التحديث والثورة الإسلامية
--------------------------
بقلم: نيكـي كـدي
إصلاح، هدير، وإفلاس: (1963 ـ 1977) إنّ السياسات الاجتماعية والاقتصادية لنظام اوتوقراطي متحكم وقوي في أواخر الستينات
وبداية السبعينات أظهرت للكثيرين،
وخاصة خارج إيران، وكأنها مشروع موفق وقصة نجاح عظيمة.ولتأكيد هذه القناعة ،كان
بإمكان هؤلاء الإشارة إلى الزيادة
الهائلة في دخل الفرد الإيراني، متجسدة في مشاريع صناعية وزراعية بنيوية ضخمة، وعدد
لا بأس به من نشاطات الرفاه
الاجتماعي المعتبرة. من ناحية أخرى، العديد من خصوم النظام زعموا بأن جميع الاصلاحات كانت خادعة ومزيفة،
لأن التنميةلم تنفع سوى الأثرياء
،ولم تكن هناك تحولات بنيوية مهمة على صعيد المجتمع.وفي الحقيقة، انالتحولات
الاجتماعية والاقتصادية والمشاريع المتبناة
من قبل نظام الشاه في تلك الفترة لوحظت وكأنها تساهم أو ساهمت في قيادة البلد نحو
نمط رأسمالي زراعيا وصناعيا، مع تأكيد
واضح على رأسمالية الدولة، فضلاً عن الطبيعة الإوتوقراطية للنظام وهيمنته
الاحتكارية على واردات النفط المتنامية دائماً.[44] من أجل تحليل موجز لمجريات الأمور، يلاحَظ أنّ السنين المحصورة بين 1962 ـ 1977 بدت
وكأنها وحدة متماسكة في بناء
هذه الهيكلية الرأسمالية الواضحة للدولة. كما إنّ تقويض الكيانات الشبه إقطاعية
لملكية الأرض ظهرت وكأنها عائق ضد عوامل
التنمية والسيطرة المركزية الحكومية على الريف، فضلاً عن دعمها وتشجيعها للقطّاع
الرأسمالي الخاص. عدد من الكتاب وكردّ فعل ضد التسوية المسطحة لمعادلة إيران مع الأقطار الأخرى،
رفضون بعض المصطلحات مثل (
رأسمالي)، وفي الحقيقة أنّ كل منطقة من مناطق العالم لها خصوصياتها، ولكنْ لابد
للمرء من مفردات عامة للإشارة إلى بعض
البنى المقارنة. وبدلاً من الاستمرار سنة بعد سنة، واستئناف خطة خمسية بعد خطة خمسية أخرى لمناقشة
الملامح الرئيسية للاقتصاد، يبدو أكثر
وعياً وحصافةً النظر إلى التطورات الاقتصادية المهمة كمفاتيح للحكم على عموم الفترة
بعد سنة 1962، وذلك بعد التأكيد على
الاستنتاجات التحليلية الأخرى أكثر من التأكيد على التفاصيل التي يمكن العثور عليها
في فصل آخر أو حقبة أخرى.[45] مشروع إصلاح الأراضي الذي شُرّع في بداية 1962 كان الوجه الأول للسياسات الاقتصادية
الجديدة في البرنامج الزراعي،
والذي اتجّه إبان عام 1977 بوضوح في اتجاهات، مختلفة تماماً عن تلك التي توهمها
المهندس حسن أرسنجاني وزير الصناعة
المسؤول الأول في مشروع إصلاح الأرض هذا. مضى الوجه الأول لإصلاح الأرض، عام 1962
ولم ينفّذ إلاّ بعد سنين عديدة،
إذ تم بيعه إلى المزارعين على قاعدة تقييم الضرائب من قبل ملاكي الإقطاعيين، وبذلك
تم الإستيلاء على قرى أو أكثر من قرية
من قبل هؤلاء. كان يسمح لكلّ ملاّك أن يستولي على قرية من القرى بمحض اختياره،
والمكافئ أو المساوي عادة لقرية واحدة
بالاستيلاء، وهذا هو سدس التقسيمات التقليدية في القرية الكبيرة أو في كل ست قرى
صغيرة، والاختيار الأخير، لم يكن يمنح
الملاّك، الأرض الأفضل وحسب، بل منحه، بعض النفوذ في إدارة ست قرى بدلاً من واحدة. لها أنّ تمتلك سهماً بدون أن تكون فعلاً محسوبة على صنف المزارعين أو الحارثين. من
ناحية أخرى، كان هنا كحوالي 40
بالمائة من القرى الزراعية تُعطى أجور عمال نقداً أو عيناً أو كلاهما حسب ساعات
العمل المبذولة وبدون حقوق رعاية أو
صيانة. أولئك الذين كتبوا مسودّة الإصلاح، ربما كانوا غير ملتفتين إلى عدد العمال
المحرومين من حقوق الرعاية أي الذين كانوا خارج
قائمة المشمولين بالإصلاح، ولكن ومن الجانب الآخر ،فقد تحدّث الشاه لصالح صغار
أرباب الأعمال، والذين تمنّى عليهم عدم
بيع أنفسهم للآخرين ووصفهم أنهم أكثر إنتاجاً من الكبار. التقسيم الذي ضمّ العمال
كان يمكن أن يكون محتملاً فقط بتبنٍ أكثر
راديكاليةً في امتلاك الأرض والمساواة بين المالكين مصحوباً بتعاون فلاحي حيثما كان
مناسباً أو أكثر مما كان يرغب نظام الشاه
في تنفيذه.[46] وهنا يمكن القول بأن هذا الإصلاح مثله مثل أغلب الإصلاحات
الرأسمالية للأراضي، لم يكن منصفاً وحتى في
وجهه الأول التقدّمي نسبياً، أي الذي أشرف عليه أرسنجاني نفسه، بل حتى على مستوى
القرويين في نفس القرية، فبعضهم
حصل الكثير وبعضهم أقلّ وبعضهم لم يحصل شيئاً أصلاً. هناك بُعد آخر نال ثناءً واسع النطاق في مشروع إصلاح الأرض هذا، وهو الحل الذرائعي
(البراغماتي) أمام عدم معرفة
المساحات التفصيلية لمعظم القرى والذي عوّق أو أخّر كلّ محاولة إصلاح يُراد
تنفيذها، كما هو الحال في كل أقطار العالم طبعاً ـ
وذلك بسبب حدود المساحة الأكْرية لكبار الملاكين. وحينما وضع حدّ أعلى لحدود وحدة
القرية التقليدية ،فان مشاكل التكلفة
والوقت المستهلك في مسح الأرض تم تجنبّها، أي كما في العديد من الأقطار، وجد بعض
الملاكين مجالاً لتجاوز سقف الحدود.
ومنذ أن تمّت مناقشة مشروع إصلاح الأرض ولعدة سنوات قبل عام 1962، وتحديداً منذ
محاولة الحكومة الناقصة عام 1960،
انتهز الملاكون الفرصة بعقد صفقات مبيعات خيالية وهدايا للأقارب والأصدقاء من أجل
تقليل (أو الايحاء بتقليل) حدود ملكياتهم
المشروعة مقابل أي تعويض أو سيطرة حكومية محتملة. بالإضافة إلى ذلك فان القائمة
استبعدت البساتين والمراعي والمزارع
والحقول الميكانيكية ذات التقنية العالية، فكان سهلاً جداً نقل أكثر من وحدة من هذه
الوحدات إلى أكثر من واحد من هؤلاء
المقرّبين. وعلى الرغم من ذلك، وفي بعض المناطق، حاول موظفو الإصلاح من الشباب المتحمسين، وفي
الفترة الأولى عدم السماح بأي
تجاوز لهذه التغييرات في دائرة القانون، ولكن هذه المحاولات لم تُنفّذ. وفي
النهاية، ورغم العديد من الاحصاءات المعتمدة القديمة
التي أكدت بأن نصف الأراضي الإيرانية كانت ملكاً لكبار الملاك وفي كل القرى، فان
الحصيلة، في أفضل إحصاء، عادت لتقول
أن 9 بالمائة فقطمن المزارعين الإيرانيين حصلوا على أرض في المرحلة الأولى من هذا
(الإنجاز).[47] إنّ هذا ليس بالرقم غير المهم، لاسيما وان المزارعين في المرحلة الأولى، يختلفون عن
أولئك في المراحل الأخيرة، أي أنهم
حصلوا على وحدات زراعية، بمقدار من الأرض مساوٍ لذاك الذي دعم عوائلهم، وأن
مدفوعاتهم للحكومة كانت عموماً، أقلّ من
إيجاراتهم السابقة من هذا النوع. وضمن القانون، فان أي مزارع يستلم أرضاً يجب عليه
أن يشارك في تعهّد تعاوني، بعد أن تمّ
الإعلان عن تشكيل هذه التعاونيات. وهنا افتُرض بهذه التعاونيات أن تقوم بتزويد
احتياجات الائتمان للمزارعين الذين كانوا سابقاً
يلجأون لكبار الملاّك والمستغلين (وكان منهم البائعون المتجوّلون وصغار التجار
المعفوّوين من الفوائد نظرياً ولكنهم وبدلاً من
ذلك أُرهقوا ببضائعهم). بيّنت الدراسات بأن تلك التعاونيات كانت تحت قبضة رأسمالية
لم تستطع تقديم قروض كافية بفائدة دنيا
لأولئك الذين هم بأمسّ الحاجة إليها، وبذلك استمر الاستغلال في أغلب الأحيان، وبنفس
النسبة التي كان عليها سابقاً، فيما كان
المزارعون الأغنياء الذين يستطيعون الاقتراض أكثر من تلك التعاونيات نفسها غالباً
ما يُعيدون إقراض أموالهم إلى القرويين
الأكثر فقراً وبفوائد عالية. كما لم تكن هناك سيطرة كافية للتأكد من أن تلك القروض
كانت تُستخدم لأغراض إنتاجية، كما كان
يُفترض بها، بينما بدا المشهد العادي بأن المزارعين الملاّك كان يمكنهم أن يكونوا
أعضاء في التعاونيات ويستلموا قروضاً غير
مشخّصة من قبل الآخرين ويستخدمونها ضد أولئك الحرفيين القرويين المستحقين لها،
وخاصة نسّاجات السجاد من النساء
المستضعفات. رغم هذه المشاكل، سجّلت الإحصاءات المبكرة كميات جيدة لأولئك الذين حصلوا أسهماً
كاملة في المرحلة الأولى من الإصلاح.
