لمحة خاطفة إلى المداخل المختلفة في دراسة الثورة الإسلامية الإيرانية
بقلم: حُميرا مشير زاده
مقدمه :
إن دراسة الثورات السياسية والاجتماعية تحتل فضاءً أو مساحة مهمة في بحوث العلوم
الإجتماعية.
كما إن حدوث أو وقوع الثورات الطارئ والنادر يمنح احتمالات استثنائية وفريدة للبحث
العلمي ويزوّده بإمكانات مهمة لاختبار
النظريات وفحص الخبرات والدعاوى القائمة ،ويقدم كذلك استنتاجات واستدلالات جديدة
ومتينة. فحتى عقود قليلة انصرمت،
كانت نظريات الثورة تركّز على تجارب الثورات الفرنسية والروسية والصينية فقط.
في العقود المتأخرة، وبعد تفجّر الصراعات والانتفاضات وأخيراً الثورات في العالم
الثالث، فان ما يسمى «الجبهات الاستطلاعية
أو الكاشفة» fronts exploration تحركت باتجاه التاريخ[6]، ما أن دراسات جادّة في
النهضات والثورات في الأقطار
المتحررة حديثاً، وأقطار ما يسمى بـ (العالم الثالث)، قد اتسعت بشكل مُلفت للنظر.
ومع ثورتين ناجحتين في إيران ونيكاراغوا وجد هذا الملفّ عمقاً جديداً، راحت بحوث
هتترى في نهاية السبعينات. إنّ النهضات
الفائرة للشعوب بين سنتي 1978 و 1979 وانفجار الثورة الإسلامية وانتصارها الكاسح
وتأسيس أول جمهورية إسلامية
معاصرة تُعتبر أهم أحداث العالم في تلك الفترة، حيث أصبحت مركز الاهتمام والتحقيق
لكل الثورات وقطب رحاها.
قبل بداية الهيجان الذي انتهى بانتصار الثورة الإسلامية في ذلك، ورغم المحاولات
العلمية العديدة، في رسم مخطط الثورة
وتفسير الحدث كنظرية كان يمكن التنبؤ به ودراسته كظاهرة، إلاّ أن عدداً قليلاً جداً
من الناس توقّعوا سقوط الشاه فضلاً عن
الانقلاب عليه، وكذلك سقوط الملكية القديمة وتأسيس الجمهورية الإسلامية.
إنّ احتمال إيجاد أو خلق حالة من القلق واللااستقرار في منطقة من مناطق الشرق
الأوسط، التي كانت تُعتبر (جزيرة الاستقرار)
Island ofstability لم يكن مأخوذاً في الحسبان. وفي الحقيقة، فان حدث الجمهورية
الإسلامية أدهش معظم المتابعين
والمحللين، من صحفيين وسياسيين أجانب في الخارج، وأدهش أيضاً خبراء وباحثين
ومنظرّين إيرانيين في الداخل.
ومع انتصار الثورة الإسلامية بدأ سيلٌ جارف لمختلف التحليلات لم ينقطع بعد.
والآن وبعد مرور سبع عشرة سنة أصبح عدد الكتب والمقالات المدونّة عن سبب الثورة
وطبيعتها يشكّل كمّا هائلاً من المجلدات
لا يمكن إحصاؤه. ومع ذلك فان هناك اختلافاً ولغطاً ما زالا قائمين بين الباحثين حول
طبيعة الحكم البهلوي وتركيبة المجتمع
الإيراني وغير ذلك.. إضافة إلى ذلك فان الدراسات والنظريات النقدية المعنية بالثورة
الإسلامية لم تذهب عميقاً في تحليل أبعاد
هذه الثورة ولم تدرسها من كافة زواياها، ومع ذلك فان الثورة الإسلامية لعبت دوراً
هاماً في بلورة آراء المنظّرين وأفكارهم، وفي
تقديم النموذج النظري الجديد المعتبر.
إن هدفنا من هذا الخط العريض هو الاستذكار السريع والعابر لتصورات مختلفة للعديد من
الكتّاب الأجانب الذين راحوا يقتبسون
من الثورة الإسلامية ما يشاؤون، آملين منجانبنا أنّ كشْف أو تجلية هذه التصوّرات
والرؤى سيفتح الطريق أمام الباحثين
الإيرانيين للمزيد من الدراسة والتحقيق العميقين.
إن تحليل الثورة الإسلامية يقع في قالبين رئيسيين، فهناك كتابات بسيطة تأخذ البعد
الإعلامي والصحفي، وهذه الكتابات ليست
علمية بطبيعة الحال، وهناك أعمال أخرى راحت تدرس الثورة وتحللها بشكل أعمق وابتداءً
من جانبها النظري المنظور.
وهنا، وبعد الإشارة إلى هذه التحليلات الصحفية غير العلمية، سوف نمرّ مروراً على
الرؤى النظرية المختلفة الخاصة بالثورة،
ونتوقف قليلاً عند أبعادها الأكثر عمقاً.
التحليلات الصحفية وغير العلمية:
إن أعمال وكتابات الكثير من السياسيين والعسكريين والدبلوماسيين والصحفيين وغيرهم
الخاصة بالثورة الإسلامية تقع ضمن
هذه التصنيف. بعض هؤلاء يختزنون خلفية بيوغرافية خاصة ربما تنطوي على ذكريات وخواطر
ما قبل الثورة وما بعدها.
بعض آخر، أو مجموعة أخرى تعرض بُعداًثانياً وربما تقارير غير دقيقة، تقدّم خلالها
مسلسلاً من العوامل كأسباب للثورة بدون
أي مرجع نظري أو مرجّح علمي. هذا النمط من الكتابة يعرض برنامج الثورة بشكل روائي
وينطلق تحليله بشأنها من هذا
المنطلق. بالتأكيد، أنّ بعض هذه الأعمال، وبسبب تدفقها الروائي المتين، يمكن أن
تكون مفيدة للمحللين والباحثين.
كما أن قسماً من هذه المادة كانت كُتبت من قِبل سياسيين غربيين وموظفين سياسيين
أجانب، وتحديداً سفراء لأقطار غربية في
طهران ومن يدور في فلكهم في العاصمة الإيرانية.ومن بين هذه الكتابات يمكن الإشارة
إلى خواطر السفير البريطاني أنثوني
بارسونز، والسفير الأمريكي وليم سليفان وكذلك الجنرال روبرت هويسر[7].سوليفان ـ
الذي عاش في طهران بين عامي 1977
و 1979، كان شاهداً على انفجار الثورة متابعا لمسلسل أحداثها إلى نهايتها، يصف تلك
الفترة بأسلوب قصصي روائي في كتابه
(رسالة إلى إيران) Mission to Iran مبرّزا دور الشخصيات القيادية في الدائرة
السياسية وفي مخطط الثورة الإيرانية.
يصف محتوى الكتاب الظروف الاقتصادية، وموقف العسكر وقوى الشرطة والأمن الداخلي
والبناء الاجتماعي ودور الشيعة في
المجتمع الإيراني، ويقدّم بعض المعلومات للقارئ في كلّ حقل من هذه الحقول. ومع ذلك
يعترف بعدم إحاطته بإيران أو الوضع
الإيراني قبل توّليه منصبه كسفير كما أنه لم يبذل جهداً في توضيح خلفية المعلومات
والأمور التي دونّها[8] أو استقى معلوماته
منها.
