المبحث السابع: شروط مرجعية الولاية
لا بأس قبل البدء ببيان الشروط بذكر عبارة الفقيه أبي جعفر محمد بن إدريس الحلي
المتوفى سنة (598 هـ) في مقام بيان
شروط من يتصدى للولاية حيث يقول:
فصل في تنفيذ الأحكام وما يتعلق بذلك ممن له إقامة الحدود والآداب، المقصود في
الأحكام المتعبد بها تنفيذها، وصحة التنفيذ
يفتقر إلى معرفة من يصح حكمه ويمضي تنفيذه، فإذا ثبت ذلك فتنفيذ الأحكام الشرعية
والحكم بمقتضى التعبد فيها من فروض
الأئمة عليهم السلام المختصة بهم دون من عداهم ممن لم يؤهلوا لذلك، فإنْ تعـذّر
تنفيـذها بهم عليهم السـلام وبالمأهـول لها مـن
قبلهم عليهمالسلام لأحد الأسباب لم يجز لغير شيعتهم المنصوبين لذلك من قبلهم
عليهم السلام تولى ذلك، ولا التحاكم إليه، ولا
التوصل بحكمه إلى الحق ولا تقليد الحكم مع الاختيار، ولا لمن لم يتكامل له شروط
نائب الإمام عليه السلام في الحكم من شيعته
وهي:
العلم بالحق في الحكم المردود إليه، والتمكن من إمضائه على وجهه، واجتماع العقل
والرأي، والحزم، والتحصيل، وسعة الحلم،
والبصيرة بالوضع، والتواتر بالفتيا، والقيام بها، وظهور العدالة والتدين بالحكم،
ووضعه مواضعه.[107]
يمكن القول في مقام بيان شروط المرجعية التي تتصدى لشئون الولاية بأنّ من الشروط
المفروغ عنها الإيمان وطهارة المولد
والرجولة، كما أنه يوجد صفات أخرى مسلمة، ولعل عمدة الكلام في شروط هذه المرجعية
أربعة شروط:
الشرط الأول: العدالة والتقوى
ليس المقصود هنا من البحث في هـذا الشـرط مناقشة أصل اشتراط العـدالة، فهـذا مما لا
ينبغي النقـاش فيـه، بـل هـو من
المسلمات الضرورية، وإنما البحث في أنه هل يكفي تحقق العدالة بمعنى ترك المحرمات
وفعل الواجبات بأدنى مراتب الترك
والفعل كما هو الحال بالنسبة لإمام الجماعة، أم يشترط في ذلك مرتبة أعلى من العدالة
ومن التقوى بحيث يكون غير مقبل على
الدنيا ولا طالباً لها ولا مكباً عليها، وغير مجد في تحصيلها، فهذا الأمر لا يشترط
في إمام الجماعة بل يكفي أنْ يكون عادلا ولو
بأدنى مراتب العدالة، ويكفي في ثبوت عدالته حسن الظاهر وقد ذهب عدة من الفقهاء منهم
المحقق السيد محمد كاظم اليزدي
قدسسره إلى اشتراط أنْ تكون مرتبة العدالة بما تقدم بحيث لا يكون مقبلاً على
الدنيا ولا مكباً على تحصيلها وليس له سعي وراء
حطامها من مال وجاه بل يكون متفرغاً لشئون الإسلام والتقرب إلى الباري تبارك
وتعالى[108]، وشرط عدم الإقبال على الدنيا
صرح بعض الفقهاء أنه نفس شرط العدالة وليس زائداً عليها.[109]
يقول الإمام الخامنئي دام ظله: نظراً إلى حساسية وأهمية منصب المرجعية يشترط على
الأحوط وجوباً في مرجع التقليد إضافة
إلى العدالة التسلط على النفس الطاغية وعدم الحرص على الدنيا.[110]
ويقول المحقق الشيخ محمد الفاضل اللنكراني (حفظه الله تعالى) حول هذا الشرط:
ولا مانع منه، فإنّ المرجعية من المناصب المهمة الإلهية، مرجعها إلى الزعامة الكبرى
والرئاسة العظمى في عصر الغيبـة،
فالأحـوط بملاحظـة ما ذكرنا اعتبار هـذا الأمر أيضاً.[111]
ويمكن القول بأنّ مقام الولاية وأهميته لا يمكن معه مجرد اشتراط العدالة ولو في
أدني مراتبها، فخطورة الدور وما تترتب عليه
من آثار يقتضى التشدد في هذا الشرط بأنْ يكون قدر الامكان في أعلى مراتبه، لأنّ
احتمال الانحراف مع ثبوت العدالة وإنْ كان
ضعيفاً ولكن مع ذلك لابد من العمل على الحد منه أكثر وأكثر، لأنّ المحتمل ليس
ضعيفاً، وفي صورة قوة المحتمل يراعي
المحتمل وليس الاحتمال عند العقـلاء كما هو واضح.