العديد من المزارعين بدأوا الانخراط في مساحات عمل بمعدّات وآليات جديدة، من ضمنها
حفر الآبار بالطوربيدات الميكانيكية،
إذْ لم يكن هناك إطلاقاً أية ثقافة زراعية أو خدمات متطورة في إيران ،وكان الادّعاء
أن المشاكل يمكن أن تُحلّ بربط السمكرة
مثلاً مع حقوق الثروة والوحدات الثقافية والاستخدام الحديث للمعدات الباهضة الثمن
غالباً والمستوردة من الغرب، دون النظر
إلى مواءمتها مع الوضع في إيران. الوسائل التقليدية للري في معظم الأراضي الإيرانية
هي القنوات المحفورة تحت الأرض
والتي تتغذى على المياه القادمة من الجبال. وهذه بالطبع تحتاج إلى جهد مكثّف ومهارة
عالية لا تسمح الاّ بتوزيع(ديمقراطي)
للمياه أي لا تسمح بأي أذىً بيئيّ. الآبار العميقة المحفورة بواسطة الطوربيدات التي عملت جيداً لسنوات قليلة، اكتُشفت
فيما بعد أنها تخفّض نسبة المياه بشكل
ملحوظ، وان مساحات عديدة من مناطق كانت يوما ما زراعية، لم تعُد هكذا، وهذا يعني أن
إنشاء القناة النموذجية، يجب أن
يلاحظ من مدخلٍ أفضل غير هذا الذي تمّ التعامل به على عجل. مشاكل ذات علاقة برزت أو سوف تبرز في بعض المناطق بسبب استخدام التراكتورات في
الحراثة (والتي كان استيرادها
مفضّلاً ومدعوماً من قبل الحكومة). أن كميات كبيرة من التربة الفوقية الهشّة التي
تم حرثها بهذه الطريقة ترسّبت في الجداول
والأنهار وخاصة بعد أن فاضت عدة مرات الأمر الذي أدّى إلى تغيير مجاريها. العلاقة
العامة بين المراعي والحقول انقلبت
وبنفس الشاكلة إلى أسوأ ما تكون عليه بسبب التقنية الجديدة المستخدمة.وعلى الرغم من
اللوم الشديد الذي وُجّه إلى أمريكا
والشركات الغربية على مبيعاتها فوق العادية لمثل هذه التكنولوجيا، إلاّ إن النظام
الإيراني والعديد من المتخصصين الإيرانيين،
الذين يعرفون المسألة أفضل، التفتوا أنه ليس كل ما ينتجه الغرب، أي كل جديد، صالحاً
وفي كل زمان ومكان. كان عليهم أن
يتأملوا أكثر في دراسة المشاكل الصعبة لبلد مجدب ذي غابات قليلة متبقية وتربة فوقية
ناعمة، وان يحاولوا التكيّف مع ظروف
إيران الخاصة التي قد تنطوي على استخدام طرق وآلات تقليدية نموذجية لفترة أفضل من
طريق الاستعارة المباشرة غير
المدروسة من الغرب. مع ذلك، الذي تم تنفيذه كان قليلاً جداً وحتى مع هذه الطريقة التي أثبتت خطلها في
إعادة التشجير. إذ استمر النظام البائد يفّضل
شراء التراكتورات على زراعة الأشجار، كما أن الماكنة الزراعية الغربية كانت مُنحت
أفضليةً، أو ترجيحاً أفضل مما مُنح
للمعدات الإيرانية، وانّبحوثاً قليلة جداً أيضاً قُدّمت بصدد تحسين الآلات والأدوات
الموجودة. باختصار، وحتى مع أولئك الفلاحين الذي نالوا حظاً في المرحلة الأولى من الإصلاح،
فإنّ حظهم في تحسين الوسائل المتوفرة
من أجل زيادة إنتاجهم وتوفير شيء من التوفيق لرفع مستواهم، لم يكن يفي بمستوى
الطموح أو الدرجة المطلوبة. وبما أن هيمنة
سعر السوق تُفضّل باطّراد سكان المدينة، السريعي التأثر سياسياً، الأمر الذي يقود
إلى دعم المحصول الأجنبي من الحبوب عن
طريق الدفع الأكثر، فإن سعر السوق العالمي وليس الإيراني هو الرابح وبالنتيجة وهكذا
أصبح الفلاحون طبقة دنيا، رغم وجود
بعض الاستثناءات. بالنسبة للعمال الذين لم يحصلوا على أراضٍ في القرى، والذين
تأثروا بمرحلة الإصلاح الأولى، كان
استئجارهم من قبل الملاكين الكبار القدماء أقل احتمالاً من استئجارهم من قبل
الفلاحين المزراعين، الأمر الذي أدى إلى
مشاركتهم في النزوح الجماعي نحو المدن ،والذي وصل بأرقامه الرسمية أكثر من 8
بالمائة من مجموع سكان إيران بين عامي
1972 ـ 1973 وهو في المعدّل أكبر من نسبة النزوح بين أعوام 1956 ـ 1979.[48] في ربيع 1963، أُجبر أرسنجاني على تقديم تشكّل في يوم ما تهديداً لنظامه
الأوتوقراطي، وهذا ما تؤكده شعبية أرسنجاني
الواضحة ومحبة الفلاحين الإيرانيين له. أراد أرسنجاني هذا أن ينقل أكبر قدر ممكن من
أراضي الملاك الكبار إلى الفلاحين
الصغار، فرفَع شعارات وخلق آمال في هذا الاتجاه. وبعد إقصائه أصبح مسلسل العمل
لإصلاح الأرض ومراحله المختلفة أكثر
تحفظاً من الأول، ولم ينفّذ إلاّ القليل لدعم الخطوة الأولى التي أرادها أرسنجاني
والكثير من الفلاحين، والتي شملت إيجاد
تعاونيات متعدّدة الأهداف، وبرامج واسعة وبذور جيدة وغير ذلك مما كان يؤدّي إلى
تحسين أوضاع الفلاحين والعمال
الزراعيين. الوجه الثاني للإصلاح، وبعد تراجع الشاه تحت الضغوط المحافظة، اتجه نحو تنظيم
النظام القائم أكثر من اتجاهه نحو إعادة
توزيع الثروة. هذه المرحلة جاءت، نظرياً، لتغطية كافة القرى المتبقية التي لم تكن
مشمولة بالبرنامج السابق، ما عدا قرى
الأوقاف التي وضعت في عقود إيجار بسقف 99 سنة. مالك الأرض الذي يملك قرية واحدة أو
أقلّ أُعطي خمسة اختيارات، منها:
ملك موجّر نقداً، توزيع الأراضي على قاعدة تقسيم المحاصيل السابقة، مبيعات للفلاح
(وقد اختار ذلك عدد قليل جداً من الملاك).
في سياق آخر قُدمت عام 1969مُنح لجميع الفلاحين على هيئة قطع أراضي خلال مزايدة
مقَسّطة ،ولكن هذه عنت عموماً بنسبة
مئوية من الأرض التي تم حرثها مساوٍ لنسبة المحصول الذي تم استلامه تحت النظام
القديم. غالبية الفلاحين الإيرانيين لم
يحصلوا على الأرض الكافية التي تكفي قوام معيشتهم وكان عليهم أن يبحثوا عن حقل
إضافي أو عمل آخر.في أغلب قرى إيران
المشمولة بالخطة الثانية والثالثة، كان هناك عدد قليل جداً من الفلاحين ممن يستطيع
ترتيب لقمة عيشه، كما كان في الخطة
الأولى، الأمر الذي أدى إلى تصاعد هجرة العمال والفلاحين الفقراء إلى المدن. هذه
القرى كانت تُعاني مشاكل أخرى منها: عدم
كفاية القروض المالية، وعدم وجود الخدمات، وتلاعُب الحكومة بالأسعار، وتفضيلها
المدن والأجانب مقابل إهمال الريف. معظم المساعدات الحكومية الاقتصادية والتقنية، والمعونات المقدّمة من أواخر
الستينات وما بعدها بدأت تنحسر إلى أرقام أصغر
وعن وحدات زراعية كبيرة، بينما راح صغار الفلاحين والطبقة الوسطى منهم، فضلاً عن
العمال الزراعيين المعدمين الذين
تزايدت متاعبهم بسب قطْع الدعم الحكومي عنهم، لا يجدون ما يسدّ رمق عيشهم وترتيب
شؤونهم على أسس تعاونية مقبولة، كما
أن انحياز الحكومة ومحاباتها بدا ملحوظاً بعد سنّين قليلة من تطبيق برنامج الإصلاح
الزراعي وخاصة في سياستين موزّعتين
على برنامجين رئيسيين. أحدهما: إيجاد النقابات الفلاحية، حيث تجتمع في هذه الوحدات واحدة (عادةً) أو أكثر
من قرية في نقابة ،مع فلاحين (يتم إقناعهم)
بتسليم أراضيهم المستلمة حديثاً إلى النقابة، ويعوّضون عن ذلك بأن يحصلوا على سهم
واحد أو أكثر ،حسب كمية الأرض التي
وفّروها للنقابة ،أما الأجور فكانت تعتمد على اجتماع الأرض والعمل، وما دامت
النقابات الفلاحية تستخدم التقنية الحديثة، فلا
يمكن احتواء جميع المساهمين، إذ كان عسيراً جداً استخدام العمال الزراعيين أو
الفلاحين القديمي الطراز. هذه الجماعات هي
الأخرى ساهمت في إيجاد الهجرة الواسعة التي اكتظّت بها المدن. كانت هذه النقابات تُدار من قبل متخصصين حكوميين يتم إرسالهم من طهران، وكانوا
يكلّفون الميزانية نفقات طائلة لاسيما
التقنية، والرواتب، والسكن، وبنايات عديدة أخرى لغير الفلاحين، (أللإداريين).أما
مدراء النقابات الفلاحية فكانوا يزعمون دائماً
بأن مشاريعهم ذات منفعة، ولكن قاعدة حساباتهم لم تكن لتضمّ المصاريف الباهضة
للوجودات الحكومية، وان دعوى المنفعة لم
يكن ليُصدّق. من الواضح أنه في المراحل الأولى على الأقل، كان الفلاحون لا يحبون
النقابات الفلاحية أو لا يحبذونها على
الرغم من عدم وجود دراسات لمواقفهم لسنين عديدة بعد اشتراكهم، ربما كان مدهشاً أو
عجيباً حقاً، أن ترى فلاحاً يبذل كل ما
وسعه من طاقة إنتاجية في تعاونية زراعية، قياساً بما يبذله من هذه الطاقة في مزرعته
الخاصة. وهكذا تمّ تشكيل أكثر من 100
تعاونية زراعية عام 1978. بعد الثورة ولكن معظمها تفككت بدعوى إنها ليست شعبية ولا
نافعة ولا مفيدة. الشكل الآخر من الإنتاج الكبير الذي تمّ تصويبه عام 1977 كان عملاً زراعياً هائلاً
وكان مملوكاً جزئياً وموزعاً على تعاونيات
متعددة. الحقول التي تبلغ مساحتها 5000 ـ 25000 هكتار تمّ تشييدها عموماً أسفل
السدود الجديدة وخاصة في وزستان. بالرغم
من التركيز المفترض على(الأرض) الجديدة، تم إزاحة مجاميع صغيرة من الفلاحين، وكذلك
أولئك الذين لم يصبحوا عمال
زراعيين ممن ساهموا في هجرات جماعية سنوية.أصحاب العمال الزراعيين لم يستثمروا سوى
جزء بسيط من الأرض التي
استولوا عليها، وان مساهمتهم النسبية في دعم الاقتصاد الإيراني كان يُنظر إليها
كخطر من قبل المختصين. قبل عام 1978 تمّ
إقصاء عدد من أصحاب العمال الكبار، وخاصة في خوزستان من قبل الحكومة بسبب أدائهم
الضعيف. كلاهما، أصحاب الأعمال والتعاونيات الفلاحية، أثبتوا أنهم أقل إنتاجية بكثير من
طبقة المزارعين الوسطى.[49] السبب
الرئيسي لذلك كما يبدو هو أنهم انهمكوا أو استُهلكوا في مصاريف هائلة لاستصلاح
الأرض لغرض الزراعة والري والتقنية
الثقيلة مقابل أرض واطئة الكلفة وبمعدات مصنوعة محلياً، أي إنهم أُنهكوا بمعدات
إصلاح أجنبية وآلات خارجية ولكن بفوائد
إيرانية محدودة راحت تقضم مبالغ طائلة كان يمكن استخدامها في مشاريع أكثر أهمية
وفائدة. إضافة إلى ذلك إنهم ركّزوا على
محاصيل أجنبية غير مجرّبة ،فقللوا بذلك إنتاجية المحصول الإيراني وساهموا في زيادة
الاعتماد على المحاصيل المستوردة. كانت سياسة الحكومة أيضاً تفضّل الزراعة الميكانيكية في القرى المستصلحة، ومع ذلك،
لم تُقدّم الحكومة إلا القليل قياساً بالدعم
الاقتصادي والتقني، أو الدعم المقدّم إلى التجمعات التعاونية ذات الأهداف المتعددة.
في عدد من الأوساط كان هناك تقصيرا كما
هو التقصير في أجواء القراءة والكتابة لدى فيالق الخدمة العسكرية في خدمة الريف،
ولو في الحدّ الأدنى من الخدمات الصحيّة
والتطوير. لحل الإشكالات المباشرة للإنتاج هذه، لم تقدم الحكومة شيئاً يُذكر، نعم،
هناك بعض المنافع التقنية (للثورة الخضراء)
تم الاستفادة منها، ولكن ْنادراً ما بُذل جهد لمصادر الترع والمكائن، كما أن
الخدمات العامة، والتربية المقنّنة بقيت غير كافية.