أعمال أخرى من مثل هذا الطرح الروائي تضمنت ذكريات وكتابات لبعض الشخصيات المسؤولة
في حكومة بهلوي. ومن بين
من سنشير إليهم هنا هو محمد رضا بهلوي نفسه، والذي يبحث بعد سقوطه ـ وفي كتاب (جواب
للتاريخ)History to
Answer سبب ظهور الثورةوعاقبة السقوط وميكانيكية المؤامرة عند الحكومات الغربية.
كانت مذكرّاته ومحاولته هذه هشّتان
وتعبّران عن بساطة وسذاجة[9] وقد ظهرت مشدودة تماماً إلى (نظرية المؤامرة)
conspiracy theory ومع كل حادثة ذات
علاقة بمصدر أنساني، وكأن هذه النظرية تمتلك قدرة مطلقة قادرة على أن تفعل كل شيء
ترغب فعله متى شاءت وأنّى شاءت.
وفي قضية الشاه تظهر حقيقة هذه القوة المطلقة متجليّة في الغرب والقوى الغربية
وتحديداً في الولايات المتحدة وبريطانيا. إن
تفسير الشاه للأحداث كان منشدّاً تماماً لحالة رعب وهلع واضحة كان الرجل يعيشها، أو
تجاه هاجس مخيف كان مغروزاً أو كامناً
في ذهنه لمدة طويلة.
شخصيات أخرى ذات علاقة مع الحكم البهلوي تبنّت نفس التحليل للثورة. على العموم، لم
يقدّم هؤلاء أي دليل لتصديق أو
معاضدة هذا التحليل، وبالتالي يمكن قراءة هذا النوع من التحليلات والكتابات كمشاريع
دراسات نفسية في فهم الشخصيات التي
تعتقد بها، فريدون هويدا، حسين فردوست، عباس غارة باقي، وبرويز راجي، وكلهم خبراء
وعسكريون في عهد بهلوي، كانوا
وضعوا الثورة الإسلامية في مذكراتهم وفق هذا المنحى.[10]
مثال على ذلك، فريدون هويدا، شقيق رئيس الوزراء آنذاك أمير عباس هويدا، وواحد من
أقرب المقربين لنظام الحكم في إيران،
في كتابه (سقوط الشاه) The Fall of the Shah، وبعد استعراض مسلسل الأزمة التي أدّت
إلى هذا السقوط، يعود إلى
جذور هذه الأزمة.وحين يصف الثورة ،يروح عميقاً في تحليل البنى الدكتاتورية وأخطاء
الملكية أو خطلها إذ يعتبرها عوامل
صميمية في انبثاق الثورة، كما يسلّط الضوء على الانهيار المالي، ورقابة المطبوعات،
والانحطاط الأخلاقي وتضخم مشتريات
الأسلحة ،وانحدار الاقتصاد ،ونظام الحزب الواحد وسوء تقدير فاعلية العامل الديني
وكلها يعتبرها عوامل رئيسية في الثورة.
[11] في هذا العرض، تمّ إلفات النظر إلى توجّه الشاه الزائد عن الحد نحو
الدكتاتورية، دون الأخذ بعين الاعتبار العوامل
الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والبنى التحتية الأخرى.
عدد من الصحفيين حاولوا تحليل الثورة إلاّ إن هذه الكتابات لم ترقَ إلى قيمة البحث
العلمي المطلوب.فبعضهم لم يكونوا في عداد
الباحثين الجيدين لفقدانهم الاعتماد على المصادر المعتمدة وضعف مداركهم الخاصة في
الميزان العلمي. الآخرون، مع ذلك، ممن
كانوا أكثر وثاقة وأمانة ورغم اعتبارهم روائيين تاريخيين، ألاّ أنهم قدموا معلومات
قيمّة للقراء باعتمادهم وثائق وشهادات
رسمية وغير رسمية وأحياناً من وحي تجاربهم الشخصية.
ضمن هذا النوع من الكتابات التي حاولت تحليل الثورة تحليلاً علمياً في جوانبها
التاريخية، وإطارها الشكلي هو كتاب «قصة
الثورة»The story of theRevolution.
المادة المعروضة في هذا الكتاب اعتمدت على مصادر علمية لا بأس بوثائقيتها. ويعتبر
الكتاب عرضاً موجزاً للأحداث المهمة
التي مرت بها إيران في العقود المتأخرة. يصف الكاتب في البداية الحركات المدنية في
عهد القاجار حيث يشير إلى فاعلية
مساهمة المؤسسة الدينية ،باحثاً عن جذور الثورة الإسلامية في تلك الأحداث.
يعزو الكاتب بداية الثورة إلى سياسة الحقبة البهلوية عموماً حيث الحكم المستبد،
والعداء المستحكم تجاه المؤسسة الدينية ،والتدّخل
الأجنبي لاسيما ذاك الذي ضلع به الأمريكان بعد انقلاب 19 أغسطس عام 1953. وفقاً
للكاتب أيضاً، وفي السنين الأخيرة من
حكم محمد رضا شاه، حيث تنفيذ السياسات الاقتصادية الطموحة، وتأكيد القوى الأجنبية
على مسائل حقوق الإنسان، وجدت
الحكومة نفسها تحت ضغط شديد لا فكاك لها منه.
إنّ تسلسل الأحداث الذي رسم مسار الثورة، كانت له الحصة الأكثر تفصيلاً من العرض في
هذا الكتاب وتحديداً من فترة يناير
1977 إلى فبراير 1978، كما أن أجواء الثورة وصفحاتها المتعاقبة ونشراتها الخبرية
وخطاباتها مثبّتة بدقة. وفي فصله التحليلي
ينطوي الكتاب على آراء وأفكار العديد من السياسيين والباحثين حول الثورة الإيرانية.
في نهاية الكتاب زوّد الكاتب تحليله عن الثورة بقائمة مصطلحات اجتماعية طويلة أو
قصيرة ضمّنها العوامل الاجتماعية
والاقتصادية والسياسية والثقافية. وبهذا الفصل يفنّد الكاتب التنظير السطحي لنظرية
المؤامرة سواء ارتكز هذا التنظير على
الدور الأمريكي في إيجاد حزام أخضر حول السوفييت لمنع الاختراق الشيوعي، أو الدور
البريطاني المزعوم في الإعداد للانتقام
من أمريكا التي حلّت محلّها في إيران.[12]
بين الكتّاب غير الإيرانيين، يمكن أن نشير إلى دلب هيروHiro [13]Dlip الذي يراجع
المفهوم الإسلامي ونشوء التشيع
والعلاقة بين الشيعة وعلمائهم والحكومة وجهة أخرى. وفي تحليله لأحداث حقبة بهلوي،
يشير إلى نوعين من الثقافة(الثقافة
التقليدية في أوساط علماء الكلام والطبقة العاملة، والثقافة المتغربّة في أوساط
التجديديين والحداثتيين والطبقات المترفة) والتي
ترشحت من إصلاحات رضا شاه السريعة الخطى.
ففي زمان رضا شاه، يوضح الكاتب مسار التحولات التي انتهت بتخويل الشاه سلطة مطلقة،
مقترنة بقمع شديد للمعارضة، مع
عمل متواصل لإضعاف القادة الدينيين وعزل الإمام الخميني (قدس سره).
