائفة الطوسي، غير أنّ كتب المتقدمين كلها قائمة على ما نقض تلك المباديء التي تقوم
عليها تلك المدرسة، فنقد الحديث وقبول الأحاديث ورفضها وفقاً لموازين علم الحديث كان قائماً في زمان المتقدمين، كما نجد ذلك في تضعيف الشيخ الصدوق وشيخ الطائفة والشيخ المفيد لبعض أحاديث الكافي
وأحاديث الإستبصار[153]، وينقل لنا شيخ الطائفة في عدة الأصول سيرة الأصحاب على نقد الحديث وتقييمه بالرجوع إلى قواعد الجرح والتعديل[154]، وقد صنف المتقدمون عدة كتب في أصول الفقه ومنهم
الشيخ المفيد والسيد المرتضى وشيخ الطائفة الطوسي.
وبالجملة فقد إعتبر عدة من الفقهاء أنّ هذه الأصول التي قامت عليها المدرسة الإخبارية من أهم عوائق تقدم البحث العلمي، وتطور الدراسات الفقهية، لذلك عملوا وبقوة على منع إنتشار هذا النمط من التفكير وبقوة،
يقول المحقق الشهيد المطهرى:
... هنا ينبغي إلى أنْ نشير إلى حدث مهم وخطير برز في عالم التشيع خلال القرون الأربعة الماضية يتعلق بموضوع الإجتهاد، وهذا الحدث هو موضوع الإخبارية، ولولا وقوف عدد من العلماء المبرزين الشجعان
في وجه تلك الموجة وصدها، لما كنا نعرف موقعنا الحاضر.[155]
وكانّ من أبرز الفقهاء الذين تصـدوا لهذا الأمـر الفقيـه الكبير المحقق الشيخ محمد باقر الوحيد البهبهاني المتوفى سنة (1208 هـ)، يقول الميرزا الشيخ محمد باقر الخونساري في روضات الجنات في ترجمة الوحيد
البهبهانى:
وكذلك ارتفعت بميامن تأييداته أغبرة آراء الإخبارية المندرجة في أهواء الجاهلية الأخرى، كما انطمست آثار البدع الألوفية المنتشرة من جماعة الملاحدة والغلاة والصوفية.[156]
وهذه العبارة وإنْ كانت مشتملة على المبالغة، ولكنها تبين الجهد الذي بذله الوحيد البهبهاني للعمل على إزالة المدرسة الإخبارية، وقد أدى ذلك بالفعل إلى ضعف تأثير تلك المدرسة حتى أصبحت حالياً ليس لها امتداد
يُذكر.
يقول المحقق الشهيد المطهرى قدسسره: ... وعلى أثر هذه المكافحات اندحرت الطريقة الإخبارية وليس لها اليوم أتباع إلا في بعض الزوايا النائية إلا أنّ الأفكار الأخبارية انتشرت بسرعة كبيرة بظهور الأمين
الإسترآبادى في العقول والأفكار، وعاشت أكثر من مئتي سنة لم تخرج نهائياً من الأذهان بعد، فنحن ما نزال نجد أنّ الكثيرين لا يجيزون تفسير القرآن بدون الاستناد إلى الحديث، وأنّ الجمود الإخباري ما يزال يسود
كثيراً من المسائل الأخلاقية والاجتماعية، بل وحتى في بعض القضايا الفقهية.[157]
ومن الجدير بالذكر أنّ من امتدادات الحركة الإخبارية التي استمرت بعد الوحيد البهبهانى والشيخ الأنصارى والذين قاوما هذا النمط من التفكير بقوة، بعض المحدثين والمصنفين الذين أهملوا الأساليب العلمية في علم
الحديث إلى حد كبير وحصل لديهم تهاون شديد جداً أدي إلى كثير من الخبط والخلط، ومن أبرز هذه الأسماء المحدث الميرزا الشيخ حسين النوري الطبرسي المتوفى سنة (1320 هـ) صاحب كتاب مستدرك
الوسائل، فقد اهتم بالروايات الشديدة الضعف والشاذة إلى حد صارت الكثير من كتبه مشتملة على البحوث البعيدة عن المنهج العلمي في البحث، يقول الإمام الخميني قدس سره بشأن كتبه:
كتبه لا تفيد علما ولا عملاً، وإنما هو إيراد ضعاف أعرض عنها الأصحاب، وتنزه عنها أولوا الألباب من قدماء أصحابنا كالمحمدين الثلاثة المتقدمين رحمهم الله هذا حال كتب روايته غالباً كالمستدرك، ولا تسأل عن
سائر كتبه المشحونة بالقصص والحكايات الغربية التي غالبها بالهزل أشبه منه بالجد، وهو رحمه الله شخص صالح متتبع، إلا أنّ اشتياقه لجمع الضعاف والغرائب والعجائب وما لا يقبلها العقل السليم والرأي
المستقيم أكثر من الكلام النافع …[158]
وقـد لاحـظ على المحـدث النوري هـذا الأمـر المحقـق المتتبع المفسر الشيخ محمد جواد البلاغي قدس سره المتوفى سنة (1352 هـ) حيث يقول أثناء نقده لخبر نقله المحدث النوري عن أحد الكتب المدسوسة:
وأنّ صاحب فصل الخطاب من المحدثين المكثرين المجدين في التتبع للشواذ، وأنه ليعد أمثال هذا المنقول في "دبستان المذاهب" ضالته المنشـودة، ومع هذا لم يجد لهذا المنقول أثر في كتب الشيعة.[159]
غير أنّ ذلك لا يمكن أنْ يُعد دليلاً يدين النهج العلمي لدى الفقهاء، لكونه أسلوباً شاذاً، وقد حدد الفقهاء موقفهم من مثل هذه الأمور وبوضوح تام.