معظم التعاونيات استمرت كأنها مجتمعات اقتراض نقية بدل أن تتحول إلى تعاونيات
للتسويق والإنتاج التي يمنحها عادة مجتمع
التنمية للمنتسبين.إنّ سياسات القروض التعاونية المقيّدة المذكورة ساعدت في تنامي
تفاوت الدخل في القرية وجرى تفضيل
طريقة حفر الآبار العميقة التي غالباً ما تحتكر مياهها بعد أن كانت تُقسّم
ديمقراطياً يوما ما وفي قنوات عديدة تحت الأرض. إنّ
مالك البئر يستطيع أن يبيع مورداً ثمنياً بتفضيل الزراعة الميكانيكية الواسعة، بدل
الفلاحة الصغيرة والمتوسطة. رغم الإنتاجية
الأعلى للأخيرة في إطار إيران نفسها، فان الحكومة الإيرانية تبنّت سياسة زراعية
خاصة كان يمكن أن تكون مجدية وأنجح
اقتصادياً وأكثر عقلانية في بلد واسع الأراضي بأقليّة عمالية. في إيران، مع ذلك،
بدا الوجه الزراعي الحاصل ضئيلاً جداً مجهداً
بثقل عمالي هائل غير مستخدم، وقوة عمالية قروية كبيرة. كما أنّ محاولة إيجاد حقول ميكانيكية ضخمة تنفّذ من قبل الفلاحين بسهم شخصي، كانت
دائماً بالضد من الإنتاجية المطلوبة. لقد سجلت إحصائيات الإنتاج الزراعي أرقاماً بائسة. التعاونيات الزراعية لم تبلغ
مستوى النفقات والجهود التي بُذلت من أجلها
في مشروع إصلاح القرى، كما أن إنتاجها الزراعي كان واطئاً للغاية. ورغم أنّ الأرقام الرسمية حول الارتفاع السنوي للإنتاج الزراعي كان يؤكّد بأنه بلغ
حوالي 4 بالمائة سنوياً، إلاّ أن هذا الرقم
غالباً ما يُعتبر لا قيمة له وأنّه ليس أكثر من تغطية للفشل وذّر الرماد في العيون
وإشغال عن الصدمة الحقيقية التي تؤكد أن
الإنتاج ينمو ببطء وبنسبة أكبر بكثير من زيادة السكان. إحصائية أكثر موثوقية حول
الإنتاج أكّدت بأن الارتفاع كان فقط 2 ـ
5/2 بالمائة سنوياً فيما بلغت الزيادة السكانية 3 بالمائة وان نسبة استهلاك
المحاصيل الزراعية بلغت 12 بالمائة. ومع زيادة استخدام الميكانيكا الزراعية، وعدم استخدام المزارعين أو تشغيلهم وبدخل
واطئ جداً مع زيادة مطّردة سنوياً في عدد
السكان كان هناك (نهراً) جارياً وسريعاً من هجرة أبناء القرى المزارعين هؤلاء
باتجاه المدن، وخاصة العاصمة طهران. هذه المدن كانت بدون خدمات إسكان عامة وحتى بدون فرص عمل من أي نوع تسعى للتعامل
معهم أو استيعابهم. الموقف
الزراعي هذا إضافة إلى نمو مطّرد في استهلاك الطعام كان يعني زيادة سريعة جداً في
الواردات الزراعية الأمر الذي خلق
مشكلة كبيرة لاسيما حين بدأت إيرادات النفط تنضب. الحكومة من جانبها، قلّلت إنتاج
الماشية مسجلة واردات إضافية أخرى من
اللحوم والأصواف. رغم النزوح الهائل نحو المدن والزيادة السكانية التي كانت تنمو
باطراد، طبقاً للزيادة الطبيعة[50] إلاّ أن
الهجرة التي كانت تركّزت بين الرجال في أعمار العمل أدّت إلى إضعاف الزراعة بشكل
واضح. وإذا كانت الحكومة تفضّل الكبير على الصغير في كلّ من المدينة والريف، فإنها فضلّت
المدن على القرى علماً بان المدينة كانت
في الأصل أكثر ثراءً وأكثر قدرة من الريف. وهذا ما تمت ملاحظته بشكل واضح في
السيطرة على الأسعار المعتمدة على
المحاصيل الزراعية التي أسكتت لفترة معينة التذّمر الصريح من قبل جماهير المدن
الغاضبة هذه. السيطرة غالباً ما تركزت على
تثبيت أسعار منخفضة تُعطى للمنتجين مقابل عدد معين من أثمان المحاصيل الزراعية،
ولكنها أدت بالنتيجة إلى تسليط ضغوط
أكبر على المداخيل الزراعية نسبةً إلى مداخيل أبناء المدن. مشاكل أخرى بدأ استشعارها من قبل أبناء القبائل والمراعي في الريف. وعلى الرغم من
احتمال نشوء هذه المشاكل عن قبائل
الخانات الذين حرّضوا على الثورة المتعلقة بإصلاح الأرض بين قبائل قشقاء وبوير أحمد
في مقاطعة فارس عام 1963، فان
أبناء القبائل العاديين كانوا يعانون أيضاً من سياسات الحكومة الزراعية. أبناء
المدينة والفلاحون الأثرياء كانوا أوفر حظاً في
الاستفادة من الثغرات في قانون إصلاح الأرض فراحوا يضعون اللوم على أراضي القبائل
أكثر من لومهم رجال القبائل الذين
كان لهم تأثير أقل على السلطات الحكومية، هذا أولاً، وثانياً: أن تأميم المراعي الذي هو واحد من النقاط المضافة إلى الثورة البيضاء
WhiteRevolution كان سحبَ السيطرة
القبائلية على مراعي الحقول، الأمر الذي جعل القبائل باستمرار عرضةً لنزوات بعض
الشخصيات الحكومية ورجال السياسة
وكذلك ملاحقة جلاوزة الدرك والجندرمة. الزراعة والمشاريع الأخرى التي اتّسعت على حساب المراعي ورجال القبائل كانت أقلّ
بكثير لأن تدعم نفسها بوجود رعوي
بدائي. في السبعينات، اقتنعت الحكومة أو أُقنعت من قبل رجال الأعمال الأمريكان، إنه
بدلاً من الإعتماد على المواشي البدوية
لتوفير اللحوم للإيرانيين، فان الحكومة بإمكانها التوقيع على عقود ضخمة لشراء
اللحوم والدواجن والمنتوجات الحيوانية مع
معداتها المستوردة الباهضة الكلفة كالعلف والقطعان من الخارج ،فصار مثلها هذا مثل
تلك المشاريع الزراعية الضخمة التي
كانت باهضة التكاليف ولكنها غير منتجة، فضلاً عن تفضيل الإيرانيين للحوم الطازجة
ولحوم الأغنام على لحوم البقر واللحوم
المستوردة المجمدة التي فرضتها عليهم السياسات الحكومية. محمد رضا شاه كأبيه، انتهج سياسة توطين البدو، ولكن ليس بالقوة أو السلاح وإنما
بحرمانهم من مصادر المعيشة، الأمر الذي
ألزمهم أن يصبحوا مزارعين أو يدخلوا في صف الطبقات الكادحة أو ينتقلوا إلى الأحياء
الفقيرة في المدن.[51] وكما هي قضية
المزارعين وحقولهم ،شعر النظام بأن البداوة مسألة ليست مستحدثة كما حاول النسق
الأمريكي الإيحاء به في الحقول الحيوانية.
وهكذا استفاد الأثرياء الإيرانيون والأمريكان من المحاولة الأخيرة. في كلتا
الحالتين، ان طريقة العيش التي تعلمها عموم الناس
في الاستفادة الهامشية من المصادر، والتي يمكن تحسينها أو إنعاشها بعمليات اختبارية
،تم التضحية بها لحساب الاستفادة من
المبيعات للواردات الغربية الحديثة غير المناسبة.(منذ سنة 1979 عاد بعض البدو إلى
أراضيهم التي أُخذت منهم، وان الفصل
الأخير في هذه المعركة القديمة سيُكتب في ما بعد). الصغار. إصلاح الأرض ربما لم يكن له أهداف اقتصادية أولية ولكن الهدف الرئيس هو
تحجيم سلطة مالك الأرض من جهة
واستدراج المزارعين والبدو إلى السيطرة المباشرة من جهة أخرى، وهذا ماتمّ إنجازه
فعلاً. المحيط الصناعي كان مرتبطاً بشكل أو بآخر مع الخطط السنوية الخمسية لإيران أكثر من
ارتباطه بالتحولات الزراعية الكبيرة
(إصلاح الأرض على الخصوص، لم يكن مقترحاً في الخطة التي غطت الفترة التي نُفذت
فيها)، وان نواقص الخطة الخمسية
الأولى تمت ملاحظتها آنفاً.الخطط الأخيرة أصبحت مقترنة مع التقنية الحديثة ودائرة
الموظفين ،وتدريجياً المستقلّة ومنظمة
الميزانية والوزراء الذين كان من المفترض بهم تنفيذ المشاريع العامة وعدم إيثارهم
الإهتمام بمشاريعهم الخاصة. لقد كان هذا
سبباً مهما للتراجع وفقدان الحالة التعبوية المطلوبة. في نهاية الخمسينات كان هناك مكتب اقتصادي تمّ انتدابه لتنظيم الخطة بمساعدة مجموعة
من المشرفين الغربيين في جامعة
هارفارد. التقييم العام الوحيد الذي تم طبعه من قبل أحد أعضاء هذا المكتب كان في
مجمله سلبياً ويدور حول منهج التخطيط في
إيران، كما أن الملاحظات التي تم تسجيلها حول الخطوات التقدمية الرئيسية في هذا
البلد في النصف الثاني من هذا القرن، لم
تكن لتحصل لولا التوجه القومي، مثل زيادة السيطرة على النفط والتعريفة الگمرگية
والعلاقة مع الأجانب[52]. ومن هنا يأتي
التحذير أو ضرورة اليقظة تجاه ما يُسمى التخطيط في إيران. كان النظام في الحقيقة يتبّع ستراتيجية اقتصادية عامة، متأثرة جداً بالزيادة
المطّردة لواردات النفط. ومع هذا فان من المحتمل جداً، أن تكون النسبة الأكبر من هذه العامة وتستخدم التقنية
الحديثة لتأكيد تقدم اقتصادي واجتماعي
عاجل. إنّ إدارة الشاه غالباً ما كانت تؤكّد في الحقيقة على السياسات الاقتصادية. الإستراتيجية الحكومية تجاه الاقتصاد منذ الستينات تضمّنت تطوراً سريعاً باتجاه
استيراد الصناعات البديلة والتأكيد على
المشاريع الكبيرة التي تتطلّب توفير أيدي عاملة وتكنولوجيا معاصرة. ورغم الانهيارات
القليلة التي طالت التجارة والمشاريع
المتواضعة ،فقد تم تشجيع قروض بفوائد ضخمة لكلّ من الشركات المحلية والأجنبية، فيما
بُذل القليل من الجهد حيال تلك الرؤى
وفي درجات واطئة لموازنة الاقتصاد. السياسة المذكورة تمّت الموافقة عليها من قِبلَ البعض وفقا للنظرية القائلة، بأن
المراحل الأولى من التنمية كتوزيع الدخل لابد من
تحمّل مساوئها الابتدائية، وان أولئك الذين هم في قمة الميزان، يجب تفضيلهم ما
داموا يوفرون ربحاً أكثر ويحققون إنتاجاً اكبر
من أولئك الذين في القعر. النظرية المنافسة على الأقل في المرحلة التي وصلتها إيران تستدعي مساواة أكبر في
الدخول المطلوبة وذلك لتنمية الدعم الذاتي
لاسيما حين يكون سوق الاستهلاك الجماهيري غير قادر على تمكين الناس من استرجاع ما
أنتجوه من أرباح، وهذا نادراً ما
حصل. إن سعي النظام نحو حجم أكبر أو دور أكبر مما ينطوي عليه من قوة أية ضرائب تنازلية
أخرى. إن الحكومة تستطيع أن تدبّر
الأمور بدون ضريبة الدخل ولكنها لم تحاول جادةً استخدام قانون الضرائب كوسيلة
لضريبة عادلة ومنصفة كما أنها لم تعمل على
إحصاء جباة الضرائب ولا ضرائب المواطنين إلى اليوم، وربما يستمر ذلك حتى عندما
يتوقف النفط عن التدفّق. بكلام أكثر جدّية نقول: إنّ الزخم الممنوح من قبل النفط والذي أدى إلى الازدهار
الدراماتيكي للإقتصاد الإيراني من عام 1963
إلى أواخر السبعينات مع ارتفاع الدخل الفردي من 200 دولار إلى 1000 دولار في
الواقع، أي بأعلى نسبة ارتفاع حصلت في
التاريخ الحديث لقطر صغير، فإن فارق الدخل بين الأغنياء والفقراء لم يقلّل وإنما
على العكس، فالأرباح استمرت مكدّسة بأيدي
الطبقة العليا، وهذا عائد بطبيعة الحال إلى سياسات الحكومة العاجزة. في مجال الصناعة، فضّلت السياسات الحكومية، على الأقل منذ الستينات كلاّ من الإنتاج
الخاص للمستهلك، الباهض التكاليف
نسبياً، قياساً لمنافسه الأجنبي الكبير السوق المركزي في طهران، وركّزت كذلك على
المشاريع الاقتصادية داخل طهران وقريباً
منها. وهذا ما ساعد الإيرانيين والمستثمرين الأجانب الذين أصبحوا قانونياً أحراراً
في إعادة جدولة فوائدهم. (الاستثمارات
الأجنبية المباشرة خارج النفط، لم تكن ـ على كل حال ـ كبيرة جداً، ،فيما كانت
المبيعات الأجنبية ودوائر الموظفين أكثر أهمية). بسبب وارداتها النفطية ،أعلنت الحكومة ضرائب صناعية لدعم صناعات معينة بل هي نفسها
راحت تبني مصانع وتؤسس بنى
تحتية لمصانع كبيرة، وكانت الحكومة قادرة بارتكازها على عائدات النفط أن تدفع رواتب
عالية إلى أسراب المدراء والموظفين
الكبار، وبذلك تُمكّنهم من شراء قدرات المستهلِك المستهلَك. إن الإجراءات الحكومية تضمّنت تعريفة عالية لحظر بعض المواد المستوردة أجل وضع
سياسة معينة للتصنيع، ولكن
التعريفات هذه نادراً ما خُفضّت، الأمر الذي أدى إلى تقليص حافز الخبرة، أو توجيه
رأس المال نحو تلك الفروع الإنتاجية
الأجنبية التي تستخدم الثروات المحلية أو تبددها. أنواع عديدة من السيارات تم
إنتاجها أو تجميعها، بينما هناك العديد من البضائع
التي يمكن أن توضع في دائرة النفع العام كالمصانع الصغيرة كانت إما مستوردة أو
يدوية أو محدودة الكمية. التعريفات المخفضّة
يمكنها أن تعقلن الإنتاج، بتقليل إنتاجية السلع المعقّدة التي تتطلب عناصر مستوردة
كثيرة مقابل إنتاج المواد البسيطة والبضائع
الشعبية التي تحتاج تعريفة أقل إنتاجاً وصناعةً كما إنها أقل ثمناً نسبياً. بكلمة
أخرى إن إنتاج البضائع الرئيسية كان يمكن أن
يُدعم بسياسات تعريفية جديدة. لقد صُمّمت سياسات الإئتمان لتأهيل المشاريع الكبرى على أسس سياسية، وكان الأثرياء
الإيرانيون والأجانب هم الذين يمتلكونها
أو يديرونها. النسب المدعمة بدرجة ما تحت سعر السوق كانت متوفرة فقط لهذه المشاريع،
فيما كان أصحاب المحلات الصغيرة
والعمال اليدويون محرومين حتى من القروض المصرفية المتواضعة ما دامت مصانعهم لا
تقدّم ضمانات كافية لقروضهم. بل
كانوا على العموم مرغوب بهم في المسح الرسوم المصرفية العادّية البالغة 12 بالمائة،
وبالتالي كان عليهم الاقتراض من البازار
برسوم عالية قد تصل إلى 25 و 100 بالمائة. استخدام أكبر، ونسبة أقل في تفاوت الدخل
كان يمكن تحقيقه في سياسة قروض
مضادة برسوم جمركية أعلى مخصصة للصناعيين الكبار ورسوم مدعومة إلى الملاك الصغار.