يعزو هيرو نمو المعارضة إلى التضخّم وفقدان الحرية في المجتمع، ويوضّح أن وجود
الضعف في الوسط المعارض المنظّم،
وقمع التجمعات والتنظيمات المعارضة هما اللذان فتحا الطريق أمام القادة الدينيين
وأبقاهم في ساحة المواجهة لتزّعم حركة
الاحتجاج. جاء هذا في سياق خاص كان الشاه عقد فيه اتفاقاً مع واشنطن حيث انفتح
المجتمع بعض الشيء على أُفُق جديد تنفست
فيه المعارضة هواءً جديداً في أجواء حركة دستورية جديدة، وتململت في مناخ وفضاءات
مختلفة.
وكما نرى، أنّ هذا النوع من الكتابات لم يرتكز على إطار نظري معيّن، ولذلك، وحين
يأتي وصف ظاهرة مهمة مثل الثورة
الإسلامية، فإن المعنييّن يروحون يجمعون حقائق ومعطيات من أجواء مختلفة تضع العوامل
التاريخية البعيدة جداً إلى جوار
الحوادث المتأخرة ،وكذلك العناصر البنيوية الحاضرة جنباً إلى جنب مع العناصر
الفردية. وبدون أي تأسيس لأي ترابط منطقي
مع هذه الظواهر والمستويات المتباينة أننا نجد أنفسنا هنا في تناقض حاد مع المدخل
الذي يعتمد على البناء النظري ويمكن أن
يقودنا إلى الإيضاح السبببي للظاهرة، أي بلحاظ إمكانية المقارنة أولاً، وتعبير
الطريق لدى استظهارها في ظروف مشابهة في
مجتمعات أخرى ثانياً. الفصل القادم سيعني بالجهود التي بُذلت في هذا السبيل.
محاولات لتوصيف الثورة الإسلامية:
خلال السبع عشرة سنة الماضية، تم طبع كمّ هائل من الأعمال العلمية الممتعة
بالإعتماد على مقاربات نظرية مختلفة لتحليل
الثورة الإسلامية. العديد من الكتّاب حاولوا تفسير الثورة على أرضية دعاوى ومزاعم
متباينة موزّعة على ملاحظات علمية في
شرح ظاهرة الثورة.محاولات عديدة استخدمت الثورة الإسلامية كقضية نظرية لتحريك
نظريات ومتبنيّات أخرى. وبهذه الطريقة
تمّ استخدام عدد من النماذج والأطروحات في مفاهيم ونظريات قديمة. بعض المنظرين نظّر
إلى الثورة من زوايا مختلفة فيما
حاول آخرون تفسير الحدث بالاعتماد على نماذج افتراضية متباينة وقدّم عرضا مركّبا
ومرتبكا لها.
مسلّمين بعدم جدارة النظريات الطبقية الاجتماعية الماورائية، كانت هناك محاولة
متواضعة لتوظيف هذه النظريات في توصيف
الثورة الإسلامية، ومع ذلك ولما كان يمكن العثور على آثار وبصمات ذلك في الكتابات
المتأخرة، ولو في إطار عام ورؤى
عمومية حيال ظاهرة الثورة، فان مفاهيم المنظّرين ومزاعمهم وتقريراتهم كانت استُخدمت
في إطارٍ نموذجي جديد، ومن بين هذه
الأعمال تلك التي أشار إليها كولدستون ضمن ما سماه الجيل الأول firstgeneration من
نظريات الثورة[14].
يبدو أن العرض الروائي لـ كرين برنتون مثلاً المنتزع من نموذج التاريخ الطبيعي[15]
يتطابق عموماً مع الخطوات المختلفة
لدورة حياة الثورة الإسلامية.
بطرح المثقفين جانباً، يبدو أن أزمات الحكومة العصيّة على الحل هي التي هيأت أجواء
الثورة. كما أنّ تعاطي النظام غير
المسؤول مع هذه الأزمات، لاسيما إقحام بعض الإصلاحات الضرورية بصورة غير مناسبة
وبأسلوب سيء، فضلاً عن افتقاده
للقوة المؤثرة أو الأشخاص المؤثّرين، كل ذلك مهدّ الطريق أمام الانفجار الكبير. هذا
النموذج تمّت الإشارة إليه في بعض الأعمال
المعنية بشان الثورة الإسلامية[16]، إلاّ إن إيضاح التاريخ الطبيعي لم يكن بإمكانه
تفسير تلك الأزمات الحكومية وكيف ساهمت
سياسات الشاه في إيجاد حكومة لم تكن تبالي أو تهتم بالعوامل الاستفزازية التي تهبّ
رياحها من الخارج، كما أنها لم تكن حساسة
تجاه الآثار المدهشة التي تترشح عن مسارات الأحداث التاريخية العالمية على الحكومات
القومية، وكيف فعلت التحولات الأخيرة
في البنى الاجتماعية والاقتصادية (كما في قضية إيران) فعلها غير العادي في تغيير
الوضع الطبقي في المجتمع.
نموذج برنتون لم يكشف الترابط الوثيق للجماعات المعارضة وكيف تسعى لتحقيق أهدافها
المحدّدة. بكلمة أخرى إنها لم تستطع
تصوّر أو تصوير التشكّل الخفّي للعوامل المؤججة للثورة، ورغم أنّ الثورة الإيرانية
مرّت بنفس المراحل التي تمرّ بها الثورات
الأخرى ، إلاّ إن الإطار الذي وضع فيه برنتون أطروحته لم يفِ بوصف الظروف والأجواء
الثورية التي قادت إلى انبثاق
الثورة في إيران.[17]
من بين النظريات المهمة في دراسة الثورات والتي جاءت تحت عنوان الموجة الثالثة أو
الجيل الثاني والثالث يجب أن تؤخذ
بعض النظريات الاقتصادية ـ الاجتماعية، أو الإجتماعية ـ النفسية ،أو الإجتماعية ـ
السياسية ـ النفسية بنظر الاعتبار، إضافة إلى
ذلك يجب أن تؤخذ أهمية الإسلام والتشيّع في عموم مسار الثورة بنظر الاعتبار أيضا
وجنباً إلى جنب مع إيضاحاتها الثقافية
والفكرية.
بلحاظ محدّدات الثورة، يقرّر جمع من الكتّاب بأن أبعاداً معيّنة لا ينبغي أن
تستدرجنا أو تصرف انتباهنا عن الأبعاد الأخرى،
ولذلك فإنهم اختاروا منهج تعدّد الأسباب في دراستهم للثورة. وتأسيساً على العوامل
الفكرية، والاجتماعية ـ
الاقتصادية،والاجتماعية ـ النفسية، والسياسية، ومنهج تعدد الأسباب، يمكن القول أن
هناك خمس إيضاحات أو تفسيرات ينبغي أن
توضع في الحسبان عند محاولة قراءة الثورة الإسلامية بعمق.
التأكيد على أهمية الثقافة:
من هذه الزاوية، لا ينبغي البحث عن أسباب الإسلامية هي استمرار أو امتداد لهذا
النضال.
وهذا يستتبع بطبيعة الحال القول بأنّ سقوط الملكية يجب أن لا يُبحث بمعزل عن تجاهل
هذا الدور للقيم والمبادئ الدينية، وذلك
في سياقات أهلية هذه المؤسسة على تعبئة الأمة اعتماداً على المشاعر الإسلامية.[18]
الأستاذ حامد الگار في كتابه (جذور الثورة الإيرانية)، يعرض «التشيع وقيادة الإمام
الخميني» كمبدأ استنهاضي فاعل، كما أن
عرضه للإسلام كأيديولوجية كلها يعتبرها جذورا وامتدادات للثورة، ولكنه لا يضع هذه
العوامل كإطار علمي ونظري وحيدا لها.