ولنستكمل الموضوع بشمولية نحتاج إلى الحديث عن أمرين:
الأول: عدم كفاية الاجتهاد اللفظي
من الأمور المهمة التي أكد عليها الإمام الخميني قدس سره عدم كفاية الإجتهاد اللفظي، يقول الإمام الخميني قدس سره:
في الدائرة الإسلامية ينبغي أنْ يكون باب الإجتهاد مفتوحاً دائماً، فطبيعة الثورة والنظام تقتضى ألا يتوقف طرح الآراء الاجتهادية الفقهية بشكل حر في المجالات المختلفة ولو خاف بعضهم، ولا يحق لأحد أنْ يحول
دون ذلك، بيد أنّ المهم هو المعرفة الصحيحة للحكومة والمجتمع، إذ أنه على ضوئها يمكن للنظام الإسلامي أنْ يُخطط لصالح المسلمين، وهذا التخطيط بحاجة إلى وحدة العمل والرؤية، ومـن هنا فإنّ الإجتهاد اللفظي
المصطلح عليه في الحوزات لن يكون كافياً.[160]
ومن اللازم قبل كل شيء بيان المقصود من الإجتهاد اللفظي فالمقصود من الإجتهاد اللفظي الذي لا يمكن الاقتصار عليه لا يخلوا من أحد أمرين:
أحدهما: الجمود على المدلول الوضعي للفظ بحيث يتم التقيد بما تدل عليه العبارة بحسب اللغة بدون محاولة البحث عن المراد الجدي بالرجوع إلى القرائن اللفظية أو الحالية والتي قد تتدخل بمجموعها في تحديد
الدلالة، ولا خلاف بين علماء الأصول بأنّ مثل هذا الجمود ليس له أدنى مرتبة من القيمة الاستدلالية، كما أنّ تحديد نوع الخطاب عند الفقهاء له دور مهم في رسم المعالم الأساسية لتحديد طريقة التعامل مع النص، فإذا
كان النص تعبدياً توقيفياً فلا محالة لابد من التقيد به بالمدلول اللفظي بعد الفراغ من الفحص عن القرائن الحالية أو المقالية، وأما إذا كان النص إمضائياً ورد في مقام إمضاء ما عليه العقلاء كالنصوص الواردة بشأن
صحة البيع أو لزوم الوفاء بالعقد فحينئذ يمكن الرجوع إلى السيرة العقلائية لفهم الموضوع ولفهم الحكم أيضاً كما نبه على ذلك عدة من الفقهاء في أبحاثهم.[161]
وهذا الموضوع من الموضوعات الحساسة في عملية الإستنباط، فإذا أردنا أنْ ندرس سيرة المعصومين عليهم الصلاة والسلام لنستنبط منها حكماً شرعياً في الأمور السياسية أو الإجتماعية، وكذا إذا أردنا أنْ نستوعب
ما يقصد الإمام من عبارة معينة تصدر منه في مثل هذه الأمور، فلا إشكال في أنّ معرفة الوضع الذي يعيشه الإمام عليه الصلاة والسلام والقدرة على تشخيصه له أثر مهم في تحليل موقف الإمام عليه السلام أو
إستنتاج المقصود من عبارته، وتفريغ النص من معطياته السياسية والاجتماعية أو غيرها لاشك قد يفرغه من محتواه، وبالتالي لا يكون متطابقاً مع مقصود المتكلم، لأنّ المتحدث أثناء حديثه قد لا يتحدث ببعض
الأمور ولا يشير إليها إعتماداً على وضوحها لدي السامع، فيكون واقع الحال في حـد ذاتـه قرينة على ما يقصده من العبارات التي تصدر منه.
ومن هنا فدراسة تاريخ الأئمة المعصومين عليهم الصلاة والسلام يحتاج إلى دراسة مستوعبة لظروفهم السياسية والاجتماعية والفكرية، واستيعاب تلك الظروف يتطلب وعياً وقدرة استيعاب تلك القضايا، ولا يمكن
لمن ليس لديه وعياً إجتماعياً وسياسياً أنْ يستوعب تلك الظروف بدقة، وعلى سبيل المثال فإذا أردنا أنْ نقارن بين نهضة سيد الشهداء الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام وصلح الإمام الحسن عليه الصلاة والسلام
لاستنباط بعض ما يرتبط بالفقه السياسي في الإسلام، فلا يمكن أنْ ندرس كلاً من الموقفين بغض النظر عن الظروف التي تسببت في الصلح، والظروف التي اقترنت مع نهضة عاشوراء، فلا يمكن أنْ يستوعب كلا
الموقفين إستيعاباً تاماً إلا من خلال دراسة المعطيات السياسية والاجتماعية وغيرهما التي صاحبت كلاً منهما، ولعل من المشاكل التي واجهت بعض الباحثين عند دراسة مثل هذه الموضوعات هو قصور فهم الواقع
والجمود على النصوص التاريخية، حتى أنّ البعض استنتج نتيجة لذلك بأنّ كلا الموقفين يجب أن نتعبد به، ولا يعلم به إلا الأئمة عليهم الصلاة والسلام وأنّ ذلك من الأسرار المختصة بهم ولعله يعرفه بعض خواص
شيعتهم في تلك الأزمنة، وبالتالي فلا يمكن أنْ نستند إليهما في فهم النظام السياسي في الإسلام، وهذا النمط من الجمود له دوره في أنْ تصبح البحوث التاريخية لاسيما ما يتعلق منها بسيرة المعصومين صلوات الله
وسلامه عليهم أجمعين دراسات لا تملك القوة العلمية التي نجدها في الأبحاث الفقهية المتعارفة.
وبالجملة فدراسة سيرة المعصومين عليهم الصلاة والسلام للاستفادة منها لاسيما في الفقه السياسي يتطلب إستيعاباً للواقع السياسي والاجتماعي بوعي ولا يتمكن من ذلك من ليس له القدرة على التحليل السياسي لتلك
الظروف في حدود ما تثبته النصوص المعتبرة، وهذا ما يجعل الوعي السياسي والاجتماعي له مدخلية في الإجتهاد على مستوى الفقه السياسي والاجتماعي.
ثانيهما: الاقتصار على النصـوص الواردة مـن دون دراسة الواقع الفعلي بدقة، وبالتالي ينشأ من ذلك ضعف في فهم الموضوعات المعقدة، ويتسبب ذلك في عدم تطابق الفقه مع الواقع، وهذا يحتاج إلى التوضيح،
ويمكن القول لبيانه بأنه وكما أوضحنا فيما تقدم إنّ من أهم الأمور التي تتقوم بها الأحكام الشرعية هو الموضوعات، والمقصود بالموضوعات كما تقدم مجموع الأمور والمعطيات المؤثرة في ثبوت تلك الأحكام،
والمؤثر في ثبوت الحكم هو المجموع بكل ما يجمعه من معطيات، فلو فقدت أو تبدلت أحد العناصر المؤثرة في ثبوت الحكم فحينئذ لا محالة يؤدي ذلك إلى تبدل الموضوع وتبعاً له قد يتبدل الحكم، وهذا ما يجعل
البحث في تحديد الموضوع يمتلك أهمية كبرى يكون لها التقدم الطبعي على البحث في الحكم الشرعى، بل لا معنى للبحث عن الحكم قبل تحديد الموضوع، إذ لا حكم بلا موضوع، وهذا ما يقتضى العمل على
تشخيص القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها لاسيما القضايا المعقدة منها، وبدون تشخيصها فحينئذ يكون البحث الفقهي لا علاقة له بالواقع، وبالنظر إلى الواقع فإنّ من الواضح وجود كم هائل من
الموضوعات المعقدة لاسيما على مستوى القضايا الاقتصادية والسياسية بحاجة إلى دراسة مستوعبة وإستيعابها له أثره في تكامل الفقه الإسلامي، والظاهر من عبارة الإمام قدس سره في عدم كفاية الإجتهاد اللفظي هو
هذا المعنى.