(إن الصعوبات الكبيرة في
الحصول على قروض مصرفية ،كانت سبباً وارداً من أسباب الهجمات الجماهيرية على البنوك
عام 1978 وإن كانت أسباباً
أخرى قد ذُكرت). ضرائب العُطل والمناسبات بأنواعها المختلفة كانت مُنحت لدعم مسافة 120 كم من طهران. وعلى الرغم من أن الشركات ليست بحاجة إلى ترخيص قانوني لكي تؤدي عملها، إلا أن كلّ
شركة محدّدة صار لابدّ لها من
ترخيص للاستيراد والتصدير أو التعامل مع الحكومة. الترخيص الحكومي كان يُمنح فقط
لعدد قليل من الشركات في كل حقل. إذ أن وجود هذه الشركات النظري المنطقي الرئيسي صار مرهوناً بإبقاء الحقل دون مستوى
الضغط، وعلى المصانع ألاّ تُجهَد
بحيث تبقى تعمل بكامل طاقتها. إن الحاجة إلى الحصول على الترخيص والاحتفاظ به، كما
هي القواعد المعمول بها في حكومات
أخرى، كان يفترض وجود الأشخاص الرئيسيين داخل الشركة حيث يصرفون معظم أوقاتهم في
طهران لتدريب واحد أو أكثر
من المتفوقين وذلك من أجل ضمان إيصالات الترخيص والمطالب المهمة الأخرى. وفي إطار التراخيص والقضايا الأخرى المماثلة، كانت هناك قصص وحكايات موثقة قد
انتشرت حول الطبقات العليا من
الإيرانيين (بضمنهم الأميرة أشرف وولدها شهرام)الذي كان يأخذ 10 بالمائة من شركة
جوارب مقابل ضمانة يقدمها لاستحصال
تراخيص عمل. هذه الممارسات، مضافاً إليها، ممارسات غير مسؤولة أخرى ذُكرت آنفاً،
وظواهر عديدة أخرى مماثلة أدّت
بالضرورة إلى زيادة أسعار مبيعات البضائع الإيرانية الأمر الذي أدى إلى تحديد
صناعتها المحلية وزيادة الطلب على السوق
الأجنبية، أنهم هكذا تم تشويه توزيع الدخل. الانحطاط المعنوي الذي انتشر مع نموّ عائدات النفط، يُعتبر عاملاً آخر لدفع الثروات
صعوداً أو هبوطاً. الأمر الذي جعل
الملومين أكثر عرضة للمساءلة ورقابة الخواص. يُضاف إلى ذلك أن تنامي ثروة الشاه رغم
الهبوط الاقتصادي في السبعينات
،وكذلك ثروة عائلته الخاصة. ومعهم النخبة، كانت كاسحة ومجّة بشكل أضاف للمعارضة
عاملاً جديداً أو ذريعة من ذرائع
الاحتجاج والتذمر. العديد من الشركات الأجنبية كانت هي الأخرى في سجالات الأخذ
والردّ بين الأفراد والجماعات. بالنسبة للرأسمال الأجنبي، وعلى الرغم من أن الأجانب كان بإمكانهم قانونياً امتلاك
حصة قليلة فقط في المصانع الإيرانية، وانهم
كانوا يتعرّضون إلى مضايقات، إلاّ أنهم كانوا يستثمرون فوائدهم بحرية تامة. بحوث
موجزة مهمة لعدد من المستثمرين الأجانب
زعمت بأن الفائدة على رأس المال البالغة 30 بالمائة كانت مسألة عادية جداً في
إيران. الاقتصاديون الذين عرفوا البلد غالباً ما
تكلموا عن نسبة 50 بالمائة، والفوائد في التجارة والصناعة بلغت 100 إلى 200 بالمائة
بعد أن لم تكن معروفة، ومن هنا فإن
نفور رجل الشارع التقليدي لاستثمار الصناعة ذات النفع القليل في الشرق الأوسط مهّد
الطريق أمام الازدهار الصناعي بعد
التركيز على جمعيات السلع الاستهلاكية، التي استهدفت بشكل رئيسي الثري المكبوح
نسبياً. إلا أن مثل هذا الازدهار حمل معه
مشاكل كبيرة أيضاً. الإستثمار الأجنبي في إيران كان أقلّ بكثير من استيراد البضائع الأجنبية، كما إن
التعاونيات الأجنبية دفعت رغبة الشاه وولعه
بكل جديد ومتطور إلى حدّه الأقصى. على صعيد التسليح، اشترى الشاه أحدث أنواع
الأسلحة بمليارات الدولارات، وغالباً ما قيل
انه اشتراها وهي في طريقها مشحونة إلى مشاجبها. كان يستورد أرقى أنواع الكومبيوترات
تقنيةً مع لوازمها وقطع غيارها
إضافة إلى معامل شبه أتوماتيكية. كما أصبحت إيران سوقاً هائلة للحبوب الأمريكية،
والتي كان بعضها يستخدم لإطعام المواشي
الأمريكية المستوردة والدواجن التي أصبحت هي الأخرى بديلاً عن المواشي والشياه
البدوية الإيرانية ـ بطبيعة الحال ـ. المعدّات الأجنبية المتطورة كانت تتطلب تقنية وإداريين وخبراء أجانب ومعهم عمال
راحوا ينهمرون على إيران في السبعينات
بالعشرات أو بالآلاف. الأمريكان والأوربيون كانوا يتركزون في المواقع العليا لأجهزة
ودوائر التقنية هذه. أما خبراء الشرق
الأدنى فكانوا يمثلون مواقع العمال الماهرين فيما جاء الأفغان في المرتبة الأخيرة
لإدراة الأعمال العادية وكانوا سبباً في خفض
الأجور. الخبراء المهرة الأجانب على العكس كانوا يحصلون على رواتب أعلى من
الإيرانيين، وفي بعض الأحيان أضعاف
مضاعفة. وبهذا، وبالإضافة إلى سلوكياتهم الشاذة ودفعهم الكثير مقابل الإيجارات والسكن
النادر فإنهم أصبحوا موضع نفور الناس ومدار
ازدرائهم. في سياق هذه السياسة الصناعية وضمن تفضيل الفوائد الضخمة من قبل عدد قليل من
الصناعات الرأسمالية المشجعة راحت
الحملات الإعلامية ضد (المنتفعين) تجري في غير صالح أصحاب الأسهم وعمال المصانع،
وصار لزاماً أن يُعاد النظر في هذه
السياسة وان تُقيّم من جديد. مثل هذه المقاييس كانت إما كبش فداء أو ملطّفات في
مواجهة ارتفاع الفوائد، وتفاوت الدخول،
والتضخّم المتصاعد، والخراب، والفشل في مواجهة وعود الحكومة في اقتصاد أعظم أو
مساواة اجتماعية أكبر. وعلى طول
سياسات معينة أخرى، فإنها كانت مصممة لتسكين التذمر الذي تجلّى من خلال إضرابات
متكررة وغير قانونية وغير مسموح بها
انضم لها عمال المصانع. ومن خلال تفضيل الحكومة للعمال في المعامل الكبيرة، ومنحهم
امتيازات الأسهم والمقاييس الأخرى،
كانت على كل حال، أقل دراماتيكيةً من الإعلانات التي أظهرتها، وكذلك من خلال رفع
أجور العمال المتفوقين، والعمال في
المعامل الكبرى ومتاجر معينة، أصبحت كل جماعة مفضّلة نسبيا على أخرى في أواسط
السبعينات. إنّ المرء لا يستطيع أن يقرّر بأن الجماعات المعتبرة من العمال الذين كانت أجورهم
تتضاعف في سنين قليلة نماذج على
الطبقات الجماهيرية في المجتمع، فبالنسبة إلى المعتقلين والتجار المقصيين كان تجار
البازار أو منتسبي الأقليات أقل ترجيحاً من
أرباب العمل الأثرياء الجدد. كل هذا لا يعني أنّ سياسات الحكومة الصناعية تمخّضت فقط عن نتائج سلبية، وإنما كانت
هناك بعض الملامح الايجابية، إذ أن
درجات النمو الصناعي كانت واحدة من أعلى الدرجات في العالم، وقد ارتفعت أكثر مع
ارتفاع عائدات النفط الهائلة منذ
سنة1974. الذي استمر موضع تساؤل هو استمرار سياسة تفضيل نموذج الصناعة الغربي،
إضافة إلى عدم الاهتمام بالأعمال
اليدوية والصناعات البسيطة التي تساهم في الإنتاج، والاستخدام المنصف ومساواة أعظم
في دخل الناس، وكذلك تفضيل
الاستثمارات الأجنبية ونموذج الإنتاج الذي يتطلب حضوراً أجنبياً هائلاً عبر التوقيع
على مشاريع استهلاكية ثقيلة ،كل ذلك كان
مستمراً وقد ساهم في مركزة السوق الوطني في طهران وفي تطوير نوعي كان يعني البديل
المستورد الذي قاد إلى ارتفاع كبير
في واردات الغذاء ومعها البضائع المهمة والعديد من السلع الاستهلاكية. وبهذا فقد
لوحظت العديد من المشاكل من قبل المخططين
الإيرانيين، مثل التمركز السكاني الزائد عن الحدّ في طهران ومدن كبيرة أخرى فضلاً
عن استيراد عدد كبير جداً من السيارات
والبضائع الترفية التي أدّت إلى اعتماد اكبر من الحدّ على الأجانب. وفوق كلّ ذلك
أدّى إلى تنامي وتزايد الفروق الطبقية في
الدخول وتوزيع الثروة، وهي أمور كانت تُغذّى من قبل سياسات الحكومة الخاصة.[53] مع ما ذكر، لم يعد مدهشاً أو عجيباً الحديث عن اتساع فجوات الدخل بين الناس في
الستينات والسبعينات. وعلى الرغم من عدم
وجود مسح عام أو مخطط جيد لدراسة الدخول فقد كانت هناك مخططات الإنفاق العائلي،
وعلى هذه القواعد والمرتكزات وضع
الاقتصاديون الإيرانيون والأجانب دراساتهم مع نفس الاستنتاجات. باختصار ومنذ
الستينات، كان تفاوت الدخل في إيران، والذي
كان هائلاً جداً قياساً بالميزان العالمي، قد زاد وكانت هذه الزيادة دراماتيكية بعد
سنة 1974، أي بعد ما ارتفعت أسعار النفط
ارتفاعا هائلاً.إن حجم وزيادة التفاوت في توزيع الثروة في إيران أصبح ملحوظاً وكان
التساؤل المطروح في ما إذا كانت
المقارنات تجرى بين الأعلى والأدنى، أو أن تؤخذ مقاييس أخرى في تشخيص الانحراف في
ميزان التوزيع. بالإضافة إلى ذلك،
أن دراسة إيرانية مهمة أجريت تبين الزيادات في التفاوت الطبقي في جميع الكيانات
الرئيسية في البلد بين الأعلى والأدنى، بين
المدن والريف، في داخل المدن، وداخل الريف أيضاً.[54] كل هذا حصل مع التأكيدات المتكررة من قبل الحكومة وتصميماتها المزعومة لتقليص هذا