[19]
عساف حسين في كتاب (إيران الإسلامية ـ ثورة ومواجهة) يؤكد بأن فهم وتقييم الثورة
الإسلامية من خلال القراءة العلمانية
الغربية يُعتبر مستحيلاً[20]، ومن هنا فان دراسة الثورة يجب أن يأخذ العنصر
الأيديولوجي بنظر الاعتبار، وكذلك دور
المعارضة الإسلامية، والشرعية، والتربية، ولاسيما القيادة[21]. إنّ تحليله هذا
بالتأكيد أجدر بفهم الثورة من ترسيم أسبابها
الأخرى.
بالإضافة إلى ذلك يشاطر الكتّاب المذكورين الذين لهم نظرة إيجابية عن الثورة
الإسلامية بعض المحللين والنقاد الآخرين الذين
أوّلوا أهمية خاصة للبُعد الثقافي. سعيد أمير أرجمند في كتابه: (العمامة أمام
التاج: الثورة الإسلامية في إيران) يرى أنه من أجل
أن نفهم الثورة الإيرانية، علينا أن نأخذ بعين الاعتبار عاملين رئيسيين ضروريين:
الأول هو البناء الديني المحلي للمرجعية الشيعية، والآخر هو التحديث الحكومي
للمجتمع الإيراني.إنه يلتفت التفاتة عابرة إلى
العوامل الاجتماعية ـ الاقتصادية ويولي اهتماماً اكبر لدور القيم الأخلاقية في
الثورة، موضحاً الخصائص الحاسمة في الثورة كقيم
شرقية، أو شرقية المنشأ. ويؤكد الكاتب على أهمية الأيديولوجية للثورة كخصيصة فاعلة
لتعريف وتحديد هويتها. في هذا الكتاب
تظهر الثورة كنتيجة لتلاشي بريق الشاه ونضوب الزيت في قنديل شرعيته أكثر من كونها
نتيجة لتمزق أو تفكك المؤسسة
العسكرية.[22]
على أية حال، يبدو أن الرؤية الثقافية فقط لا تستطيع أن تنهض لوحدها في تفسير
الثورة لأنها تترك أو تتجاهل العديد من الأبعاد
والمسائل الأخرى، مثال ذلك، لماذا لمتفلح حركة 15 خرداد 1953، التي انطوت على نفس
الروح الثقافية كحركة ثورية
استمرت إلى سنة 1977 ـ 1978 في تحقيق الانتصار، فيما استطاعت الثورة الإسلامية
إنجاز ذلك؟ وهذا يعني بأن العوامل
السياسية والاجتماعية والاقتصادية يجب أن تؤخذ بنظر الاعتبار عند قراءة هذه الثورة
أيضاً، في رأي (فوران) : الإشكالية في
هذه الرؤية، أنها لا تركزّ على دور القوى الاجتماعية الأخرى ،كما هو تأكيدها أو
تركيزها على الدور الثقافي وعامليْ التشيّع
والمؤسسة الدينية.[23]
التركيز على أهمية العوامل الاقتصادية والاجتماعية:
الكتابات التي تؤكد أهمية الأبعاد الاجتماعية ـ الاقتصادية في انبثاق الثورة
الإسلامية هي باختزال ،انعكاسات المدخل الفكري أو
الثقافي أو اختصاره. ففي هذه التحليلات، يظهر التأكيد على البُنى السياسية
والاقتصادية والاجتماعية أكثر من غيرها، فيما تعتبر
العوامل الثقافية والسوسيولوجية مجرد مزاعم. وبهذا فأنها لا تصلح لهذا النموذج من
القراءة أي النموذج الوصفي أو التصويري.
واحد من الأعمال التي تشرح الثورة الإيرانية وتعتقد بفاعلية العوامل الاقتصادية هو
كتاب (الأصول الاقتصادية في الثورة
الإيرانية) بقلم: روبرت لوني Looneyالذي يقوم بتحليل ستراتيجية التنمية ويستنتج من
خلاله بأن تنفيذ هذا المخطط وبلحاظ
الحاجة للإصلاحات الجذرية، لا يمكن أن ينجح. أي إن الحكومة لم تكن قادرة على
التمييز بين مدار عدم القناعة الناشئ عن
فقدان العدالة، وبين سوء التقديرات الاجتماعية الموروثة في البرامج الاقتصادية
المرتكزة على نماذج التنمية.
في برامج التنمية الاقتصادية، يجري التغاضي على العلاقة بين الأهداف التنموية
والمشاكل الناتجة عن المسار السياسي والتي
لها الدور الرئيس في تحديد وضع البلد الأمني واستقراره السياسي. وهنا يُعتبر التضخم
مسألة لا قيمة لها ومشكلة سهلة الحل،
ولكنّ الصدمة فاجأت الجميع عندما وصلت الأمور إلى درجة لم يعد بالإمكان تجاوزها،
بحيث أصبحت لها علاقة مباشرة وأكيدة
مع الاستقرار السياسي، وبدل أن تنتهج الحكومة سياسة صارمة وتبذل جهداً استثنائياً
للحدّ من ذلك، راحت متجاهلة هذه المسألة
بل لم تكن تعتبرها ذات صلة بإثارة الأزمة.
عند هذه النقطة، تولدت العلاقة بين التحول الاقتصادي وتقلّص الدعم الحكومي، لتكشف
عن نفسها، الأمر الذي جعل من سوء
توزيع الدخل القومي الشرارة أو الوقود الذي أشعل غضب الناس وأدّى إلى نفاد صبرهم
وقناعتهم. الترقيع البسيط في التعاطي
مع هذه المشكلة لم يعد كافٍ لاحتواء عواصف الثورة التي بدأت تهبّ وتسير إلى
نهايتها. من هذا المدخل يمكن اكتشاف اللامبالاة
الحكومية ،وعدم ظهور أي أثر لتقدير دور البنية الاجتماعية، أو دور الأيديولوجية أو
القيادة. بعض الحكومات التي تواجه مثل
هذه الظروف الاقتصادية الصعبة، تبادر لتطويق الغليان أو الصخب قبل تحوّله إلى ثورة
عارمة لا يمكن تطويقها. هناك دور مهم
لطبيعة التأثير البنيوي في النظامين السياسي والاجتماعي واعتماداً على شرعية
الأيديولوجية أو شرعنتها، إلاّ أن المدخل
الاقتصادي في هذا الشأن لم يُعر هذه المسألة اهتماماً مطلوبا.[24]
يقدّم همايون كاتوزيان في كتاب (الاقتصاد السياسي في إيران) The Political Economy
of Iran وصفاً كاملاً للثورة
الإسلامية بتحلي لظروف إيران من القرن التاسع عشر حتى تأسيس الجمهورية الإسلامية.
انه يعرّف السنوات المحصورة بين
1961 إلى 1978 بأنها سنوات (دكتاتورية النفط). في هذه الفترة، شكلّت بعض عناصر
الحداثة التي حُشرت في المجتمع وجنباً
إلى جنب مع أموال النفط، إطاراً لما يُسّمى (التحديث الكاذب) أو (العصرنة الكاذبة)،
إذ لم يكن هناك رفض للقيم المستوردة ولا
رؤية نقدية للمفاهيم الأجنبية الدخيلة ،وكأن الشعب الإيراني شعب معوّق لا حول له
ولا قوة ولا إرادة.