الثاني: أثر فهم الموضوع على الاجتهاد
إتضح مما تقدم التقدم الطبعي للموضوع على الحكم، وتوقف الحكم عليه، وهذا ما يتضح منه الأثر المهم لمعرفة الموضوعات على الإجتهاد، بل إنّ بعض الأبحاث الفقهية الموسعة لدي الفقهاء قد يكون الهدف منها هو
تشخيص الموضوعات، ففي أبحاث الدماء الثلاثة مثلاً يبحث الفقهاء أبحاثاً واسعة جداً تتعلق بتشخيص دم الحيض قبل البحث في الأحكام، والبحث في تشخيصه هو بحث يتعلق بالموضوع وليس بالحكم كما هو
واضح، ولا بأس أنْ نذكر مثالا بسيطاً على مستوى البحوث الإقتصادية وقد بحثه عدة من الفقهاء المعاصرين أعلى الله تعالى كلمتهم، وهو البحث حول معيار القيمة للنقود بالفعل حيث أنّ هذا الاختلاف عن المعايير
القديمة قد تكون له آثار كبيرة عن كثير من الأحكام المالية، فالنقود عندما كانت دنانير ودراهم من الذهب والفضة كان المعيار في قيمتها أنّ ذات النقود عبارة عن معادن ثمينة، فلو وعليه فلو اقترض شخص مئة دينار
مثلاً فعليه أنْ يسدد نفس ذلك المقدار بلا زيادة ولا نقيصة، لأن المال بالرقم المتقدم لم يتبدل، بينما النقود الفعلية يختلف المناط في تحديد قيمتها عن المناط القديم وقد مر تحديد قيمة هذه الأموال بأدوار متعددة في سير
زمني طويل حتى آل الأمر إلى أنْ تكون القيمة قائمة على أساس واقع الثروة والإمكانات الحقيقية التي تملكها الدولة طبقاً لمعـادلات وحسابات علمية دقيقة.[162]
يقول المحقق السيد محمود الهاشمى (حفظه الله تعالى): وعلى هذا الأساس يُعرف أنّ مفهوم الرصيد للأوراق النقدية في الوضع العالمي اليوم لم يعد ما كان سابقاً من مبلغ معين في ذمة شخص أو جهة، وإنما رصيد
النقود الورقية لكل دولة عبارة عن مجموع ما تمتلكه من القدرة الإقتصادية على التعهد بسلع أو أعمال وخدمات اقتصادية، لا بمعنى أنّ مبلغاً معيناً يكون منها يكون محكياً بمبلغ معين من هذه الأوراق كما هو شأن
السندات، بل بمعنى أنّ هذه الأوراق تمكن صاحبها من امتلاك مبلغ من تلك الإمكانات وفق ما تقتضيه قاعدة العرض والطلب ومدي ازدهار وتقدم الوضع الاقتصادي للبلد، أي أنّ أي شيء يُفترض رصيداً لهذه
الأوراق فهو محكوم لنظام التضخم وصعود قيمته أو انخفاضها بالقياس إلى الأوراق، في حين أنّ شيئاً ما لو كان رصيداً لهذه الأوراق بمعنى سندية الأوراق له، وحكايته عن ثبوته في ذمة الدولة المصدرة للأوراق لما
كان من المعقول هبوط مبلغ ذلك الشيء باستمرار أو صعوده أحياناً، أي إنّ سنداً ما إذا كان حاكياً عن مثقال من الذهب في ذمة أحد لكان يبقى ما في ذمته المحكي بهذا السند دائماً مثقالاَ من الذهب لا يزيد ولا ينقص.
[163]
وهذا الاختلاف قد ينعكس على تبدل الحكم في القروض وغيرها، ولذا قد يقال بأنّ المقترض عليه أنْ يضمن انخفاض قيمه النقد، كما أنّ بعض الفقهاء رتبوا على هذا الاختلاف جملة من الأحكام لا مجال هنا
لتفصيلها.[164]
وهذا المثال ذكرناه فقط للتوضيح أثر فهم الموضوعات المستحدثة على إستنباط الأحكام الشرعية، والموضوعات المرتبطـة في الواقـع كثيرة سـواء في باب الإقتصاد أو العـلاقات الدولية أو عموم القضايا السياسية أو
الإجتماعية.
الثاني: الاعلمية
من المشروط التي يتسالم عليها غالبية الفقهاء المعاصرين في مرجع التقليد شرط الأعلمية، والأعلم على ما يذكره الفقهاء هو الأكثر إطلاعاً والأدق نظراً، والبحث في هذا الشرط يتأكد في المسائل الخلافية بين الفقهاء
حيث يقع التعارض في الفتاوى، وحينئذ لابد من البحث عن المرجح والترجيح إنما هو في الرجوع إلى الأعلم، والرجوع إلى الأعلم عند التعارض من البديهيات التي تسالم عليها العقلاء[165]، ولا نريد أنْ نطيل
البحث في هذا الموضوع الذي يعتبر من الأمور المتسالم عليها بين الفقهاء الفعليين، ولم يخالف فيه من المعاصرين إلا النادر، ولكن لا بأس من التعرض إلى أسلوب تشخيص الأعلم، ويقع الكلام في عدة جهات:
الأولى: ضوابط تشخيص الأعلم من قبل أهل الخبرة
الأعلم هو الإنسان الذي تتوفر فيه مقومات الإجتهاد أكثر من غيره من الفقهاء، وذلك من خلال أمرين:
الأول: سعة الإطلاع فهو من يكون أكثر إطلاعاً على الأدلة من غيره.
الثاني: يكون أقدر من غيره في تطبيق القواعد والأصول المؤثرة على عملية الإستنباط.