التفاوت. ومع ذلك، وفوق كل شيء، كان معروفاً أنّ الأغنياء قد تمّ دعمهم بأموال النفط
والواردات الحكومية الأخرى، فيما كان الفقراء
يعانون الأمرّين. وهذا لا يعني حرفياً أن الفقراء ازدادوا فقراً، فمع إقرار الزيادة الهائلة في دخل
الفرد، فان الأثرياء أصبحوا أكثر ثراءً وعدد من
الفقراء أصبحوا بعض الشيء أكثر ثروةً. نعم، ظهر الفقراء أو الطبقة الفقيرة بمستوى دخل منخفض، ومع ذلك، وحتى في حال
مضاعفته إلى ضعفين أو ثلاثة فان دخلهم
الجديد هذا لم يوصلهم ولا بأي شيء أو حدّ لمستوى الطبقات العمالية في أوربا. إنهم
كانوا يشاهدون أيضاً استهلاكاً واضحاً للنخبة
المحظوظة حولهم، وهذا ما شكّل تذمّراً أرفع صوتاً وأمضى أثراً. الأنماط الاستهلاكية المدعومة من قبل هذا التوزيع غير المتكافئ وجنباً إلى جنب مع
النمو المتأرجح لواردات النفط بعد عام
1973 ساهمَ في إيجاد جملة من المشاكل الوطنية والقومية للبلد منها: ضرائب مستمرة ومتزايدة على الواردات، توجيه الاقتصاد نحو الاعتماد على الأجانب،
التسرّب الهائل للسكان داخل المدن
المزدحمة، حاجة ماسّة إلى كلفة سكن واطئة في المدينة قبال الأسعار الضخمة للإيجارات
المتفاقمة التي يدفعها تنامي حضور
الأجانب وأجورهم المرتفعة، كل ذلك زاد في رفع الأسعار، كما زاد في مخاوف ارتفاع
أجور السكن. إن توزيعاً أكثر اعتدالاً
للدخل يمكن أن يُدعم بالاتجاه نحو سياسة اقتصادية لا مركزية وزياة نشر السكان،
ويمكن أن يوجد سوقاً للبضائع بعائدات إيرانية
أكبر. إن السياسة التي تفضّل المزارعين وصغار المنتجين يمكن أن تدعم الإنتاج وتوفّر فرص
العمل وتشجّع انتشار السكان وخاصة
إذا كانت الصناعات اليدوية الصغيرة مدعومةً في القرى أو قريباً منها. الاستثمارات
المتنوعة فقط التي تضمّ المدن والقرى يمكن
أن تستوعب إنسانياً كافة حاجات السكان الإيرانيين المتزايدة والمتنامية. الصناعات الكبيرة ضرورية، ولكن الصناعات الصغيرة هي الأخرى مطلوبة لهذا الغرض. في أواخر عام 1973 عزز زيادة الإنتاج مصحوباً بزيادة مئوية مطّردة في ميزانيات
الدولة يرافقه ارتفاع متواصل لمستوى
المعيشة وصل إلى نسبة 88 بالمائة. في أواخر الستينات ، أصبحت إيران قادرة على
التفاوض مع الشركات المالية الكبرى،
فارضةً سيطرتها على مستويات الإنتاج والتسعيرة، تاركةً صادرات مضمونة إلى هذه
الشركات من أجل التسويق. ورغم ما في
هذا من عودة إلى التأميم الجزئي، إلاّ أنّه لم يلحق ضرراً بالشركات أو الاتحادات
المالية، بل على العكس ـ أنها استفادت بشكل
كبير من أية زيادة في أسعار نفط الـ أوبك. في عام 1973، أدّت الحرب العربية ـ الإسرائيلية إلى إقدام العرب على قطع إمدادات
النفط عن الممولين الغربيين الذين يزودون
إسرائيل بالنفط وكذلك إلى زيادة أسعاره بشكل مضاعف.في ملتقى أوبك عام 1973 ساهم
الشاه بنجاح في مضاعفة أسعار النفط
بدعوى وجيهة مفادها أن أسعار هذه المادة بقيت قليلة قياساً بجميع المواد الأخرى
المماثلة التي ارتفعت أسعارها. بعد ذلك أطلق
الشاه عبارته الشهيرة بأن إيران سوف تصبح واحدة من الدول الخمسة العظمى في العالم
مع معدّل عال للدخل مساوٍ لأفضل ما
موجود أو معروف في الدنيا. يبدو أنّ الشاه لم يكن مدركاً بأن هذا الكمّ الهائل من
الدخل القومي لا يمكن قذفه في الاقتصاد
الإيراني دون نتائج جديّة لاسيما في ما يتعلق بمسألة التضخّم والانكماش وتسخين
الاقتصاد. في أوائل عام 1974 ترأس الشاه
مؤتمراً رسمياً ووقف أمام معارضة ضعيفة يقودها بعض المخططين، مؤكّداً على توسعة
برنامج الصرف لدعم الخطط
الخمسية[55]. الطريف أنّ الشاه لم يكن مأخوذاً بانتصاره في أوبك ونتائجها في إيران. فالبرنامج
الموصوف آنفاً يركّز على الصناعة الضخمة
والزراعة، مع ما يرافق ذلك من هجرة غير عاديّة إلى المدينة ونقص حاد في خدمات السكن
والبضائع والخدمات الأخرى الأمر
الذي زاد فعلاً من مفردات الأزمة. النقص في المواد الغذائية في المدن، فقدان
السيطرة، ازدحام المرور، الكثافة السكّانية، التلّوث،
كل ذلك جعل الحياة صعبة للغاية، فيما تعالت أصوات معارك سجالية وأخرى مادية في
الشوارع كأدلة واضحة على شدّة الأزمة
وضغطها المتفاقم. كما أن ولع الشاه غير المحدود بشراء كميات كبيرة ومن آخر مبتكرات الماكنة العسكرية
الغربية بما فيها من معدات وآلات حربية
متطورة وبلا حدود أو كوابح ومنذ سنة 1972 جعل تصريح إدارة نيكسون صحيحاً بأن الشاه
سيكون شرطي الخليج أو هو
شرطي الخليج فعلاً، وخاصة حين وافق الأول على بيع الشاه كل ما رغب ويرغب فيه من
أسلحة غير نووية. الحكومات الغربية
والتعاونيات، فضلاً عن الولايات المتحدة جميعها كانت مسرورة لأن تبيع كل شيء مع
اعتبار لا قيمة له، ولا تقدير لكل العواقب
المترتبة على ذلك. إنّ رغبة بل لهفة الغرب لكي يبيع معدات عسكرية ببلايين الدولارات إلى إيران كل عام
كان مؤيَّداً بسبب الاستنزاف الاقتصادي
للغرب، والناشئ عن ارتفاع أسعار النفط في دول الأوبك. ظهرت مبيعات الأسلحة كأفضل
طريق لموازنة خلل البترو دولار
وإعادة التوازن. بعد الانسحاب البريطاني من الخليج، كانت الحكومتان البريطانية والأمريكية سعيدتين
برؤية إيران تتحول إلى شرطي في
المنطقة أو إلى شرطي المنطقة، لقتال اليساريين، حيث كانت توجه الثوار في عُمان في
محافظة ظفار، مهدّدة القوى المختبئة
المزعجة الأخرى التي تقف على الخط. وقد زوّدت بريطانيا إيران بدبابات شيفتن بعدد
أكبر من ذاك الذي تمتلكه في مشاجبها
العسكرية الخاصة. أما أمريكا فقد مكّنت الشاه لأنْ يكون الشخص الأول الذي يشتري
أسراباً من الطائرات المقاتلة المتطورة،
وغالباً قبل أن تدخل ميدان الاختبار وحتى الانتهاج. كما شرعت إيران ببناء شبكة مخابرات الكترونية أمريكية التصميم ترافقهم عوائلهم
يذهبون إلى إيران مساهمين طبعاً في رفع
نسبة التضخم فضلاً عما كانت تثيره تصرّفاتهم غير المألوفة بين الإيرانيين من ازدراء
واحتقار. المجهزون العسكريون الأمريكان أمثال گرومان ولوك هيد ويستنج هيد احتلوا مواقع
أساسية في النظام الاقتصادي. العديد من
المنتجين الإيرانيين المغمورين، وبعد تدريب باهض الكلفة تقنياً، وجدوا أنفسهم
تدريجياً منخرطين في القوات المسلحة وفي بناء
مشاريع لإنتاج الأسلحة وإنشاء القواعد البحرية العسكرية، وضمن تسهيلات نقل واستيراد
متواصلة للمواد العسكرية والحربية.
نظام الإسكان الجديد يبدأ، وخاصة بعد استخدام الإسمنت الذي لم يُسمح به قانونياً في
البداية وكان محاصراً ويستحيل الحصول
عليه بسبب الطلبات الكبيرة عليه وعلى المواد الإنشائية الأخرى التي تمّ استنزافها
في تشييد وبناء المثابات والمقرات العسكرية
الضخمة. ومن هنا يمكن القول أنّ أزمة السكن وارتفاع أسعار البيوت ارتبطت ارتباطاً
وثيقاً مع سياسة الصرف على العسكر
والأجانب والإرادة الأجنبية القادرة على دفع إيجارات أعلى، الأمر الذي زاد الأزمة
تعقيداً. إنّ التشديد على المشاريع المعقدة والكبيرة ازداد، وبما أنه لم يكن هناك أي برنامج
كاف للتثقيف والتعليم التكنولوجي، ولم يكن
هناك عدد كاف من الخبراء الإيرانيين المتمرسين على هذه الأعمال وأقلّ منهم في مجال
الإدارة والقدرة العلمية، فقد بدأ توريد
الأجانب وتنامي أعدادهم التي ساهمت في تعقيد أزمة الازدحام والعوز والقلق والتضخم،
كل ذلك مصحوباً بمشاعر عدائية
متنامية ضد الأمريكان أينما حلّوا ورحلوا. الغربي عن التحديث وآثاره. إنّ المسألة المهمة هو كيفية إجراء التحديث وليس فيه، وكذلك النتائج المترتبة
عليه[56]. الاجتثاث الثقافي كان هو الآخر عاملاً
مهماً في أواخر السبعينات عندما يبدأ تحدّي التغريب بالأفكار والقراءات الشيعية
الثورية الجديدة، المقترنة على وجه التحديد مع
علي شريعتي (انظر الفصل 8). بينما كان بعض الأمريكان يضغطون على الشاه، وحتى بعد شروع بعض الموظفين الحكوميين
بسياسة نقده بعد إصراره على
زيادة الأسعار في اجتماع دول الأوبك، فان فوائد مالية ضخمة لرجا لأعمال في الولايات
المتحدة ظهرت أكثر التصاقاً بل أكثر
اعتماداً على نظام الشاه من أي وقت آخر. كانت هذه أقرب إلى الحقيقة في ثلاث إشارات
حقيقية في دائرة العمل الأمريكية:
التسليح، والنفط، والسياسة المصرفية. إنتاجية التكنولوجيا المتطورة وصناعة معدات المحاصيل الزراعية، والبضائع
الاستهلاكية كان لها سوقاً رائجة في إيران.