يعرض الكاتب الترابط بين دكتاتورية النفط ومظاهر التحديث الكاذب وكأنه أو كأنها
الأسباب الأعمق للثورة الإيرانية، ويروح
معتقداً، لنفس السبب، أن الحركة الثورية لها طبيعة مضادة للدكتاتورية وكأنها كانت
هي الأخرى بالضدّ من التحديث الكاذب هذا.
يلاحظ كاتوزيان أيضاً بأن الحكومة والبُنية الاجتماعية لإيران يختلفان بالكامل عن
تلك التي في الغرب ،إذْ أننا لا نستطيع القول
بأن هناك حكومة مطلقة في إيران، ولكن يمكن القول بوجود دولة مطلقة فيها، وان
الحكومة في إيران كانت حكومة مركزية، أو
اوتوقراطية وغير مقيّدة بأي قانون أو عُرف. إضافة إلى ذلك، ولعدم وجود الخلفية
الإقطاعية وهيمنة الحكومة المطلقة على
الاقتصاد الذي كان مدعوماً بواردات النفط، فان إيران، ونقولها بشدّة، كانت بدون أي
تمايز اجتماعي أو طبقي. وإن الحكومة، لم
تكن تعتمد على المجتمع لأنها كانت تعتمد أساساً على أموال النفط.[25]
رغم تحليلات كاتوزيان المقنعة ظاهرياً، إلاّ أن افتقاده القدرة على تشخيص القوى
الاجتماعية والبؤر التي تحت سيطرتها، منعته
من معرفة سبب انبثاق الثورة في فترة محدّدة بعينها.كانت هناك أقطار كثيرة أخرى تعيش
نفس أوضاع إيران، في اعتمادها على
واردات النفط، مع هيمنة دكتاتورية واضحة للحكومة، كما في العربية السعودية ونيجيريا
، إلا أن ذلك لم يؤد إلى الثورة. أكثر
من ذلك ـ وكما يثبت فارهي، أنّ كاتوزيان ،في تأكيده على دور الحكومة المطلقة ـ لم
يستطع الإجابة على السؤال القائل:
لماذا، إذن لم تتمكن الحكومة من قمع المعارضة؟ وهذا يعني بالضمن تحديد لهيمنتها.
بعبارة أخرى أن استخدام كاتوزيان لـ (مفهوم) الدكتاتورية أعجز تحليله عن إدراك دور
الضغوط الداخلية والخارجية ووضعه في
عنق الزجاجة.[26]
ثيدا سكوكبول Theda Skocpol، المنظّرة الثورية المشهورة، وفي مقالٍ لها تحت عنوان
«دولة الدخل والإسلام الشيعي في
الثورة الإسلامية» وضمن استعراضها لأسباب الثورة في إيران، تقدّم عرضا مفصّلاً
لاحتمال سقوط دولة ذات دخل كبير وأموال
طائلة (وواردات نفطية لا تتوقف) إضافة عائدات وطنية وتنظيمات محلية قويّة مستقلة عن
الحكومة تعود إلى طبقات اجتماعية
أخرى كالبازار. كل ذلك لم يمنع حضور الأيديولوجية المتجذّرة في المجتمع (وهي
التشيع) وبطقوس واضحة ومواقف أسطورية
لرموز مستعدة للتضحية والشهادة، وأخيراً المواجهة السهلة مع الموت، أي التحالف مع
الموت ضد القمع والإرهاب الحكوميين.
[27]
هذا المقال يصوّر الإشكالات الحاضرة في تعميم سكوكبول لنموذجها البنيوي على الثورة
الإسلامية ،وكما كتبت الكاتبة نفسها
قائلة: «إذا كانت هناك حالة واحدة فقط في التاريخ حدثت فيها ثورة بحركة جماهيرية
اجتماعية غاضبة متعمدّة تدمير النظام
الحاكم القديم، فهي الحالة التيتجسّدت في الثورة الإيرانية ضد الشاه»[28] ومع ذلك،
تصور الكاتبة نفسها أنها بقيت أمينة لتحليلها
الرئيسي في الإطار الذي وضعته دون أن تحيد، فتقول:
«الثورة الإيرانية يجب أنتُفهم من الرؤية المنظورة المنفتحة على التاريخ، الرؤية
التي تمتد خلال العلاقات المتبادلة بين الحكومة
والمجتمع والدبلوماسية المنظمة في إيران، وحيث تضعها في مسارها السياسي والاقتصادي
الشامل»[29]. ورغم ذلك فإنها لم
تستطع تجاهل أهمية المعتقدات والمنظومات الثقافية في خلق الفعل الثوري، ولهذا السبب
نراها تركّز على العوامل المذكورة:
دولة المال، التنظيمات الشيعية المحليّة ـ كملامح فريدة في الثورة الإيرانية، وهذا
يُشير بوضوح إلى انشعاب صريح في نظرتها
الأولية في تحليل أسباب الثورة.
التأكيد على العوامل النفسية:
تأسيساً على الخصيصة الفردانية للحكومة الشاهنشاهية والتأثير الفاعل لقرارات الشاه
الشخصية، فإنّ خصائص الأخير النفسية
لابد أن تؤخذ بنظر الاعتبار لدراسة أسس الثورة الإيرانية.مروين زونيس في كتابها
(فشلالجلالة) Majestic Failure تؤكد
أن نجاح الثورة الإيرانية لم يكن مهمة حتمية أو قضاءً وقدراً، فلو كان الشاه قبل
الثورة قد اتخذ بعض الإصلاحات الديمقراطية،
وحتى أثناء وبعد الثورة، لكان قادراً على قمعها، أي كان يمكن أن يحتفظ بعرشه، ولكن
ميزاته الشخصية التي أتّسم بها منذ
طفولته وشبابه جعلته متردداً وشكاكاً بشكل واضح. ولذلك فإنه تعامل مع الأحداث ببطء
وقلّة كفاءة، وهذا ما فتح الطريق أمام
سقوطه.
وعلى الرغم من فردية الشاه وشخصيته التي ألفتت الأنظار إلى ملامحه الشخصية، وملاحظة
العوامل الاجتماعية والسياسية
والثقافية الأخرى التي تنامت مع حكومته، وكذلك العوامل البنيوية التي اجتمعت كلها
في نقطة تاريخية معينة، مضافاً لها قدرة
المعارضة على تعبئة كل هذه العوامل عند هذه النقطة لتفسر بمجملها انبثاق الحركة
الإسلامية وانتصارها ،فضلاً عن وجود
شخصيات عديدة مشابهة للشاه في تاريخ العديد من المجتمعات إلاّ إن الانقلابات
والحركات الثورية لم تستطع إسقاطها كما فعلت
معه، ولذلك يجب الالتفات إلى العوامل الأخرى التي أدّت إلى هذه النتيجة.
الإيضاحات المقدمة في نموذج ديفيس وگار النفسي ـ الاجتماعي تمّ تبنّيها أيضاً عند
دراسة الثورة الإسلامية. النقطة المركزية أو
الرئيسية في هذه الملاحظات تختص بالانحناء الثاني في نموذج منحنى ـ ل J- curve
model، أي في صميمها. التحوّلات
الاجتماعية ـ الاقتصادية الكبيرة في الستينات وبداية السبعينات أوجدت نموّا متصاعدا
ومتوازناً في المستوى المعيشي للشعب
الإيراني، ولكن، بعد هذه الفترة من الرفاه النسبي، حدث الهبوط المفاجئ في وسط
السبعينات عندما واجهت الحكومة انكماشاً في
التنمية الاقتصادية، وهذا يعني أن الفجوة التي نشأت بين الآمال والتوقعات العالية
عند الناس وبين مستوى إشباع حاجاتهم
الضرورية أوجدت إحساساً واضحاً في الضعف البنيوي للحكومة وخلقت دافعاً بيّناً للغضب
الثوري.