ومن هنا فلأجل تشخيص الأعلم بين المجتهدين فلا بد حينئذ من الإطلاع على بحوث من يحتمل فيهم الأعلمية لضمان كلا الجانبين، وليتضح الأمر لا بأس من الحديث وباختصار عن كل من العاملين المؤثرين في
تحقق الأعلمية:
أولاً: سعة الاطلاع:
يوجد ثلاثة أنواع من الأدلة التي يستخدمها الفقيه عندما يريد أنْ يقوم بعملية الإستنباط:
الأول: الأدلة اللفظية: وهي عبارة عن نصوص الكتاب الكريم والسنة الشريفة الصادرة من المعصومين عليهم الصلاة والسلام، وما ينقل في كتب التاريخ والفقه وغيرها مما له تأثير على عملية الإستنباط، ولعل هذا
الأمر بالفعل في طائفة كثيرة من أحكام العبادات من الصعب أنْ يحصل فيه تفاوت يُعتد به بين الفقهاء لتوفر كتب الحديث واستيفاء كثير من المسائل بالبحث على مدي قرون طويلة، كما أنّ الموسوعات المصنفة
جمعت أغلب الأحاديث الواردة بهذا الشأن، وإنما يقع التفاوت في سعة الإطلاع حول مجموعة من المسائل التي لم تأخذ القدر الكافي من البحوث الإستدلالية المعمقة، كما في بعض الأبحاث المرتبطة بالفقه السياسي
مثلاً والتي قد تتطلب دراسات تفصيلية في الأوضاع السياسية والفكرية التي كانت في زمن المعصومين عليهم الصلاة والسلام، فمثلاً البحث في شرعية ثورة زيد بن علي (ع) وكذا شرعية ثورة محمد بن عبد الله بن
الحسن المعروف بذي النفس الزكية وموقف أهل البيت عليهم الصلاة والسلام من هذه الثورات قد يكون له أثر مهم تنعكس على بعض البحوث والدراسات الفقهية في غير الأبواب المتعارفة المتعلقة بالفقه الفردي،
ودراسة هذه الموضوعات يحتاج إلى إحاطة وتتبع خصوصاً والموسوعات المتوفرة بشأن الحديث أو التاريخ لم تستوف جمع ذلك، وللبحث في ذلك لابد من جمع جميع النصوص ذات الصلة في مثل هذه
الموضوعات والتي قد يكون لها تأثير كبير على الاستدلال والبحث، وفي هذا المجال لابد من البحث عمن يكون أكثر تتبعاً وإحاطة، فإنّ البعض يقتصر في ذلك على ما هو في حوزته أو في حدود إطلاعه من
المنقولات التاريخية، بينما البعض قد يكون له إحاطة موسوعية، وقد يكون الفرق نتيجة لذلك أنّ الأقل إطلاعاً ينتهي إلى عدم كفاية النصوص في الدلالة على أمر معين، والأكثر إطلاعاً يتوصل إلى دلالتها بسبب
سعة إطلاعه، أو قد يتسبب الاختلاف في تفسير بعض القضايا التاريخية نتيجة لتفاوت البحث.
كما أنّ من الأمور التي قد يكون لها أثر بارز على الإستنباط في مجال الإطلاع والتتبع الإحاطة بموسوعات وكتب الحديث بصورة عامة وكذا كتب التراجم وغيرها، حتى غير كتب الإمامية فنتيجة للإطلاع الأوسع
قد ينتهي الفقيه إلى تواتر بعض الأحاديث، بينما قد لا يتوصل فقيه آخر إلى هذه النتيجة ليس من جهة الاختلاف في فهم الدليل، بل من جهة أنه لم يطلع بالشكل الذي يمكن أنْ يتوصل معه إلى تلك النتيجة، ولذا
فالإحاطة بجميع كتب الحديث حتى كتب غير الشيعة الإمامية لاشك في أنه مؤثر على علم الفقيه وبالتالي قد يتدخل في الأعلمية لاسيما في بعض المسائل التي تحتاج إلى مثل هذا التتبع، وعلى سبيل المثال يوجد
أحاديث معينة قد لا يتوصل الفقيه إلى اعتبارها من جهة السند بحسب ورودها في كتب الحديث عند الشيعة الإمامية، مثل حديث: (طلب العلم فريضة على كل مسلم)[166]، ولكن بعد تتبع طرقه في جميع كتب
الحديث قد ينتهي إلى تواتره والقطع بصدوره.
الثاني: الأدلة العقلية: من الأمور التي تسالم عليها الفقهاء في الوقت الحاضر حجية الدليل العقلي الذي يوجب القطع واليقين، وعلى أنّ حجيته تامة بحيث لا يمكن رد العمل بما يقتضيه، وأنه مقدم حتى على الظنون
المعتبرة الثابتة من جهة النقل فيما لو حصل تعارض على وجه لا يمكن الجمع بينهما[167]، وهذا ما يقتضى أنْ يكون الفقيه متمكناً من الأدلة العقلية لاسيما في المسائل التي تتوقف على هذه المسائل أو تؤثر فيها
بنحو يعتد به، وقد يتمكن بعض الفقهاء من التعامل مع الأدلة النقلية، بينما لا تكون ليس نفس تلك القدرة في مجال التعامل مع الأدلة العقلية، بل قد يتمكن البعض من نوع من الأدلة في حين أنّ البعض الآخر من الأدلة
لا يتمكن من الاستفادة منه، وعلى هذا الأساس بنى عدة من الفقهاء إمكانية التجزء في الإجتهاد[168]، وعليه ففي المسائل المحتاجة إلى الاستدلال العقلي الأكثر إطلاعاً فيها هو الأكثر معرفة للبعض العلوم العقلية
ومن أهم تلك العلوم المنطق والفلسفة مضافاً للبحوث الأصولية العقلية كمبحث اجتماع الأمر والنهي ونحوه.
الثالث: الأدلة العقلائية: والمقصود من الأمور العقلية هي الأمور المجعولة من قبل العقلاء، والتي تسالموا عليها لغرض إبقاء النوع وحفظ المصالح الإجتماعية[169]، وقد يتفاوت الفقهاء في تتبع تلك الأدلة ولاشك أنّ
مثل هذا التتبع له مدخلية مهمة في أعلمية الفقيه.
ثانياً: القدرة على تطبيق القواعد ودقة النظر:
وعلى مستوي دقة النظر واستيعاب مضامين الأدلة وتطبيق القواعد المقررة لعملية الإستنباط يمكن أنْ نسجل الملاحظات التالية:
أولاً: العلوم التي تؤدي إلى دقة النظر ليس فقط عبارة عن علم أصول الفقه، فعلم الأصول رغم أهميته البالغة ودوره الأساسي في عملية الإستنباط، غير أنه لا يكفي التوسع فيه لأنْ يكون الفقيه أدق نظراً إلا في
المساحة المتوقفة على علم الأصول وفي مقابله فإن علوم الحديث الشريف لا تقل أهمية عنه، بل قد يكون الأساس في دقة الفقيه والعامل المؤثر على إجتهاده وأعلميته في بعض المسائل في تمكنه من علوم الحديث،
ومن الملاحظ لدى كثير من الفضلاء في الحوزة العلمية أنهم يبذلون جهوداً كبيرة جداً لإتقان علم الأصول وضبط مصطلحاته، بينما لا يعطون نفس تلك الأهمية للبحث في علم الرجال وأحوال الرواة وسائر البحوث
المرتبطة بدراية الحديث، وحينئذ قد يكون بعض الفقهاء لديه إطلاع أقل من غيره على البحوث الأصولية، ولكنه في نفس الوقت قد يكون أعلم من غيره في بعض المسائل لكونها تتطلب سعة إطلاع بالنسبة لعلوم
الحديث أكثر من حاجتها إلى علم أصول الفقه، كما أنّ بعض المسائل قد تتطلب جهداً أكبر في علوم اللغة العربية، ويكون المطلوب فيها تتبعاً واسعة للغة، وبعض المسائل أيضاً قد يتوقف على إحاطة المجتهد بعلم
الكلام (= العقائد)، وحينئذ فالبحث في تحديد الأعلم لابد أنْ تلاحظ فيه جميع هذه التوازنات.