البرامج الصناعية التقدمية الكبيرة في إيران كانت في أكثر من حالة مسؤولة عن كفالة
ودعم المصنّع العسكري الأمريكي، إذ
كانت تستدعي مبالغ طائلة وبشكل غير قانوني في أغلب الأحيان للعب دور اللوبي في ساحة
العمل الإيرانية.[57] شركات النفط الأمريكية المتعددة سجلّت مجتمعةً 40 بالمائة من المبيعات الاستهلاكية
الكبيرة في إيران كثاني أكبر مصدّر نفطي
في العالم، مستفيدة من إيران بشكل مطّرد، وكذلك من أسعار النفط المرتفعة. وأخيراً
فان هناك العديد من البنوك الأمريكية كانت
استلمت وساعدت على استثمار مبالغ ضخمة من الأموال الإيرانية من الحكومة الإيرانية
نفسها ومن الودائع والاعتمادات المرسلة
إلى الخارج من قبل الشاه وحاشيته وغيرهم من الأثرياء الإيرانيين، وكذلك مؤسسة بهلوي
التي كانت تمثل جبهة خيرية، متقدمةً
العديد من الاستثمارات الإنتفاعية الخاصة. البنوك الأمريكية هي الأخرى قدمت قروضاً
وبفوائد عالية للبنوك الإيرانية، وامتلكت
أسهماً في ميدان العمل في البلاد. تأسيساً على ذلك، وعلى فوائد العمل الغربية الأخرى وكذلك الرغبة الانكلو ـ أمريكية
لتوظيف إيران ستراتيجياً في منطقة الخليج
ضد روسيا وضد أي إزعاج محتمل لحركات راديكالية حدودية في الأقطار الإسلامية، لم يعد
عجيباً بأن نرى ممثلي الولايات
المتحدة في إيران يتوافدون وبشكل كاسح وبرغبة الشاه المقررّة سلفاً. هؤلاء لا علاقة
لهم مع المعارضة لا من قريب ولا من
بعيد، أي أن المعارضة بدأت تنشأ بوجودهم ودعمهم للشاه ودعمه لهم وأنها، أي
المعارضة، بدأت بتجمعات صغيرة وغير مهمة
من الماركسيين والمتشددين الدينيين في بداية الأمر. على الرغم من الهاجس الذي فرضته
الولايات المتحدة بزعامة كارتر على
إيران الشاه بخصوص انتهاكات حقوق الإنسان، فان الحكومة الأمريكية ورجالا لأعمال
الأمريكان الرئيسيين كانوا غير راغبين
في إحداث تحول جذري في التوجّه الإيراني بقصد عدم تحجيم أي شيء من شأنه أن يقدم
فائدة أو نفعاً للولايات المتحدة، أو حتى
بناء اقتصاد مستقل تكتفي به إيران ذاتياً. رجالا لأعمال الأمريكان والحكومة
الأمريكية كانوا يفضلّون أن يبقى الشاه دون أي
قاعدة جماهيرية حقيقية ربما سيقلل تأثير الهيمنة الأمريكية والسياسية والاقتصادية
على مقدرات إيران، وقد تغيّر رأي الإيرانيين
تجاه الحكومة الأمريكية خصوصاً والسياسة الأجنبية على وجه العموم. الإصلاحات
الوحيدة التي كان يفضلها الأمريكان أو
يرغبون في تحقيقها هي تلك التي لا تمسّ مصلحة أمريكا وربما تدفع إيران لتغيير
سياستها النفطية الإستراتيجية الثابتة تجاه
الولايات المتحدة وكذلك عدم تغيير سياستها الاقتصادية. نضيف كلمة موجزة عن التحوّلات السياسية الرئيسية منذ سنة 1963 والتي استمرت حتى عام
1977 ولم يطرأ عليها أي تغير
مهم أو جديرة بالذكر. فمن بداية الخمسينات أو أوائل الستينات: كما هو حزب المليون
لإقبال الذي لم يُعترف به بسبب الإخفاق
التام في أوائل الستينات، فان حزباً جديداً سُمّي إيران نوين (إيران الجديدة) تم
إنشاؤه بدعم من الشاه.اشتهرت بعض قياداته
بارتباطها بالماسونية التي يتهمها الإيرانيون بالارتباط مع بريطانيا. رئيس الوزراء
الأول في هذا الحزب، حسن علي منصور،
مثله مثل أميني وعلَم من عوائل إقطاعية ثرية قديمة. حكم منصور من آذار 1964 إلى
يناير 1965 فقط، عندما أُطلق عليه
الرصاص من قبل أحد الإرهابيين الدينيين. كانت هناك محاولة مشابهة استهدفت حياة
الشاه عام 1965. قائد آخر في هذا الحزب، وهو أمير عباس هويدا، تم تعيينه كرئيس وزراء عام 1965
محتلاً هذا المركز لمدة قياسية وفوق
العادة، إذ بلغت 5/12 عام، وذلك بسبب الحاجة إلى رجل قوي قادر على حل الأزمات
المالية والسياسية في تلك الفترة. فكان
النجاح الملحوظ الذي حققته الحكومة في سياستها الاقتصادية والاجتماعية، وكانت قدرة
هويدا جليّة في تنفيذ رغبات الشاه دون
أن يظهر نفسه كعامل تهديد لسلطته. في آذار 1975 أعلن الشاه بأن الأحزاب الشرعية سوف
تظهر في حزب رستاخيز الجديد
المسمّى (resurgence) أي (الانبعاث)(أو الولادة الجديدة) ويتزعمه هويدا نفسه. مواصفات عضوية الانتساب إلى الحزب شملت أغلب رجال الحكومة ومنتسبي الجامعات وآخرين
(في نفس الوقت، كانت
الطبعة الأولى لـ بيوغرافيا الشاه، وتسمى بالانكليزية (رسالة إلى بلدي)، قد سُحبتمن
الدائرة الخاصة ،وجاءت طبعة جديدة حُذفت
منها فقرة تقول (أنّ الأقطار الشيوعية والفاشية فقط هي التي استخدمت أو طبقت نظام
الحزب الواحد).سُمح لحزب راستاخيز أن
يكون ذا جناحين، ولكن كلا منهما كان يرأسه مدعٍ مخلص لخلافة هويدا. وبدلاً من تعبئة
الإيرانيين باتجاه النظام، فإن رستاخيز
هذا أضاف تذمراً جديداً واستياءاً آخر. إنّ التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي حصلت في الستينات والسبعينات، والتي تم
نقدها آنفاً، لم تكنبدون ملامح إيجابية ،فوزير
مبكر للاقتصاد في هذه الفترة وكذلك شخصيات عديدة ومتميزة في دائرة البريد وأقسام
أخرى تمّت معرفتهم أو تعريفهم مع عدد
من مشاريع وإجراءات مفيدة. عدد من الانجازات الصناعية، والبنيوية والتربوية
والاجتماعية جاءت في إطار رخاء أو رفاه
الشعب الإيراني. ورغم النظرة الواطئة للمرأة، كما جاءت موضحة في صحيفة جرنلست أو
ريانان فالاسي، المعروفة، فإن الشاه
كان مقتنعاً بأنّ المصالح الاقتصادية، سوف تساهم في تشكيل الصورة الحديثة لإيران
وتثقيف المرأة وإدخالها إلى ميدان العمل
والبناء. وكما هو شأن العديد من المنظمات كالاتحادات التجارية ومراكز البيع والشراء
التي تواجدت فقط تحت سلطة الحكومة
الرسمية ،ولكنها مع ذلك عملت على كشف بعض مطالب منتسبيها. وهكذا ظهرت المنظمات
النسوية المستقلة واندماجها في
منظمة إيرانية نسوية واحدة تحت وصاية الأميرة أشرف. وبسبب ضغط هذه المنظمة تم التوقيع على قانون حماية الأسرة عام 1967 (أعيدت صياغته
والمصادقة عليه بشكل أقوى عام
1975). طرح هذا القانون عدداً من الإصلاحات المهمة حول الزواج والطلاق ودستور
الأسرة الذي كان حتى تلك الفترة مرتكزاً
بقوة على الشريعة الإسلامية والقرآن. من أجل جعل هذا التشريع الجديد ذا وجه إسلامي
طُبع بشيء من المسحة الشيعية (وبعض
السنية) فيما حُشرت فيه بعض الرؤى الخاصة، كأن تكون عقود الزواج ـ كما قال أحد
بنودها ـ أن الزوج لا يستطيع الزواج من
زوجة ثانية بدون موافقة الزوجة الأولى. رؤى إصلاحية من هذا القبيل تمّ حشرها إذن،
في عقود زواج المسلمين. فوفق الدستور
الجديد لم يعد الرجل قادراً من جانب واحد على تطليق زوجته، وإنما صارت كل حالات
الطلاق تُرسل إلى المحكمة، وان حق
الطلاق للزوج والزوجة أصبح واحداً. أما رعاية الأطفال، والتي هي في القانون
الإسلامي متعينّة في الزوج بعد سنّ محددة ربما
تختلف حوله مدارس الشريعة، فقد خُولّت في التشريع الجديد لمذاق الحاكم وخصوصيات
القضية وحسب رأي المحكمة. لا يستطيع أي رجل أن يتخذ زوجة إضافية أو زوجات إلا بإذن الزوجة للنظام، ومنسجمين
مع الأسلوب الغربي وقيمه المنبوذة
في الوسط الديني التقليدي.[58] مثل هذه الاستعراضات وكما جاء استعراض تتويج الشاه
الخاص بالاحتفال الضخم عام 1971
في الذكرى الأسطورية على مرور 2500 عام على الإمبراطورية الفارسية (التي لا وجود
لها بين 640 و 1501 قبل الميلاد)
أظهرت التناقض الحاد بين الثروة غير المحدودة للشاه والتي يستطيع نثرها حول حاشيته،
وبين الفاقة والفقر التي يعاني منها
شعبه ورعيته.لقد كان صعباً للغاية تصديق الشاه في إنجاز أي إنجاز ما دام يمكنه فعل
الكثير بملياراته النفطية (والمقدّرة بـ 20
بليون سنوياً بعد ارتفاع أسعار النفط ولكن بدون جدوى)، اذْ كان هناك شيء من حرية
الكلام أو النشر أو المعارضة إلا إنها
انتهت فعلاً وتمّ قمعها بلا رحمة، لاسيما بعد بروز تشكيلات حرب العصابات في
الستينات والسبعينات. إن تصفية حزب توده
بعد عامي 1953 ـ 1954، وكذلك الجبهة الوطنية بعد عام 1963، وبعدها نفي واعتقال
(الإمام) الخميني وشخصيات معارضة
أخرى، كلها ساعدت على تغيير وجه المعارضة. وفعلاً وأكثر من أي وقت مضى لقد تركزت
المعارضة في الخارج بين عشرات
الألوف من الطلبة الإيرانيين الذين يدرسون في الغرب والذين ينتمي بعضهم إلى جماعات
يسارية مختلفة، بينما ظهر عدد ملحوظ
منهم محاولاً الجمع بين اليسارية في العالم الثالث وقراءتهم الخاصة للإسلام. إنّ
انتشار أحاديث وأقوال آية اللّه الخميني عبر
الكاسيتات والكراريس في منفاه في العراق شجّع المعارضة الدينية على الاتجاه إلى
داخل إيران وخارجها. وتضرب بعض الشخصيات العسكرية والخبراء الأمريكان. هذه الجماعات اقتربت من تشكيل
تحالف مبدأي انضمّ إليه تشكيلان
مهمان اثنان أو فئتان مهمتان هما: فدائيان خلق الماركسية، ومجاهدين خلق اليسارية
الإسلامية، وكلاهما أصبحا في نهاية عام
الثورة 1987 ـ 1979 أكبر تشكيلين ثوريين منفتحين. النشاطات المسلّحة ساهمت بعض الشيء في زيادة القمع السياسي، والإعتقالات والتعذيب
والإعدامات وذلك في أواخر الستينات
فصاعداً. العديد من أولئك الذين تمّ إعدامهم كانوا مرتبطين بذينك التشكيلين. من ناحية أخرى، اقتُرح العديد من المعارضين ،أنه ما زال بالإمكان العمل ضد النظام
رغم جهازه القمعي المرعب.[59] في نفس
الوقت راحت المعارضة الدينية ومعارضة البازار تفصح عن نفسها في معارضتها للنظام
بشكل غير مباشر في الخطب
والاجتماعات والمناسبات العامة. تمّ إلحاق الضرر بالبازار اقتصادياً من قبل النظام،
وذلك بتفضيل المشاريع الكبيرة والحديثة
للأجانب على غيرها وعلى حساب مشاريع البازار الذي تحمّل وطأة الهجمات الثقيلة على
المنتفعين، كما ان الاستقلال
الاقتصادي للعلماء باعتمادهم على البازار وتأثير الطرفين السياسي على بعضهما البعض
وكذلك هجمات الحكومة على كليهما،
كل ذلك ساعدهما على إيجاد تحالف معارض قوي ضد النظام. إبان عام 1977، كان التراجع الاقتصادي، والتضخم وزحام المدن وسياسات الحكومة التي
أضرّت بطبقات البازار وتفاوت
الدخل الصارخ واستهلاك على النمط الغربي الجليّ من قبل النخبة، وافتقاد الحرية
السياسية، أو المشاركة في السلطة، كلها كانت
محسوسة ومعروفة وقد خيّبت تكهنات وآمال المسؤولين العديدة الزاعمة، بأن إنفجار
(الحضارة العظيمة) كانت قاب قوسين أو
أدنى. القمع الشديد للمعارضين العلمانيين سواء كانوا من الجبهة الوطنية أو تودة ترك
المجال للمعارضة الدينية كي كانت تُفهم
على أنها إشارة للطغيان المعاصر، ولم يعُد بالإمكان إسكاتها بعدئذ.[60] إضافة إلى
ذلك ان ألفة نظام الشاه مع الثقافة الغربية
والبضائع والرذائل كله سبّب ردود فعل تقليدية حتى بين العديد من المتغرّبين
السابقين، وغالباً ما ارتدتْ ردود الفعل هذه رداءً
إسلامياً. الاتجاهات الفكرية والأدبية إلى عام 1960
تشكّل ظاهرة (الثقافتين) في إيران سمة واضحة لفترة بهلوي، وهما ثقافة النخبة وثقافة
الجماهير ،وهذا ما يمكن ملاحظته في
أوساط بدائية وعلى أصعدة عديدة: في اللباس والبيوت مثلاً وأسلوب التأثيث ووسائل
النقل وحضور المساجد، كما إنها تظهر في
الأشكال الأدبية في «ثقافة الجمهور» والتي كادت تنتهي في القرن التاسع عشر وما قبله
بين هذه الطبقات.مثل هذه الثقافة
الجماهيرية تشتمل على الحكايات الشعبية الواسعة الانتشار والتي هي الآن الأكثر
أهمية بالنسبة للطبقات الفقيرة في المجتمع
وخاصة في الريف الإيراني. ولكي نفهم التحولات السريعة في الثقافة الإيرانية بعد عام 1961 ،علينا أن نتذكر
تيار المؤيّد للاستبداد الغربي والمرتبط بقوة مع
الغرب وخاصة الولايات المتحدة. كما يجب أن نستحضر الهجرات السنوية غير العادية إلى
المدينة، وكذلك الدخل المتزايد،
التفاوت الطبقي، المشاكل الاجتماعية والاقتصادية وأخيراً عودة الوعي التي تدفع
الناس إلى الرجوع إلى مرافئهم التقليدية
المألوفة في ربط التغريب بالمعاناة والدكتاتورية. بالنسبة لجمهور الناس، إن الأشكال
الثقافية التقليدية والدينية كانت تُحشد من قِبل
الأفلام الغربية والتلفزيون، وليس من قِبل صادق هدايت، لقد كان شريعتي أكثر تأثيراً
من كل الشعراء والأدباء بمحاولاته