على الرغم من محاولة حسين بشيري في البحث عن مدخل نظري مترابط لهذه الفكرة إلاّ أنه
يتفّق مع الرؤية العامة لـ ديفيس،
فنراه يكتب أنه بإلقاء نظرة على الوضع الإيراني في ضوء النظريات المذكورة آنفاً فإن
فترة ما بين 1973 ـ 1978 وتحديداً
سنّي ما قبل الثورة تظهر وكأنها في انسجام كامل مع نظرية ديفيس، ولذلك فإنّنا سوف
نبيّن كيف أنّ الزيادة في المصادر المالية،
في فترة قصيرة رفعت توقعات وآمال الطبقة الفقيرة بدخل أعلى، وكيف أنّ هذه التوقعات
استمرت متصاعدة في حقبة الأزمة
التي أعقبتها، فيما استمرت قدرة النظام على التعاطي معها بالهبوط والتراجع.[30]
الإشكالية الأهم في هذا المدخل هي إستحالة البرهنة على الترابط بين التوقعات
الفردية لأبناء الأمة وتعميمها على الأمة كلها، أي
التوقعات الجماهيرية والاحتجاج الواقعي.
إنّ إشباع المطالب المرحلية وشدة التوقعات، وعجز الحكومة عن تحقيقها لم تنته دائماً
في مظاهرات وانتفاضات في العديد من
المجتمعات. إن المسألة الأهم هي التصميم على التحكّم بمراكز القرار في الغليانات
الجماهيرية الناشئة عن الجماعات المتضرّرة،
أي الأساليب التي تتحرك في إطارها هذه التحولات البنيوية وتؤثر في المواجهات
الطبقية وطبيعة التوزيع واستخدام مصادر
الثروة تكون عادة مختلفة بملاحظة العوامل الاجتماعية والاقتصادية المؤثرة، وكذلك
التاريخ الثقافي للمجتمع الذي يُراد دراسته.
كجماعة ضاغطة ومؤثرة. يشير (گار) بأن التأثير الواضح للتقريب كان قد قلّل دور هذه
المؤسسة عموماً، إلاّ أندورها وحسابات
رجالها بقيت كما هي تقريباً ولم تتأثر تأثراً يستحق الذكر.[31] الفجوة التي حصلت
فعلاً كانت بتأثير الفعل الاجتماعي المحجَّم
والمصادر المالية المحدودة، وكذلك في ازدياد كفاءة الحكومة وبروز الفئات العلمانية
ـ كما إن التصدّع الذي حصل في إطار القوة
المعنوية للمؤسسة الدينية وطموحاتها الجماعية قد أديّا إلى التذّمر والاستياء.
يكتب مشيري بأن الضغوط المالية التي افتعلتها الحكومة ضد المؤسسة الدينية وآثار
الجهود الحكومية لإيجاد تحولات اجتماعية
في عهد بهلوي أدّت إلى ضعف موقعية هذه المؤسسة وانكماش دورها التعبوي الفاعل. ولعدم
وجود أرضية يمكن اعتمادها في
تأكيد انكماش دور المؤسسة الدينية هذا، إلاّ إنّ دور الحرمان وتأثيره النسبي لا
يمكن تجاهله هو الآخر.[32]
هذا المدخل له إشكالاته المتعددّة في التنظير للثورة، لأنه يعتمد تماماً على الزعم
القائل: بأن خبرة الشعب واثر الحرمان يحتلان
نفس الموقع. نعم، انه لشيء موهم القول: بأن الحرمان وحده هو الذي يفجر الغضب
الثوري.
ربما يوجد منظّر يتبنى هذا الرأي أو يزعم هذه العلاقة فعلاً بعد أن يحيل هذا السبب
إلى العامليَن المؤثرَين، ولكن من الصعب
تماماً التأكيد بأن هذه العلاقة صحيحة على نحو مطلق.
إنّ القفز من الحرمان الفردي إلى الجماعي لم يكن ملحوظاً بشكل مسار الأحداث، فكيف
به يؤثر في ذلك أو يقود إلى فعل ثوري
في نهاية المطاف؟ النقطة الأخيرة إذن هي: أنّ هذه الاستدلال التجريبي الذي يحاول
البرهنة على انكماش دور وفاعلية المؤسسة
الدينية، ليس متيناً ويمكن أن ينُاقش بسهولة.
المدخل السياسي للثورة:
حاولت بعض النظريات أنّ تستخدم، صراحة أو ضمنياً التحليل البارسوني Functionalism
Parsonian، كإطار نظري
عام لتفسير الثورة الإيرانية. الباحثون الذين يعتمدون بشكل رئيسي على التحليل
الروائي لـ هنتنغتون Huntington يضغطون
على زر السرعة ويؤكدون على عامل التحديث الذي أدّى إلى الثورة. وفقاً لهذا التحليل،
أنّ سرعة التحوّل هي التي وفّرت فعل
القوة الموازنة وسلّطت ضغطاً هائلاً على النظام الاجتماعي. فحينما كان الشاه ينفّذ
برنامجه التنموي الواسع على الصعيد
الاجتماعي والاقتصادي، وفيما كانت تجمعات معارضة عديدة قيد التشكّل وكان يفُترض أن
تستوعب في مؤسسات سياسية، قادرة
على تشكيل منظومة اجتماعية ـ اقتصادية جديدة، لم يحاول الشاه بناء وجودات احتوائية
قادرة على استيعاب الفعاليات الناشئة
التي أوجدها مسار التحديث.
ابراهيميان، المبَّشِرّ الرئيسي بهذا النمط من التفكير، كتب يقول: بأن الثورة حدثت
لأن الشاه نفذّ التحديث على المستوى
الاجتماعي ـ الاقتصادي المذكور، الأمر الذي أدّى إلى اتّساع الهوّة بين الطبقة
الوسطى وطبقة الصناعة العماليّة. هذا الفشل أدى
بدوره إلى تعميق الهوّة بين الحكومة والوجودات الاجتماعية وأغلق قنوات الاتّصال بين
النظام السياسي وعموم السكان ،كما زاد
التصدّع بين الحزب الحاكم والقوى الاجتماعية الناهضة الجديدة.والأكثر أهمية، أنّ
هذا الإجراء هشّم الجسور القليلة التي كانت
بُنيت في الماضي بين التنظيمات السياسية والقوى الاجتماعية التقليدية، وخاصة
البازار أو الوجودات الدينية صاحبة النفوذ.[33]
التحليل الرسمي، عموماً يقود إلى هذا الهراء، وبالتالي فلا يمكن التمييز بين
الخصائص النظامية والميكانيكيات السببية، ونتيجة
لذلك أن هذا النمط من السجال يعزو انبثاق الثورة إلى احتمال واحد غير واقعي وهو
بروز أحداث ربما كانت استجدت بعد
وقوعها. يُضاف إلى ذلك، أنّ الدور التعبوي الرئيسي لجماهير الطبقة الدنيا في مسار
الثورة يحتاج إلى إدراك دور الأيديولوجية
والتنظيم كخيارات مستقلة. هذه النظرية الرسمية في التحليل لا تُعير وزناً كبيراً
لهذه الخيارات، وبالتالي لا تستطيع أن تقدم
توضيحاً شافياً عن لماذا وكيف انقادت الجماهير إلى قائد محدّد أو جماعة معينة في
طريق الثورة وليس غيره أو غيرها.