ثانياً: بعض المسائل ولاسيما في باب الفقه السياسى والإجتماعى قد تتوقف على دراسة الفقيه لبعض المسائل ذات الصلة بالفقه كأنْ يكون متتبعاً لأهداف الإسلام المتعلقة بوجود الإنسان الفردي والإجتماعى على جميع
المستويات من خلال دراسة القرآن الكريم والنصوص المعتبرة وسيرة المعصومين عليهم الصلاة والسلام وغير ذلك مما يمكن من خلاله اكتشاف ذلك، وقد يؤثر ذلك حينئذ على الإجتهاد والأعلمية، وهذا الأمر نبه
عليه غير واحد من الفقهاء المعاصرين منهم المحقق السيد محمـود الهاشمي (حفظه الله تعالى)[170]، ومن الواضح أنْ الأهداف الإسلامية المرتبطة بشئون الحياة المختلفة قد تترك أثراً واضحا على تحديد الوظيفة
الشرعية في كثير من الأمور.
ثالثاً: فهم الفقيه للواقع الفعلي لاسيما في القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بل والحقوقية كذلك، قد يكون له تأثير مباشر على اجتهاد الفقيه، لأنه قد يكون له أثر بالغ في فهم واستيعاب موضوعات المسائل
المستحدثة[171]، كما أكد على ذلك الإمام الخميني قدس سره وقد تقدم كلامه بهذا الشأنْ، وبالتالي فالأكثر إطلاعاً على الواقع قد يكون أقدر وأدق تشخيصاً لبعض الموضوعات في هذه الأبواب، وبالتالي قد يؤثر ذلك
في أعلميته.
رابعاً: بعض المسائل قد تتوقف على الوعي الاجتماعي للفقيه، بحيث تتطلب نظرة اجتماعية تلحظ فيها الأبعاد الإجتماعية وحيثاتها وأطرافها، وتحتاج إلى عدم الاقتصار على الفهم الفردي للأمور، وهذه الملاحظة
تنبه لها الفقيه الكبير المحقق السيد الشهيد الصدر قدس سره، يقول (طاب ثراه):
... فقد أخذ الإجتهاد يُركز باستمرار على الجوانب الفقهية الأكثـر اتصالا بالمجال التطبيقي الفردي وأهملت المواضيع التي تمهد للمجال التطبيقي الاجتماعي نتيجة انكماش هدفه واتجاه ذهنية الفقيه غالباً إلى الفرد
المسلم وحاجته إلى التوجيه بدلاً من الجماعة المسلمة وحاجتها إلى تنظيم حياتها الإجتماعية، وهذا الإتجاه الذهني لدي الفقيه لم يؤد فقط إلى انكماش الفقه من الناحية الموضوعية، بل أدي إلى تسرب الفردية إلى نظرة
الفقيه نحو الشريعة نفسها، فإنّ الفقيه بسبب ترسخ الجانب الفردي من تطبيق النظرية الإسلامية للحياة في ذهنه واعتياده أنْ ينظر إلى المفرد ومشاكله عكس موقفه هذا على نظرته للشريعة فاتخذت طابعاً فردياً،
وأصبح بنظره إلى الشريعة في نطاق الفرد وكأنّ الشريعة ذاتها كانت تعمل في حدود الهدف المنكمش الذي يعمل له الفقيه فحسب، وهو الجانب الفردي من تطبيق النظرية الإسلامية للحياة.[172]
إلى أنْ قال: وقد امتد أثر الانكماش وترسخ النظرة الفردية للشريعة إلى طريقة فهم النص الشرعى أيضاً، فمـن نـاحيـة أُهمـلت في فهـم النصـوص شخصيـة النبي صلى الله عليه وآلهوسلم أو الإمام عليهالسلام كحاكم
ورئيس دولة، فإذا ورد نهى عن النبي صلى الله عليه وآلهوسلم مثلاً كنهيه أهل المدينة عن منع فضل الماء، فهو إما نهي تحريم أو نهي كراهة عندهم، مع أنه قد لا يكون هذا ولا ذاك، بل قد يصدر النهى من النبي
صلى الله عليهوآله وسلم بوصفه رئيساً للدولة فلا يُستفاد منه الحكم الشرعي العام.
ومن ناحية أخرى لم تعالجَ النصوص بروح التطبيق على الواقع واتخاذ قاعدة منه، ولهذا سوّغ الكثير لأنفسهم أنْ يجزئوا الموضوع الواحد ويلتزموا بأحكام مختلفة له وأستعين على توضيح الفكرة بمثال من كتاب
الإجارة، فهناك مسألة المستأجر هو يجوز له بدوره أنْ يؤجر العين بأجرة أكبر من الأجرة التي دفعها هو حين الإيجار، وقد جاءت في هذه المسألة نصوص تنهي عن ذلك، والنصوص كعادتها جاءت لتعالج مواضيع
خاصة، فبعضها نهى عن ذلك في الدار المستأجرة، وبعضها نهي عن ذلك في الرحى والسفينة المستأجرة، وبعضها نهي عن ذلك في العمل المأجور، ونحن حين ننظر إلى هذه النصوص بروح التطبيق على الواقع
وتنظيم علاقة اجتماعية عامة على أساسها نتوقف كثيراً قبل أنْ نلتزم بالتجزئة وبأنّ النهي مختص بتلك الموارد التي صرحت بها النصوص دون غيرها، وأما حين ننظر إلى النصوص على مستوى النظرة الفردية
لا على مستوى التقنين الاجتماعي فإننا نستسيغ هذه التجزئة بسهولة.[173]
وبهذا يتضح أنّ الفهم الاجتماعي للفقيه له أثر مهم جداً على الإجتهاد والأعلمية، وقد طرح هذا الموضوع فقيه من أعظم فقهاء هذا العصر، لا يختلف الفقهاء في منزلته وعلو مرتبته في البحث والتحقيق وسعة
الإطلاع، وقد شهد له بذل عدة من كبار فقهاء هذا العصر منهم الإمام الخميني قدسسره وأستاذه الفقيه الكبير المحقق السيد الخوئي قدس سره.