الشجاعة الجريئة لاستخدام اللغة البسيطة للهيمنة على عقول الجماهير واستنهاض عصبهم
النابض. فيما كان الاعتماد على
الغرب يقترن بالثقافة الغربية، والثقافة الغربية بالتفسخ الأخلاقي، كان من الطبيعي
البحث عن خلاص لإيران ليس في التغريب
الذي أقحمه نظام الشاه في المجتمع، وإنما بالعودة إلى الإسلام المثالي الوطني. الفكر الشيعي المعاصر
الأيديولوجيون المسلمون يقرنون الإسلام دائماً بمسلسل نضالي ضد الاستعمار وهيمنة
القوى العظمى. ولكن الذي لا ينبغي
مسايرته هو الإتجاهات العلمانية المتباينة التي استمر ظهورها في إيران. التغريب الثقافي المتزايد لعائلة بهلوي، كان محتقراً ومنبوذاً من قِبل الجماهير
الشعبية. علي أحمد في الستينات كان الزعيم
الفكري لجيل جديد من المفكرين الإيرانيين، أما رؤيته في التشيّع فكانت نقدية
وإيجابية في نفس الوقت. الشخص الأهم بين العلماء السياسيين آية اللّه روح اللّه الموسوي الخميني الذي
أصبح رقماً من الدرجة الأولى بعد أحداث 1963
التي وضعته بسببها في السجن ومن بعدها إلى المنفى وخاصة في عام الثورة المحصور بين
1978 ـ 1979. شخصيته
المتماسكة وأفكاره النقدية جعلت المرء يعتقد أو يتصوّر بأن مفكراً أو منظراً ما
يمكن أن يظهر من بين آيات اللّه الكبار، في فترة
ما قبل الستّينات. المعارضة الدينية الذين كانوا يطالبون بإصلاحات دستورية فقط. واحد من بين أكثر آيات اللّه المعروفين الذي لعب أدواراً مختلفة في الثورة
وأيديولوجيتها هو شريعت مداري في قم والذي كان
مؤثراً جداً في مسقط رأسه في محافظة أذربيجان وخراسان، وكذلك آية اللّه طالقاني في
طهران الذي ترك تأثيراً جلياً في مسار
الثورة بأفكاره التحررية والتقدمية. نتيجة لذلك، يمكن تثبيت أو عرض عدد من
الملاحظات العامة:[61] الأولى، إن العرض المذكور للفكر السياسي الإيراني ومنذ نهاية القرن التاسع عشر
والذي يشير إلى الظهور المتكرر لقيم معينة
مشابهة يمكن العثور عليه لدى كلّ من المفكرين الدينيين والعلمانيين. واحد من أهم
هذه المعاني أو القيم هو التصدي للامبريالية
المصحوب بتصميم أكيد على تحرير إيران من هيمنة الغرب الاقتصادية والثقافية. اتخذ
هذا الاتجاه منحىً إصلاحياً مع أفكار
السيد جمال الدين واتخذ شكلاً علمانياً أوضح مع مصدّق وأتباعه الرئيسيين ومن ثم
منحىً دينياً في السنين المتأخرة. الطابع الإسلامي في ردود الفعل المتأخرة وحتى من قبل العديد من القادة التقليديين
يمكن توضيحه باقتران الهيمنة الغربية مع
الاستعمار الثقافي الغربي، وكذلك الحكم البهلوي مع العلمانية.أما الإسلام فقد بدا ،
إلى أولئك الذين رفضوا كلاّ من الليبرالية
والماركسية كقاعدة أيديولوجية طبيعية يمكن أن تكون منطلقاً لمنازلة الغرب
والبهلوية، تماماً كما يُعتقد بالإسلام أو هو هكذا فعلاً
بالنسبة للجماهير الإيرانية. وكما هو الحال مع الفهم العصري والسياسي للدين في مكان
آخر. كان هذا التوظيف للإسلام يحتوي
على قراءة جديدة للنصوص القديمة والممارسات الجديدة. القراءات التي تمتّ مهاجمتها
أحياناً من قبل التقليديين والمتطرفين،
احتوت أيضاً تحدّيات لا حدّ لها للغرب كشرّ مطلق. ظهرت مشكلة أخرى أكثر جدّية، مفادها أن أغلب المفكرين السياسيين للشيعة المعاصرين
زعموا بأن حلول مشاكل إيران سهلة
للغاية، مالوا إلى الاعتقاد بأن تحرير إيران يأتي من إنهاء السيطرة والتأثير
الأجنبيين وإنشاء مؤسسات سياسية واقتصادية وطنية
متواضعة. هذا الحل سيجد له قاعدة إسلامية متينة، ولكن لم يجر التعاطـي معه كقضية
وموقف. الأساس إن الفكر الإسلامي الجديد أصبح سلاحاً مقتدراً ناجحاً في صناعة الثورة، إلاّ
أنه أقل كفاءةً بكثير في بناء المؤسسات
الحديثة. الكتب المتنوعة والكراسات حول الاقتصاد والسياسة الإسلاميَين المكتوبة
خلال العشرين سنة الماضية، لم تقدر حتى لو
تمّ إتّباعها تفصيلاً، على تقديم الأجوبة الكافية لإقامة نظام دولة يمكن أن يستوعب
المتطلبات المشخصّة للعدالة الاجتماعية، أو
مشاركة الجمهور في الحياة السياسية والاقتصادية وحقوق الأقليّات والمرأة، واقتصاد
محدد المعالم مشخّص الوظيفة وغير ذلك. فقدان السماحة والتسامح عند بعض قادة الأفكار الدينيين والذي هو وان يستمعا لبعضهما
ويتفاعلا مع بعضهما. الثورة
إنّ تنامي الانزعاج وعدم القناعة اللذين تأججا بين معظم فصائل الشعب الإيراني،
وضيقهم بالقمع والاستبداد الذي زادت حدته
في السبعينات بشكل ملحوظ، وأوعد بلامركزية سياسية واقتصادية، وكذلك فشل الإصلاحات،
مضافاً إليها الصعوبات الاقتصادية
التي تفاقمت بين سنتي 1976 و 1977، رغم العائدت النفطية الهائلة، كلها أدّت إلى
انفجار المعارضة التي لاحت أولى دلالاتها
عام 1977. إنّ ظهور المعارضة المكشوفة للشاه، كانت تحدث حالاً في أية قضية، ولكن
شكلها وتوقيتها جاءا هذه المرة نتيجة
لسياسة حقوق الإنسان التي أُعلنت من قبل الرئيس الأمريكي كارتر الذي تولى السلطة في
يناير عام 1977، والذي أشار إلى أن
الأقطار المتهمة بانتهاك حقوق الإنسان الرئيسية ربما تُحرم من المساعدات الأمريكية أو صفقات السلاح.
إنّ تأثير سياسة حقوق الإنسان هذه لم
تكن بسبب أية ضغوط أمريكية مهمة، وإنما إلى اعتقاد كل من الشاه والمعارضة بأن
الولايات المتحدة ظهرت وكأنها تعمل لصالح
حقوق الإنسان. هذا الاعتقاد منح بعض الإيرانيين الشجاعة لنشر رسائل مفتوحة ومذكّرات
جريئة على أمل أن تؤخذ بنظر
الاعتبار أو يجري الاهتمام بها، وأنها بالتأكيد لن تكون سبباً للقمع الوحشي كما
كانت عليه سابقاً ـ حسب ظنهم ـ. يمكن أن تكون هناك أسباب إضافية، نادراً ما تُذكر، في أن الشاه سيتحمّل النقد عام
1977 في وقت لم يكن يسمح به قبل هذه
الفترة. من بين هذه الأسباب أيضاً أنّ الشاه كان يعرف أنه مصاب بالسرطان وإن العرش
يجب أن ينتقل إلى نجله الأصغر
رعاية الملكة فرح، ووفقاً للرؤية التي كان يفكر بها. بعض الوجودات كانت أهميتها أكبر من أرقامها الصغيرة وهذا ما أشارت إليه وبنجاح
محدود قبيل 1978، العصابات أو
الجماعات المسلّحة في إيران التي تمت دراستها مؤخراً من قِبل إبراهاميان[62]
E.Abrahamian، وضمن تصوّره. أن
تكتيكات هذه الجماعة إنما انبثقت بسبب القمع الدموي الذي مارسه النظام تجاه
اضطرابات عام 1963 الأمر الذي جعل العديد
يعتقدون بأن أية أحتجاجات مفتوحة يمكن أن تُقمع بعنف. الجماعة المسلحة الأخرى التي اختُصر اسمها إلى اسم مجاهدين خلق، تأسست هي الأخرى في
نهاية الستينات، ولكن مجموعة
فدائيان كانت ترشحت عن حزب تودة والماركسيين في الجبهة الوطنية، فيما جاءت معظم
عناصر المجاهدين من جناح ديني أي
من تلك الجبهة وتحديداً من حركة الحرية التي كان يقودها منذ سنة 1961 مهدي بازرگان
وآية اللّه محمود طالقاني. ورغم أن عدداً من الأعمال المسلحة كانت خلقت ذعراً وهلعاً وخاصة اغتيالات عدد من
الشخصيات العسكرية والمخابراتية
الإيرانية والأمريكية، فقد كان هناك معارضون إيرانيون مسالمون، يجادلون، انه بأخذ
أجواء القمع، فان هذه الأعمال فقط كانت
تشير إلى عدم شرعية النظام مبشرةً بنهايته أو سقوطه، ويظهر أيضاً أن زيادة
الاعتقالات والتعذيب والقمع ورقابة المطبوعات
في السبعينات قُرنت مع النشاطات المسلّحة، رغم أن القمع كان شديداً قبل هذه الفترة. وكما ذُكر آنفاً، أنّ فصائل من جماعات معارضة مختلفة من أبناء الطبقة الوسطى
المهيمنة والأسبق منهم من بقايا الجبهة الوطنية
وكذلك الطلبة داخل إيران وخارجها، مضافا إليهم العمال والعصابات المسلحة، كلها كانت
لها علاقات وارتباطات مع الأعداد
المتنامية للمعارضين الذين أفصحوا عن آرائهم في إطار إسلامي أو مصطلحات إسلامية،
وكانت تسمى حينها «المعارضة
الدينية». إن المعارضة الدينية هذه يمكن أن تُفهم أفضل في إطار ومصطلحات جماعتيها
الاثنتين الرئيسيتين رغم أنهما تحتضنان
الجماعات المذكورة ،الأولى ترشحت من أولئك المنحدرين من جذور تربية دينية تقليدية
وانتماءات دينية، والثانية من أولئك
المتغربين أو الذين ينتهجون الأساليب التربوية الغربية، أو الذين يجمعون بين
الأفكار الحديثة والتقليدية ولكن تحت العنوان أو
اللافتة الدينية. هجوم الصحيفة على (الإمام) الخميني وحادثة قم يمكن أن ينظر إليها كمفتاح لقضية ـ
يناير 1978، والتي خرج فيها الكثيرون
في حركة احتجاج عارمة بدأت شرارتها من القوى العلمانية مرفقة برسائل ومذكرات
وقراءات شعرية سياسية باتجاه المعارضة
الموجهّة دينياً. من بين أتباع كل من (الإمام) الخميني وشريعتي «اللذين لم تستطع الجماهير التمييز
بين أفكارهما لحد عام 1978 إلاّ نادراً»
كان رجال البازار، ولا نعني بهؤلاء فقط أولئك الذين لديهم محلات في البازار وإنما
أولئك الذين يمارسون أعمالاً تجارية في
الصناعة والتصدير والتجارة ومن التقليديين أكثر منهم من النمط المعاصر. إبان الفترة المحصورة بين 1977 ـ 1978، بدأت شعبية الإمام الخميني تنمو. ففي هذه
الفترة وأكثر من كل فترات حركات
الاحتجاج الثورية السابقة، ظهر تمثيل رجال المدينة الفقراء من الطبقات العمالية
الكادحة. وبسبب أعدادهم الغفيرة ظهروا في
البداية كقوّة أعظم من عمال المصانع، والطبقات الوسطى، رغم أهمية الصنف الأخير. كان رائد أبناء المدن الفقراء هؤلاء هو (الإمام) الخميني وكلماته. وفيما كان الغضب
الثوري، والحماسة ينموان مع نشاط
وفاعلية، كان الإمام الخميني يؤكد على رفض أية مساومة مع الملكية ويضيف: بأنّ
المشاكل لا يمكّن حلّها إلا بالعودة إلى التعاليم
الإسلامية، وهذا ما كان يلتقي مع النداء المتصاعد للجماهير المسلمة. العديد من شهود العيان علّقوا على الحماس الغامر والتنظيم والتعاون المتبادل
والانضباط الذي لم يخف الفرح والبهجة لشهور
الثورة الأخيرة، فضلاً عن التوزيع المنظم للوقود والمحروقات أيام الإضرابات
الثورية، حسب، وإنما جعل من المستحيل على
أي أحد أن يفصم العلاقة بين جماعة معارضة وأخرى. المجالس والجمعيات التي كان ينظمها
ويديرها حراس الثورة بشكل تلقائي
أو مباشر، وكذلك أحياء المدينة والمعامل والمؤسسات الأخرى ،استمرت تُدار هكذا منذ
تلك الفترة وحتى بعد فبراير، أي بعد
انتهاء الالتحام الثوري الذي هيأ الانتصار النهائي للثورة. الخاتمة:
هناك خيط رئيسي يجمع بين أبعاد عديدة من تاريخ إيران في القرنين التاسع عشر
والعشرين، وهو العلاقات الإيرانية مع الأقطار
العربية ،كما هي في الواقع ، أو كما كانت أو يُنظر إليها من قِبل الإيرانيين
والغربيين. وكما هو الحال في بداية القرن التاسع
عشر، العديد من الإيرانيين كانوا معنييّن بحضور الخبراء الفرنسيين والبريطانيين
وخاصة في حربين واضحتين ضد (الكفار)
الروس. في هاتين الحربين لم تخسر إيران مقاطعات مهمة مبتدئة بسلسلة من العقود غير
المتكافئة شملت اقتسام مناطق إضافية
مع الغربيين ومحرضة الأجانب ضد كريبوييدوف فحسب، ولكنها أرهقت الحكومة بتحمّل نفقات
مالية جديدة يدفع ثمنها
الإيرانيون عبر الضرائب الباهضة. الاستيراد السهل للمصنوعات الأجنبية، والمدعوم بعقد محدد للتعريفة الگمرگية سبب
شكاوى من قبل الحرفيين والتجار
الإيرانيين وعلى الأقل منذ سنة 1830 فصاعداً. في بحر القرن التاسع عشر نمت العلاقات
التجارية الإيرانية مع الغرب نمت
نمواً واضحاً، كما تبدّلت صادرات إيران من ابتدائيات الصوف والحرير والمنسوجات إلى
محاصيل الخشخاش الجديدة والقطن
والتبغ والفواكه المجففة والجوز وأشياء أخرى والتي تزرع غالباً في أرض مشتراة من
قبل تجار. وكما فُصّل آنفاً، راح العديد من
فقراء المزارعين والحرفيين يعانون من هذه التحوّلات بينما راح بعض التجار الذين
استفادوا يتحاملون على المعاهدة المنحازة
لصالح التجار الغربيين. كانت هذه من بين الأسباب التي أدّت إلى تنامي التذمر
الاقتصادي في القرن التاسع عشر. حكومة القاجار المبتلية بالقوى اللامركزية جغرافياً، يقابلها البدو والعلماء
المستقلين وطبقات البازار أنجزت القليل جداً من
المركزية أو الإصلاح الفوقي وهو الملاحَظ في أقطار البحر الأبيض المتوسط الأخرى
كتركيا ومصر وتونس. وبالإضافة إلى
الصعوبات في إصلاح إيران، كان القاجاريون بحاجة إلى العديد من المصلحين الواعدين.