غالباً ما يستخدم ابراهيميان عبارات خاصة ذات جذور في الفكر الماركسي، وأحياناً لا
تنسجم مع تحليله العملي للأحداث. أما
تحليل هنتنغتون وإطاره المرجعي فانه لا يلفت الأنظار إلى قوة العلاقة بين الطبقات
الاجتماعية نفسها، أو بين هذه الطبقات
والحكومة، فبالإضافة إلى الإشكالات الناشئة عن الحاجة إلى القراءة المنطقية، فان
الدليل التجريبي لا يشير إلى العلاقة بين
التحديث المتسرع ولا إلى نتائج الثورة. حتى منتصف السبعينات ،وعندما كان برنامج
الشاه التحديثي في ذروته لم يكن هناك أي
مراقب أكاديمي أو عالم في شؤون الدبلوماسية يتوقع احتمال حدوث تلك الثورة العارمة
في إيران.
إن فقدان التوازن بين التقدم الاجتماعي ـ الاقتصادي والتنمية السياسية كسبب للثورة
وفق تعريف ما، عبارة صحيحة ولكنها لم
تخبرنا لماذا حدثت الثورة في المقطع الزمني الذي انفجرت فيه وليس في غيره، ولذلك،
فان استخدام أنماط مختلفة من
الإيضاحات العملية تنطوي على مشاكل تجريبية، ومنهجية جديّة وخطيرة.[34]
أثناء دراسة الثورة الإيرانية، وبالإضافة إلى النظريات الدولة.
ميثاق بارسا في كتابه (الأصول الاجتماعية في الثورة الإيرانية)، وبالاعتماد على هذه
النظرية وبعد أن يشرح ظهور التحالف
الثوري المرتكز على مصالح الجماعات والطبقات وشبكات العلاقات، والتنظيمات، والمصادر
المالية، ومظاهر القمع
والأيديولوجية والقيادة، يروح يقدّم تحليله الخاص حول نشاطات الجماعات الرئيسية
المساهمة في الثورة ،كالمؤسسة الدينية
وطبقة رجال الأعمال والعمال، ويلاحظ بارسا بأن البازار كان أول جماعة معبّئة قادت
المقاومة من المساجد، أي أن المساجد
شكّلت شبكة من العمل القومي للتعبئة وأصبحت الملاذ الأكثر أماناً للتجمعات
والاتصالات الجماهيرية.
إنّ مبدأ السياسة المفتوحة للحكومة وفّر فرصة للجماعات المتذّمرة، وخاصة من البعد
الاجتماعي.كما إن أغلب مطالب هذه
الجماعات أخذت بُعداً سياسياً. وهذا يعني أن تحالفاً واسعاً بين الطبقات الاجتماعية
المختلفة أخذ يتشكّل بعد أن رضي الجميع
بقيادة آية اللّه الإمام الخميني، وأخيراً، فان الترابط بين التمزّق الاجتماعي
وضعف المؤسسة العسكرية والهجوم على القوات
المسلحة، كلها شلّت الحكومة وشدهتها، وقد ظهرت قوتان مزدوجتان ،أو قوة مهيمنة
مزدوجة انتهت بانتصار الثوار وسقوط
الملكية.[35]
جيرولد گرين Jerrold Green يواصل محلّلاً أيضاً بأن الثورة الإيرانية، بقبولها
المدخل العام لـ هينتنغتون وعلاقته مع
نظرية تعددية الأسباب، يروح يُقسّم مسار المشاركة السياسية في جبهتين: التعبئة
والتعبئة المضادة. وفي رأيه إن التحديث يُسيّس
الأمة، وإن النقص أو الفراغ المتروك للمساهمة يمكن أن يؤدي إلى اضطراب سياسي، ينجر
أخيراً إلى ثورة. أنه يعتقد بأن
حكومة الشاه لم تكن قادرة على إحكام السيطرة على التعبئة بإيجاد ميكانيكيات أو
آليات صحيحة ومناسبة، كما إن فشل حزب
الشاه (راستاخيز) في تعبئة الطبقات الوسطى أو الدنيا لدعم الحكومة، أدى في النهاية
إلى تشكّل التعبئة المضادّة ،وانتهى ذلك
بشطر المجتمع إلى شطرين: شطر من الداعمين للنظام وآخر من المعارضين له (وهذا تسطيح
للسياسة) إذ أن تحقيق أي إنتصار
للثورة وعلى أي مستوى يزيد في تلاحم هذين الشطرين وتكاملهما[36].
على الرغم من مواصلة گرين تبيانه للخصائص الاجتماعية للمجتمع الإيراني والإشارة إلى
ذلك بالعامل الفعّال في اختيار قيادة
الثورة وتأشيره إلى قوة المؤسسات الدينية وطبقات المجتمع في مسار التعبئة المضادة
للحكومة، إلاّ انه مع ذلك، لم يوضح
بالضبط كيف تشكّلت هذه التعبئة وكيف رُسم مسارها.
كانت اتّجهت جميع إحالاته إلى عوامل عديدة منها: انكماش أو انحسار القوى الفاعلة
للنظام، تبسيط السياسة، تسييس المجاميع
التي لم تكنقد سيُست بعد، أو أنها لم تكن سياسية بالأصل ،الأزمات التي قادت إلى
الأحداث وردود فعل السلطة الوحشية في
التعامل مع الناس دون الأخذ بنظر الاعتبار، دور القيادات والزعماء وأساليبهم
ومناوراتهم في تعبئة الجماهير.[37]
المدخل المتعدد الأسباب:
العديد من محلّلي الثورة الإسلامية يعتقدون بأن الثورة كانت حصيلة تلاقي أو تطابق
عناصر مختلفة في طول العوامل الاقتصادية
والسياسية والأيديولوجية ـ الثقافية.
الأفكار السابقة والمبكرة كانت أقل ميلاً في التأكيد على سبب بحد ذاته، كعامل رئيسي
للثورة ـ وكان الكتّاب يشيرون إلى تعدّد
الأسباب، ولكن البعض شدّدوا على ضرورة إلفات الأنظار إلى نظرية العوامل المتعددة،
والتي بترابطها وتواصلها مع بعضها
هيّأت الأسباب لحدث الثورة.
في قضية ميشيل فيشر Michael Ficher، وفي كتاب (من الجدل الديني إلى الثورة) From
Religious Dispute
toRevolution: خصّص الكاتب القسم الأكبر من تحليله في استحضار الثقافة الدينية
الإيرانية. هذا العمل هو واحد من بين
تلك التي تؤكد أهمية العناصر الثقافية لحدث الثورة الإسلامية. إلاّ انه يعتقد مع
ذلك بأن أسباب الثورة وتوقيت حدوثها كانت
اقتصادية وسياسية. وفي الحقيقة إن شكل الثورة ومكان وقوعها مَدينٌ بشكل مؤكّد لمبدأ
الاحتجاج الديني.[38]
نيكي ر. كدي في كتابها (جذور الثورة: قراءة تأويلية لتاريخ إيران) جدولت التحولات
على مستويات مختلفة من أجل تفسير
الثورة الإسلامية. إن غياب الإصلاحات السياسية المقترنة مع التنمية الاقتصادية، وفي
نفس الوقت تأثير ذلك السلبي على
تشكيلات اجتماعية وطبقية مختلفة، من جانب، وقمع هذه التشكيلات وفقدان الحرية من
جانب آخر، كلّه عبّد الطريق أمام قطار
الثورة.