وعلى هذا فتحديد الأعلم سواء في جوانب معينة أو في الفقه بشكل عام لابد أنْ تلحظ فيه جميع هذه التوازنات وبدقة تامة، ولابد من مقارنته مع غيره ممن تُحتمل فيهم الأعلمية وفي كافة هذه المستويات المذكورة.
الثانية: إمكانية وجود الأعلم في الفقه
لا ينبغي التردد في الإمكان العقلي بالنسبة لوجود فقيه أعلم في جميع أبواب الفقه، كما أنّ ذلك قد حصل في السابق، فمن المسلم أنّ الشيخ المفيد قدس سره مثلاً كان متقدماً على أعلام عصره في العلوم المختلفة، وكذا
الحال بالنسبة للسيد المرتضي وشيخ الطائفة الطوسي (قدس سرهما)، وهكذا الأمر بالنسبة لعلامة الحلي قدس سره، وإنما الكلام في وقوع ذلك في الأزمنة المعاصرة، ومنشأ الإشكال هو التوسع الذي طرأ على الفقه
الإسلام بشكل خاص، والعلوم الإسلامية بصورة عامة، خصوصاً وأنّ الفقيه إذا أراد أنْ يتفرع بتوسع للبحث في بعض الأبواب الفقهية مستوعباً لجميع جهاتها قد لا تُتاح الفرصة أنْ يبحث في غيرها بنفس هذا الحجم
من التوسع، فالدورة الأصولية عند بعض الفقهاء قد تستغرق قرابة عشرين عاماً، وإذا أردنا أنْ نتوسع في الإقتصاد بكل أطرافه فربما يوازى البحث فيه مقدار ما هو مبحوث بالفعل بحسب ما هو مدون من كتب
الفقهاء، كما أنّ أسس الاستدلال وأدوات البحث ومتشعبة ومختلفة حسب اختلاف نوع المسائل وطبيعة احتياجاتها إلى الأدلة، والفقيه رغم أنه لا يدون رسالة عملية كاملة وفي حدود المسائل الفردية غالباً إلا بعد أن
يقوم بعملية الإستنباط على جميع المسائل، ولكن السؤال الذي يُطرح هو هل أنّ بالإمكان أنْ يُعطي من الجهد والتتبع لجميع تلك المسائل بنفس الجهد الذي يُعطيه لبحوثه التفصيلية التي يتفرغ لها أثناء التدريس
والمناقشة، أم أنّ في المقام تفاوتاً في حجم الجهد الذي يبذله المجتهد، ونضيف إلى ذلك سؤالاً آخر وهو أنّ الفقيه المتمكن من جانب معين من الجوانب المؤثرة على عملية الإستنباط كعلم أصول الفقه مثلاً والمتقدم على
غيره في هذا المجال هل يكون عادة متقدماً في جميع المجالات الأخرى ذات التأثير الذي لا يقل أهمية عن علم الأصول في الجملة كعلم الحديث مثلاً، ومن الواضح أنّ هذا التوسع الكبير والواسع في الفقه الإسلامي
وأدوات الإستنباط العلمي تجعل من الصعوبة وجود شخص يكون دائماً هو الأقدر من غيره في جميع أبواب الفقه، خصوصاً بعد التدقيق في اتساع البحث العلمي واختلاف المسائل بحسب حاجتها إلى نوع الدليل
واتساع البحث أيضاً في أصول الاستدلال وقواعد البحث العلمي، ولذا نجد غير واحد من الفقهاء المعاصرين وإنْ قبل فكرة وجوب تقليد الأعلم ولكنه يري صعوبة تشخيص الأعلم بالفعل، وقد سمعنا من غير واحد
بشأنْ الأعلمية ليس فقط بالنسبة للفقهاء الأحياء، بل لبعض الفقهاء الذين تقدموا عليهم يرى أنْ تحديد الأعلم في جميع أبواب الفقه أو في كتب وأبواب معينة أمر في غير محله، وأنّ مثل الإمام الخميني والسيد الخوئي
والسيد الكلبايكاني والشيخ الأراكي والميرزا هاشم الآملي (رضوان الله تعالى عليهم) وجماعة آخرين متقاربين في المستوى العلمي، وأنّ كل واحد منهم له ما يميزه في بعض الجوانب دون غيره، وأنّ التميز التام في
جميع الأبواب لا تحقق له.
بل يمكن القول بأنّ الفقه الإسلامي أصبح بمقدار من النمو قد يمتنع معه لأحد أنْ يحيط بجميع أطرافه وجوانبه لاسيما إذا أضفنا إليه كثير من العناوين والمسائل الإقتصادية والاجتماعية والحقوقية والسياسية وغيرها،
وهذا من الواضحات، يقول المحقق الشهيد المطهرى قدس سره أثناء حديثه عن تطور الفقه الإسلامي:
إنّ تقسيم العمل في العلوم هو نفسه علة تكامل العلوم، ومعلوم أيضاً أنّ العلوم تنمو تدريجياً حتى تصل مرحلة لا يكون بمقدور الفرد الواحد الإحاطة بها من جميع جوانبها.[174]
أقول: والتوسع في البحوث الفقهية إلى هذا الحد مما لا مجال لإنكاره، خصوصاً بعد ملاحظة أنّ الفقيه في الوقت الحاضر قد لا يتسع له المجال حتى في نطاق بعض المسائل أنْ يطلع على جميع المناقشات المطروحة
حتى من قبل ذوى الإختصاص والتتبع، ففي علم الأصول لو أردنا أنْ نناقش النظـريات الأصـولية إلى حـد التعـرض إلى رأي الأعلام الثـلاثة[175]، فإنّ هذا سيستغرق جهداً كبيراً جداً، فكيف إذا أراد الفقيه تتبع ما
يضاف إليه من آراء بقية المحققين كالشيخ عبد الكريم الحائري والسيد أبو الحسن الإصفهاني والسيد البروجردي والسيد الحكيم وتلامذة هؤلاء من كبار فقهاء الطائفة كالإمام الخميني والسيد الخوئي والميرزا هاشم
الآملي والشيخ الأراكي وغيرهم ومن ثم الفقهاء المعاصرين، ولاشك أنّ نفس هذا التتبع له والمناقشة له دوره في نمو عملية الإستنباط.