الأمير عباس ميرزا الذي جدّد الجيش
الأذربيجاني وشجّع على تحديث التربية في آذربيجان في أوائل القرن كان قد توفى قبل
أن يبلغ كامل مرامه. رؤوساء الوزراء
المصلحين المتأخرين، أمير كبير، مشير الدولة، وأمين الدولة كانوا افتقُدوا جميعاً
قبل أن يتمكنوا من تنفيذ برامجهم الإصلاحية.
السبب الرئيسي في ذلك هو عداء لللامركزية والمصالح الواسعة التي ربما تضررت
بالإصلاح المركزي. لم يكن هناك ولا حتى
شاه واحد من شاهات القاجار يمكن اعتباره مصلحاً عنيداً، كما لم يكن فيهم من يمكن
تعريفه كصاحب تأثير حتى في محاولة
تشكيل جيش مركزي قوي. في إيران، كما في العديد من أقطار العالم الثالث، كان المصلحون الرسميون المذكورون
(أي الفوقيون) ملاحَقين بالنقد والتعريض
من قِبل الحكومة، وكان بعضهم قد تسنّم بعض المواقع الرسمية في بعض الأوقات، وان لم
يكن أغلبهم كذلك. بين المجموعة
الأولى الشخص الأكثر معروفية هو ملكم خان، الذي عمل لإعادة تنظيم الحكومة، وإعادة
حكم القانون، وأحياناً الدستورية وكان
أصدر صحيفة ضد الحكومة بعد طرده من وظيفته عام 1889. بين هؤلاء النقّاد غير الحكوميين أو غير الرسميين أو الأكثر شهرة هو جمال الدين
(الأفغاني) رغم أنه أمضى فترة من سنيّ
شبابه في إيران. في الفترة بين 1886 ـ 1891كان للرجل تاثيراً بالغاً في إيقاظ
الإيرانيين وتنبيههم على دور الإعلام وفائدة
استخدامه ،كالكتيباتوالخطب وخاصة منذ إقدام الحكومة على (بيع إيران للأجانب). إنّ تنازلات القاجاريين الكبيرة للغربيين، التي ارتفعت بشكل دراماتيكي بعد عام 1888
استفزّت طبقات البازار والعلماء
والمثقفين ضد الحكومة والأجانب، وتكتلوا في حركة ناجحة ضد الإمتياز البريطاني للتبغ
بين 1890 ـ 1892. إنّ نمو
المعارضة العلمانية الموجّهة دينياً أدّت إلى الثورة الدستورية في إيران بين عامي
1905 ـ 1911والتي أنتجت لها دستوراً على
الطراز الغربي. في هذه الفترة كان العلماء منـزعجين فقط من الاعتداء الغربي المباشر
على الأرض الإسلامية، ولكنهم لم يكونوا
معنيين بشأن الاستيرادات أو الغارات الثقافية الغربية آنذاك، ولم يأخذوا على عاتقهم
التنبيه إلى أهمية ما أحدثته هذه الغارات في
ظل الحكم البهلوي. بين أعوام 1911 و 1960 كان معظم الكتّاب الناقدين علمانيون، وبعد
ذلك جاءت المعارضة الإسلامية
المنتعشة أو العائدة الى الحياة. في السنوات التي سبقت ثورة 1905 ـ 1911 كانت روسيا تُعتبر العظمى باعتبارها المنافس
الأكبر والأهم لروسيا، ويعولون
عليها مساعدة وحماية إيران وثورتها الفتية ضد الاعتداء الروسي. وعندما وقّعت
بريطانيا العظمى وروسيا على حلف 1907
القاضي بتقسيم إيران إلى مناطق نفوذ استشعر الإيرانيون الخيانة بمرارة، واعتقدوا
بأن البريطانيين باعوهم مع ثورتهم.
أصبحت المشاعر ضد البريطانيين بعد هذا الحدث أقوى مما هي ضد الروس الذين لم يكن
يُتوقّع منهم شيئاً فيما كان يُنظر إلى
بريطانيا العظمى الداعم الأقوى لاستقلال إيران وكرامتها. وعندما دعمت بريطانيا
العظمى التحالف الروسي ـ البريطاني الذي
أنهى الثورة الإيرانية عام 1911، فإن هذه المشاعر اشتدت لأنها ستجعل إيران محمية
عملية أو واقعية لكلا الطرفين. والأكثر
من ذلك، أن مشاعر العداء هذه ضد بريطانيا قد استعرت أكثر في قضية النفط حيث لاحظ
الإيرانيون بأن تنازل بريطانيا
واكتشاف النفط عام 1908 قد منحَ الأخيرة حصة الأسد من عائداته رغم تبديد وارداته
التي كان معظمها يذهب إليها. هذه
المشاعر كانت وُضّحت في سجال عام 1932 وتجلت بشكل أوضح في اتفاقيات ما قبل الحرب
التي أبرمت بعد مسألة تأميم
النفط ومجيء فترة مصدّق. وإذا كان البريطانيون قد اعتبُروا يوماً ما من قبل البعض على أنهم أصدقاء نسبياً،
فإنهم قد تحوّلوا لدى كثيرين إلى أعداء بعد
الثورة الدستورية. وهو نفس المصير الذي وقع فيه الأمريكان بعد فترة مصدق ولنفس
الأسباب تقريباً. فقد كان الأمريكان عموماً
معتبرين ومحترمين في بداية القرن العشرين حينما ساهم بعض أفرادهم في الثورة
الدستورية وفي تأسيس المدارس، وكان
مورغان شوستر قد بذل جهوداً استثنائية لبناء اقتصاد إيراني مس يكونوا منبوذين بشكل
واضح، وحالما بدأت الحرب العالمية
الثانية وعندما دُعم الأمريكان من قبل حكومتهم، أصبحوا منهمكين تماماً بالتدريب
العسكري وتخريج الجندرمة، وهنا بدأت
الشكوك. أن التغيّر الحقيقي في المشاعر الوطنية الإيرانية العارمة ضد السياسة الأمريكية،
ظهرت عندما راح الأمريكيون يساهمون في
إذكاء مشاعر الحزن الإيرانية ضد شركة النفط الانگلو ـ إيرانية وراحوا تدريجياً
يغيرّون مواقعهم عندما ذهبوا بعيداً مع الحصار
على النفط الإيراني الموقّع والمفروض من قبل AIOC. المشاعر الساخطة على حكومة
الولايات المتحدة أصبحت أكثر قوة
وعنفاً حينما فُهم بأن الولايات المتحدة كانت ضالعة في انقلاب 1953 ضد مصدّق. إن
دعم الأمريكان لدكتاتورية الشاه وتجلّي
أساليبها العدائية لمدة 25 سنة أضاف المزيد من المشاعر الحانقة ضدهم. ومن هنا، وفي كلتا القضيتين البريطانية والأمريكية، ومع ما بالغ فيه بعض الإيرانيين
في بعض الاتهامات والتشكيكات فإن
التشكيك والعداء لهما جذورهما في الأحداث الحقيقية والمهمة، وخاصة المساهمة في
الانقلابات ضد الحركات الثورية الجماهيرية
ودعم الحكومات المنبوذة غير الشعبية. هذه المشاركة غير الثورية كانت أكثر جرحاً
للإيرانيين لاسيما إنها صدرت من قوة
عظمى كانت تعتبر ودّية للغاية، أو على الأقل مناهضة للشرور ـ كما تزعم ـ ولذلك فان
أزمة الثقة بأي ممثّل لأيّ من أمريكا
وبريطانيا أو من ينوب عنهما قد زادت بشكل واضح. (أي غريب يحمل ميزات الشخصية
الإيرانية ويُنظر إليه بشك وارتياب،
تجد له قصة وحكاية تروي السبب في التاريخ الإيراني). ينظر الإيرانيون إلى القوى الأجنبية والتي خصّت بشكل رئيس مؤخراً الأمريكان، على
أنهم يستخدمونهم لأهدافهم الخاصة:
وخاصة دور إيران الاستراتيجي وأمل الحصول على أرباح الآخرين بل ابتزازهم لاسيما
الروس. وهكذا قضية النفط في القرن
العشرين، وكذلك استخدامهم كشرطي للمنطقة ضد الزحف الشيوعي السوفيتي. الحكومات الأجنبية شجعت أيضاً الاستيراد والتصدير وبناء الصناعات وكذلك توديع
واستثمار الأموال من قبل مواطنيهم أو
حكوماتهم في إيران. كما أنّ مبيعات السلاح الأمريكية الضخمة والمعدات الزراعية،
والتكنولوجيا المتطورة والسلع الاستهلاكية
كلها كانت تستغفل الاقتصاد الإيراني وتُربك ميزانيته وتساهم في إيجاد مبررات
الثورة. يُضاف إلى ذلك كان استغلال الأخطاء وإلحاق الهزائم النفسية بالإيرانيين من بين
السبل والسياسات المستخدمة لقمع تلك الثورة.
وهنا يمكن للمرء أن يفهم هاجس الإيرانيين غير المحدود لتصوير انعتاقهم من السيطرة
الأجنبية والتحكّم الأجنبي وتطلّعهم لبناء
اقتصاد حر ومجتمع حر وثقافة مستقلة حرّة ناشئة من الداخل، بدلاً من الاعتماد على
القوى الأجنبية والغربية تحديداً.