يقول الإمام الخميني قدسسره: لا تخافوا من ولاية الفقيه، فالفقيه لا يريد ظلم
الناس، وإنّ مثل هذا الفقيه الذي يريد أنْ يظلم الناس
لا ولاية له، إنه الإسلام، والحكم للقانون في الإسلام.[112]
إلى أن قال: ... الفقيه لا يكون مستبداً، فالفقيه الذي يملك هذه الأوصاف يكون
عادلاً، وعدالته هي غير العدالة الاجتماعية
المصطلح عليها، بل هي عـدالـة بحيث أنّ كلمـة كـذب واحدة تُسقطه عن العدالة، فمثل
هذا الإنسان لا يرتكب خلافاً، إنه لا
يرتكب المخالفة.[113]
ويقول المحقق السيد محمود الهاشمي الشاهـرودي (حفظه الله تعالى):
ورد في الأحاديث وكلمات العلماء بأنّ العدالة المعتبرة في المرجعية هي ذروتها، لأنّ
المقام والمنصب شامخ جداً.[114]
الشرط الثاني: الفقاهة والاجتهاد
بحث الفقهاء هذا الشرط بشيء من التوسع، وقد ذكروا عدة أدلة لإثبات هذا الشرط، ولا
بأس بذكر أهم تلك الأدلة وهي:
أحدها: النصوص الدالة على ولاية الفقيه مثل مقبولة عمر بن حنظلة والتوقيع المروى عن
الإمام المنتظر أرواحنا لتراب مقدمه
الفداء.
ثانيها: ما ذكره المحقق النراقي قدسسره في كتابه عوائد الأيام بأنّ الفقيه هو
القدر المتيقن من أدلة الولاية، وما عداه فليس من
الظاهر شمول الأدلة له.[115]
ثالثها: وهو يتوقف على معرفة طبيعة الدور الذي يقوم به من يناط به أمر الولاية، إذ
المطلوب منه عدة أمور ومن أهمها:
1ـ العمل على تغيير الواقع الفكري الذي تعيشه الأمة والسعي لنقل الأمة من الوضع
الفكري البعيد عن الإسلام إلى استيعاب
الإسلام إلى الحد الممكن.
2ـ العمل على تغيير الواقع التربوي والسعي لخلق واقع تربوي متكامل يحمل في مضمونه
روح الإسلام.
3ـ العمل على تطبيق التشريع الإلهي في مختلف جوانب الحياة.
4ـ حفظ مصالح الإسلام والمسلمين والتقدم بها نحو الرقى والتكامل.
5ـ التصدي لشتي المؤامرات الثقافية والأخلاقية والسياسية وغيرها.