الثالثة: تشخيص الأعلم بالنسبة لأهل الخبرة
من الواضح أنّ عملية تشخيص الأعلم لابد فيها من مراعاة الضوابط المتقدمة بمجموعها، كما أنّ من الواضح أيضاً أنّ التشخيص بلحاظ جميع ما تقدم يحتاج إلى جهد مميز ودقة بالغة من قبل ذوي الخبرة، ويضاف
إلى ذلك فإن تشخيص الإجتهاد وإنْ كان يمكن أنْ يكتفي فيه بمتابعة بحوث فرد واحد ومن ثم الحكم عليه بالاجتهاد أو عدمه، ولكن الأمر بالنسبة لتشخيص الأعلم يختلف عنه، إذ لابد فيه من متابعة بحوث جميع من
يُحتمل فيهم الأعلمية سواء كانوا من طبقة متقدمة أو متأخرة، ومع وجود العدد الكبير من الفقهاء واتساع البحوث العلمية فإنّ عملية تشخيص الأعلم على تقدير وجود الأعلم في جميع أبواب الفقه أو في بعضها في
الوقت الحاضر عملية شاقة وتحتاج جهداً خاصاً، ولا يكفي فيه مجرد الإطلاع العابر على البحوث الفقهية والأصولية وبحوث الحديث وغيرها، وتشخيص الأعلم بهذه الشروط وطبقاً لما تقدم هو أمر لا تحقق له
بالفعل، فأهل الخبرة يطلعون عادة على بحوث عدد يسير من الفقهاء، وعادة لا يتسنى لشخص من أهل الخبرة الإطلاع على كل من تُحتمل فيهم الأعلمية بهذا التدقيق لما تتطلبه هذه العملية من جهد خاص وتفرغ
واسع، وعندما كنا نسأل من عدة من أهل الخبرة حول شهادتهم بشأن الأعلمية إلى زمان وجود الفقيه الكبير المحقق الشيخ محمد علي الأراكي قدس سره كنا نلمس هذا الأمر، فالكثير ممن شهد بأعلمية هذا المجتهد أو
ذاك إنما أتيحت له الفرصة أنْ يطلع على مستوى بعض المجتهدين وبحدود معينة، بينما لا دراية له عن البعض الآخر بأدنى إطلاع، ولو فرضنا أنّ من شهد بأعلمية أحد من الفقهاء استوفى الشروط المطلوبة في
المقارنة بينه وبين جماعة أخرى من المجتهدين، فإنما تكون لشهادته كاشفية عن الأعلمية في حدود ما اطلع عليه فهي تكشف حينئذ عن كون هذا الفقيه هو الأعلم ممن جرت عليهم المقارنة بينهم وبينه، من دون أن
تكشف أنْ الأعلمية المطلقة على سائر الفقهاء، وهذا الأمر واضح لمن له أدنى إطلاع على واقع الحركة العلمية في الحوزات العلمية، وهو ما يجعل الشهادات الواردة بشأن الأعلمية عادة غير تامة.
وبالجملة فعملية تشخيص الأعلم تحتاج إلى جهد متميز وتتبع لبحوث جميع الفقهاء الذين يُحتمل فيهم الأعلمية، وهذا العمل في غاية الصعوبة، بل لو تحقق فهو نادر التحقق من قبل أهل الخبرة والاختصاص، بل ومن
المقطوع به، أنّ أغلب ذوي الخبرة ليس له الوقت الكافي لتتبع بحوث جميع الفقهاء، على أنه من الملاحظ أنّ بعض الفقهاء عادة يتم استثناءهم من عملية المقارنة بين المستويات نتيجة لعدم تقدمهم في السن أو عدم
اشتهار بحثهم أو لأسباب أخرى، فمثلاً يوجد بعض المجتهدين الكبار لم تُطرح أسماءهم في عداد مراجع التقليد بالرغم من أنّ مستواهم العلمي لا يقل عن عدة من المطروحين للمرجعية وبشهادة بعض ذوي الخبرة.
الرابعة: تشخيص الأعلم بالنسبة للمقلد
يذكر الفقهاء في رسائلهم العملية أنّ غير المجتهد يمكنه تشخيص الأعلم بأسلوبين:
الأول: شهادة عدلين من أهل الخبرة.
الثاني: الشياع المفيد للعلم أو الاطمئنان.
وبالنسبة للشياع فلا بد أنْ يفيد الاطمئنان، وليس للشياع في حد ذاته خصوصية، وإنما الخصوصية للاطمئنان الذي هو حجة شرعية، ويمكن الاعتماد عليه سواء حصل من خلال الشياع أو من غيره، وهذا المقدار لا
نقاش فيه بين المحققين.
وأما بالنسبة للبينة، فقد ذكر الفقهاء بأنه يشترط في البينة أنْ لا تكون معارضة ببينة أخرى، وعليه فلو وردت بينة تفيد أعلمية فقيه معين، وجاءت أخرى تدل على أعلمية فقيه آخر، فحينئذ تتعارض كلا البينتان،
والمعروف أنّ كلتا البينتين حينئذ تتساقطان، ولا يمكن الاعتماد على كل منهما، وقد ذكر بعض الفقهاء أنه يؤخذ في هذه الصورة بالبينة الأكثر خبرة، وتشخيص البينة الأكثر خبرة هي الأخري قد يصل إليها غير
الفقيه، وقد يحصل فيها التعارض، وفي كثير من الأحيان يصعب تشخيص مثل هذه البينة على غير ذوي الخبرة، وعلى غير القريبين من الأوساط العلمية، وهذا ما يجعل الاعتماد على البينة في الوقت الحاضر غاية
في الإشكال، إذ لا يوجد بينة غير معارضة ببينة غيرها تدل على أعلمية فقيه معين، ومنه يظهر أنّ ثبوت الأعلمية بالبينة في الوقت الحاضر أمـر غير متيسر.
وفي المقام مشكلتان تعيقان تشخيص الأعلمية بواسطة البينة مضافاً لمشكلة التعارض بين البينات:
أحدهما: أنّ المباني التي يتقرر من خلالها تشخيص الإجتهاد في بعض الموارد وتشخيص الأعلمية مختلفة، فلا يتفق الفقهاء على جميع العناصر المؤثرة في ثبوت العلمية فبعض العناصر المتقدمة كما أنه يقول به
بعض الفقهاء ويؤكدون عليها بمجموعها كما بينا ذلك عنهم، كذلك يوجد من لا يقبل بها، وعليه فمن يقتصر على بعض العناصر المذكورة دون البعض الآخر فإنّ بينه لا تفيد الأعلمية بناءاً على رأي من يقول بمدخلية
جميع العناصر المذكورة، ومع هذا التعارض فإنه يقع الكلام حينئذ في حجية مثل تلك البينة على غير المجتهد، بل تكون حينئذ بالنسبة إليه وبسبب الاختلاف في بعض المباني مشكوكة الحجية، وكما هو معروف بين
الفقهاء فإن الشك غي الحجية يساوق عدمها.