في هذا الأثناء، أنّ التحوّل في طريقة التفكير في المنهج الشيعي الثوري الراديكالي،
الذي حوّل هذا المنهج إلى أيديولوجية
للثورة، كانت سبباً مهماً جداً لها. إنّ الكاتبة تتابع الأبعاد الاجتماعية ـ
السياسية، والنفسية والأيديولوجية، آخذةً بنظر الاعتبار
الموقف الطبقي الحساس الذي سبق الثورة، والمتمثل بالصعوبات الاقتصادية التي أعقبت
فترة الانتعاش المؤقت، والتي أدت إلى
إيجاد الفجوة الكبيرة بين آمال الناس العريضة وواقعهم المرّ.[39] ومع ذلك، فإن
تحليلها بدا تاريخياً بحتاً، وكان يفتقد القاعدة
النظرية المطلوبة.
يبحث فريدهاليدي في مقالته الموسومة بـ (الثورة الإيرانية: تنمية غير مستوية ومبادئ
دينية شعبية) عن الأسباب الرئيسية
لانبثاق هذه الثورة في خضّم مظاهر التناقض والصراع الناشئة عن تنامي الرأسمالية
ووجود المؤسسات المعارضة والمقاومة
الشعبية الشاملة ضد العملية الانتقالية. انه يشخّص خمسة عناصر رئيسية للثورة
الإيرانية، وهي:
نمو سريع وغير متوازن للرأسمالية الاقتصادية في إيران، ضعف سياسي للحكم الملكي،
تحالف واسع لقوى المعارضة، دور
الإسلام في تعبئة هذه القوى وأخيراً التحولات الأساسية غير المستقرة للوضع
العالمي.[40]
تنطوي هذه العوامل على أهمية لا تنكر. ولكنْ، من الضروري، ومن أجل حسم المسألة
تاريخياً ونظرياً يجب البحث عن أسس
هذه العوامل وكيف يمكن وضعها أو ضمها مع بعضها في إطار عام موحد.
فريدة فرهي، في مقالة لها تحت عنوان (تفسخ الدولة والأزمات الثورية المدينية
المرتكزة: تحليل مقارن بين إيران ونيكاراغوا)
كانت استعارت مفهوم سكوكبول في استقلالية الدولة عن الطبقات الاجتماعية، وفيما إذا
كانت في إطارها الشمولي، ومنطقه
المحدّد، أو في دائرة إمكانية ملاحقة المصالح الخاصة بها بعيداً عن مصالح عموم
الأمة، تحاول فرهي أن تستحضر تداعيات
الحكومات وانهيارها أمام الطبقات الاجتماعية واللاعبين الدوليين.لكنها تحاول أن
تذهب أبعد قليلاً من إطار سكوكبول النظري
بإضافة عاملين آخرين هما:
1 ـ التوازن المتغيّر للقوى الطبقية كنتيجة لتنامي الرأسمالية على المستوى العالمي
وتفّهم مواقف الحكومات المحلية والضغوط
الخارجية المفروضة عليها.
2 ـ تفهّم أكبر للبُعد الأيديولوجي.
الحكومة الإيرانية الطموحة والمتسلطة واجهت استغلالاً حاداً في المحيط الاقتصادي
العالمي كقطر خارجي بعيد عن المركز،
وبما أنّ الحكومة مدعومة من قبل القوى الأجنبية، فإنها لم تستطع الاستجابة للمشاعر
الوطنية والقومية. أضف إلى ذلك انحيازها
واستقلاليتها عن الطبقات الاجتماعية المحلية. كما أنّ البيئة الإيرانية الاجتماعية
النموذجية ،كمجتمع معزول أو منغلق، وبسبب
تنامي الطبقة الوسطى (التقليدية والحديثة، وكأنها طبقات متميزة) وعدم تكيفها مع
نظام قيمي معزول تماماً عن نظام القيم العام (
ونعني به الرؤية الإسلامية)، ساعد علماء الدين على الاستمرار في تعبئة القوى
المدنية المختلفة وذلك بالاعتماد على التجمعات
الدينية، وبالتالي تمكنهم من السيطرة والتحكّم بالزعامة الدينية.[41]
ورغم أن فرهي تحاول الذهاب أبعد من نظرية سكوكبول بتشديدٍ أكبر على دور
الأيديولوجية وبُنية الأنظمة العالمية عموماً إلا
إنها لم تتخلّ عن مدخلها البنيوي الواضح المعالم..
بالإضافة إلى ذلك، ووفقاً إلى فوران وبتركيز كبير جداً، على تأكيد دور الدولة،
فإنها على عكس فرهي لم يُولّ اهتماماً كافياً للبنى
الاجتماعية، كما أنها لم يوفّق في تقديم تحليل بنيوي مفهوم أو دالّ. بل بدلاً من
ذلك راح يعوّل على البناء الاجتماعي المرتكز
مبدأياً على الدولة أكثر من الاعتماد على البناء الاجتماعي العالمي.[42]
يحاول جون فوران تفسير الثورة الإسلامية بتقديم توليفاً أو تركيباً من نظريات
ومداخل مختلفة.
بالطبع، أنّ مدخله النظري يشابه تماماً مدخل فرهي. ففي المستوى البنيوي، نراه يضع
تأكيداً أكبر على البناء الاجتماعي وعقلنة
السلطة المركزية للنظام العالمي المرتكز على التداخل بين القوى المنتجة التي تسبق
الرأسمالية والقوى السياسية الأجنبية،
العسكرية منها والاقتصادية، إلاّ أن نتيجة هذا التداخل في إيران شكّل بناءً
اجتماعياً معقداً ،مؤلفاً من طبقات كما في الرأسمالية
الحديثة. أي أنّ مسيرة التراكم الخاصة (التنمية المستقلة) كانت بحاجة إلى حكومة
قمعية مغلقة على المستويين الفردي
والسلطوي، وذلك من أجل كبح واحتواء المدّ الاجتماعي المتصاعد.
أما على صعيد العوامل الداعمة والمساعدة، فيرى فوران أنّ من الضروري قاد لاعبي
المعارضة المختلفين إلى تحالف مضاد
للحكومة وانتهى بالانتصار.[43]
وباختصار شديد، أنّ الثورة الإسلامية في إيران، كانت قد تحدّت، وبطرق مختلفة
ومستويات متباينة جميع النظريات المعروفة
في تفسير الثورات في إطار علم الاجتماع. وهذا يعني أنّ فكّ مغاليق وأسرار الكتابات
والأفكار المختلفة سوف يوجد شكاً حول
كفاءة الأمثلة التوضيحية ونظريات الثورات العالمية. كما إن معظم التعميمات
الكونكريتية أو الجزمية في البنى النظرية لم تكن
قادرة على استيعاب أو تفهّم القاعدة الفريدة التي على أساسها حدثت الثورة في إيران.
وأخيراً يمكن القول، انه لا وجود لواحدة من
هذه الإيقاعات التي تعتمد على مواصفات خاصة، يمكنها توضيح مدّ الثورة الجماهيري في
هذا البلد. ولكن وفي نفس الوقت، يبدو
أن مُعامل الأسباب المتعددة يمكن أن يكون أكثر فائدة في تفهّم وتفسير هذا الحدث
التاريخي المهم. وهذا يعني بأن عناصر الثورة
المختلفة يجب أن توضع في إطارها النظري الأكثر دقّة وتشخيصاً.