ومن الواضح أنّ القيام بهذه الأدوار لا يتطلب فقط قدرة إدارية، وإنما يتطلب وعيا
شمولياً وعميقاً للإسلام، وكلما ازداد هذا الوعي
كان له الأثر البالغ على التقدم بواقع الأمة والعكس بالعكس، ومن هنا يتضح لنا
وبوضوح شرط الفقاهة[116] واستيعاب الإسلام
لمن يتصدى لشئون المسلمين وقضاياهم الكبرى، ولمن يضع الخطوط العريضة لحركة الأمة في
المجالات التي يمتد إليها نفوذه
ويتمكن من خلالها من ممارسة دور التغيير وحفظ الدين.
الشرط الثالث: البصيرة بالواقع
وهذا الشرط من البديهيات التي لا تقبل الجدل، إذ من الواضح أنْ التقدم بواقع الأمة
مع عدم معرفة الواقع بوعي وعمق لا يمكن
معه الحفاظ على مقدرات الأمة ولا التصدي للمؤامرات ولشدة وضوح هذا الشرط نكتفي
بالإشارة إليه.
ولعل من الكلمات المهمة والمفيدة للإمام الخميني قدس سره التي تؤكد على الشرطين
الأخيرين العبارة التالية:
يجب أنْ يكون باب الاجتهاد مفتوحاً دائماً في الحكومة الإسلامية، وتقتضى طبيعة
الثورة والنظام أيضاً أنْ تُطرح الآراء
الاجتهادية الفقهية في المجالات المختلفة بشكل حر ومفتوح حتى ولو كانت مخالفة
لبعضها البعض ولا يحق لأحد ولا يمكنه أنْ
يمنعها، ولكن الشيء المهم هو المعرفة الصحيحة للحكومة والمجتمع حتى يتمكن النظام
الإسلامي من التخطيط لصالح المسلمين،
ومن الضروري له وحدة الرأي والعمل، ومن هنا فلا يكفي الاجتهاد المصطلح عليه في
الحوزات العلمية، بل لو حتى وجد إنسان
هو الأعلم في العلوم المعروفة في الحوزات لكنه غير قادر على تشخيص مصلحة المجتمع،
أولا يقدر على تشخيص الأفراد
الصالحين والمفيدين من الأفراد غير الصالحين، ويفتقد بشكل عام للرأي الصائب في
المجال الاجتماعي والسياسي والقدرة على
اتخاذ القرار، فإنّ مثل هذا الإنسان يكون غير مجتهد في المسائل الإجتماعية
والحكومية ولا يمكنه التصدي لاستلام زمام
المجتمع.[117]
ويقول أيضاً: يجب على المجتهـد أنْ يحيـط بمسائـل زمانه فلا يقبـل الشعب ولا الشباب
ولا حتى العوام من الناس أنْ يقول
مجتهدهم ومرجعهم بأنني لا أبدي نظري في المسائل السياسية، ومن خصوصيات المجتهد
الجامع العلم بأساليب مواجهة حيل
وأكاذيب الثقافة الحاكمة على العالم والتعرف على السياسـات وحتى السياسيين
والمعـادلات التي يملونـها.[118]
الشرط الرابع: القدرة على التصدي
من البديهيات مضافاً لما تقدم أنه لابد أنْ تتوفر في الولي مقومات الشخصية القيادية
بأنْ يكون قوى الشخصية ولديه القدرة الذاتية
على التصدي لإدراة المجتمع، فإنه يوجد الكثير من الأشخاص ممن لديهم الإطلاع سواء
على الإسلام وعلى الواقع، ولكن لا
يملكون المؤهلات النفسية والشخصية التي تؤهلهم للتصدي لمنصب القيادة، صحيح أنّ
المؤهلات قد تنموا بالتصدي، لكن قبل أنْ
تنموا بالمستوى الذي يمكن من التصدي للأمور فإنه لا يمكن المجازفة بمستقبل الأمة
الإسلامية بمجرد احتمال نمو المؤهلات في
المستقبل، وهذا الأمر أيضاً لوضوحه نكتفي بالإشارة إليه.