ثانيهما: ما تقدم من أنّ الشهادة الناتجة من الإطلاع على بحوث جميع الفقهاء هي شهادة نادرة أو لا وجود لها بالفعل، وعادة الشهادات إنما تصدر بعد مقارنة عدد محدود من الفقهاء، وهذا المقدار لا يمكن أنْ تثبت به
أعلمية فقيه على جميع الفقهاء الموجودين.
وبالجملة تشخيص الأعلم في الوقت الحاضر إنْ لم يكن ممتنعاً في غاية الصعوبة.
الخامسة: وظيفة غير المجتهد عند عدم إمكان تشخيص الأعلم
يختلف الفقهاء في بادئ الأمر حول وظيفة غير المجتهد عند عدم تمكنه من تشخيص الأعلم على قولين:
أحدهما: التخيير بين جميـع الفقهاء الـذيـن تُحتمـل فيهـم الأعلمية، وتتسع دائرة هذا التخيير وتتضيق بتوسع الاحتمال وتضيقـه، وممن ذهب إلى هذا القول من الفقـهاء الإمـام الخميني قدس سره.
ثانيهما: لزوم العمل بأحوط الأقوال مع التمكن، ومع عدمه ينتهي الأمر إلى التخيير وممن ذهب إلى هذا القول السيد المحقق الخوئي قدسسره.[176]
فالقول الأول يعتبر غير المجتهد مخيراً في الرجوع إلى أي فقيه شاء، بينما القول الآخر، ينتهي إلى التخيير مع عدم التمكن من الاحتياط، ومن الواضح أنّ العمل بأحوط الأقوال لأغلبيـة الناس لا سيّما إذا تكثرت
وتعددت أمر في غاية الصعـوبة فينتهي الأمر إلى التخيير، وتكون نتيجة كلا القولين بالنسبة لهم واحدة.
الثالث: التناسب لمقام المرجعية والقدرة على التصدي
هذا الشرط ذكره الفقيه الكبير المحقق السيد الشهيد الصدر قدس سره في كتابه الفتاوى الواضحة حيث يقول:
المجتهد المطلق إذا توفرت فيه سائر الشروط الشرعية في مرجع التقليد المتقدمة في الفقرة (4) جاز للمكلف أنْ يُقلده كما تقدم، وكانت له الولاية الشرعية العامة في شؤون المسلمين شريطة أنْ يكون كفؤاً لذلك من
الناحية الدينية والواقعية.[177]
ويحتمل أنْ يكون ناظراً في هذا الشرط إلى دور الفقيه بصفته ولياً، ومع هذا فاشتراط ذلك في المرجعية ذهب إليه بعض أفاضل تلامذته.[178]
ويقول السيد الشهيد الصدر قدسسره أثناء كلامه عن دور المرجعية والظاهر أنّ مقصوده المرجعية بجميع وظائفها:
والمرجعية حقيقة اجتماعية موضوعية في الأمة تقوم على أساس الموازين الشرعية العامة، وهي كتطبيق تتمثل فعلاً في المرجع القائد للانقلاب الذي قاد الشعب قرابة عشريـن عـاماً وسـارت الأمـة كلهـا خلفـه حتى
حقـق النصر.[179]
ويقول أيضاً في رسالـة بعث بها إلى طلابـه الذين هاجروا إلى إيران:
ويجب أنْ يكون واضحاً أيضاً أنّ مرجعية السيد الخميني التي جسدت آمال الإسلام في إيران اليوم لابد من الالتفاف حولها، والإخلاص لها، وحماية مصالحها، والذوبان في وجودها العظيم بقدر ذوبانها في هدفها
العظيم، وليست المرجعية الصالحة شخصاً، وإنما هي هدف وطريق، وكل مرجعية حققت ذلك الهدف والطريق فهي المرجعية الصالحة التي يجب العمل لها بكل إخلاص، والميدان المرجعي أو الساحة المرجعية في
إيران يجب الابتعاد بها عن أي شيء من شأنه أنْ يُضعف أو لا يساهم في الحفاظ على المرجعية الرشيدة القائدة.[180]
ومرجعية التقليد وإنْ كان دورها من جهة نفس التقليد هو دور علمي صرف، فليس الإفتاء كما تقدم سوى عملية نيابة عن غير المجتهد بسبب عجزه عن الإستنباط، وليس التقليد سوى رجوع غير المختص إلى
المختص، ولكن مع ذلك هذا لا يعنى عدم ملاحظة لوازمه الدينية والإعتقادية، ولذا يعتبر الفقهاء هذا الدور من شئون الإمامة والزعامة الكبرى للمسلمين[181]، وعلى هذا الأساس استدل الفقهاء لإثبات بعض الشروط
ومنها شرط طهارة المولد[182].
وبالجملة فخطورة هذا المنصب وأهميتها تستدعى بالضرورة الاهتمام بمواصفات الشخص الذي يتصدى لهذا المنصب بأنْ يتمتع بالوعي الكافي وأنْ لا يكون في تصديه مفاسد اجتماعية، إذ مثل هذه المفاسد لاسيما
بعد الإلتفات إلى خطورة هذا الموقع نقطع بعدم رضا الشارع بوقوعها، بل نقطع بأن دفع مثل هذه الأضرار مقدم حتى على مصلحة إحراز الأعلمية، وهذا ما دفع غير واحد من الفقهاء إلى اشتراط أنْ تلحظ الآثار
الإجتماعية التي تتركها شخصية الفقيه المتصدي لمنصب المرجعية سواء مرجعية التقليد أو غيرها، ولذا يقول الإمام الخميني قدسسره:
يجب على المجتهد أنْ يُحيط بمسائل زمانه، فلا يقبل الشعب ولا الشباب ولا حتى العوام أنْ يقول مجتهدهم ومرجعهم إنني لا أبدي وجهة نظري في المسائل السياسية، ومن خصوصيات المجتهد الجامع العلم بأساليب
مواجهة حيل وأكاذيب الثقافة الحاكمة على العالم، وامتلاك بصيرة ونظرة اقتصادية، والإطلاع على كيفية مواجهة الإقتصاد الحاكم على العالم، والتعرف على السياسات وحتى السياسيين والمعادلات التي يملونها.
[183]
إلى أنْ قال: يجب على المجتهد أنْ يمتلك نباهة وذكاء وفراسة هداية مجتمع إسلامي كبير وحتى غير الإسلامي، وأنْ يكون مديراً ومدبراً بشكل حقيقي إضافة إلى إخلاصه وتقواه وزهده الذي هو في مستوى شأن
المجتهد.[184]
إلى هنا تم البحث في مسائل المرجعية والولاية، ونسأل الباري عز وجل أنْ يتقبل ذلك، وأنْ يكـون خالصاً لوجهه الكريم.
 

السابق ||  الهوامش

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية

مركز الصدرين للدراسات السياسية