مركز الصدرين للدراسات السياسية || الكتب السياسية

ست نظريات حول انتصار الثورة الإسلامية

الثورة الإسلامية الإيرانية في منظور مقارن
بقلم سعيد أمير أرجُمند[63]



مقدمة إن الهدف من هذه الدراسة هو تجلية أهمية العامل النظري للثورة الإسلامية في إيران عبر التركيز على الديناميكية السياسية للتحوّل الراديكالي في هيمنة البناء الاجتماعي الإيراني والديناميكية الأخلاقية للعقل التوحيدي والتكاملي الذي يرافقها.
فالديناميكية السياسية للثورة توضح مبدأياً انقلاب البناء السلطوي بينما تتضمن الديناميكية الأخلاقية غائيتها وهدفها... أي اتجاهها ونتائجها. ومن تحليل القوى المحركة لأخلاقية الثورة وهدفيتها تحتل الأيديولوجية الثورية المرتبة الأولى أو هكذا تزعم.
يمكن تعريف الثورة بأنها انقلاب على النظام السياسي واستبداله بآخر جديد.
تحدث الثورات المعاصرة في الأنظمة السياسية المهيمنة عليها عادة من قبل الدولة. إنني سوف استخدم مصطلح (البناء الاجتماعي للهيمنة) للإشارة إلى الجهاز المسيطر على السلطة، ويتضمن الدولة التي تحتل منصب الحاكمية العليا في أوقات حصول الثورات المعاصرة، ولكنها تشتمل أيضاً على مؤسسات أخرى ووجودات متعاونة تمتلك مقداراً من السلطة المستقلة في الفضاءات الدينية والقضائية والاقتصادية. الأكثر أهمية في كل هذه المؤسسات والوجودات عادة هو الوجود الديني أو الكهنوتي كالكنيسة ومماثلاتها.
الثورات المعاصرة لا تقع بالتأكيد في المجتمعات الراكدة، وإنما في تلك التي تجتاز تحوّلاً اجتماعياً معتبراً. وينطوي التحول الاجتماعي بالطبع على فوضى اجتماعية، واضطراب معياري. التجمعات الفوضوية والأفراد الفوضويون بحاجة إلى أن يُعاد توحيدهم في اتحاد أو رابطة أو هيئة اجتماعية، وقد يستدعي الأمر الانضمام إلى تجمّع أو تنظيم سياسي.الحركات التوحيدية السياسية والإجتماعية التي تنفرز لاحتواء هذه المطالب غالباً ما تكون لها مساهمات رئيسية أو تكون عاملاً رئيسياً في وقوع الثورات.
إنّ انقلاب البناء الاجتماعي للقوى المهيمنة يحصل عادة بسبب منظومتين من العوامل: الضعف الداخلي للبناء والاختراقات من قبل الخصوم، وكذلك العمل المنظم والمخطط للجماعات الاجتماعية المعارضة والأفراد المعارضين. مثل هذه الجماعات والأفراد يمكن أن تكون لها دوافع سياسية لمعارضة نظام الحكم، وغالباً ما تبرز في سياق النضال الذي فجرّت أسبابه مركزية السلطة الحاكمة وشمولية نظامها. كما يمكن أن يكون لهؤلاء دوافع أخلاقية كالمصلحة الطبقية مثلاً. ان درجة التماسك أو الانفراد داخل أي تشكيل اجتماعي يعتبر علامة أولية مقررة لقدرته أو عدمها على العمل الجماعي التضامني، وإن إمكانية نجاح الفعل الثوري يعتمد عادةً على استعداد الجماعات المختلفة المعارضة داخل هذه التشكيلات الاجتماعية على التحالف والتآزر. جميع العوامل المذكورة آنفاً تعرض نقاطاً مهمة أو مراجع للمقارنة تعني بالأسباب والظروف التي سبقت أو أحاطت بالثورة الإسلامية في إيران.
إن الثورات لا ينبغي أن تقارن في سياقات أسبابها والظروف التي ولدت فيها، وإنما بنتائجها وآثارها.تلك الحركات الاجتماعية التوحيدية التي تؤسس بنجاح لإيجاد أو خلق الظروف الخاصة للبديل الاجتماعي وإثارة الفوضى القيمية التي تساهم في بناء الحركات الثورية، إنما تفعل ذلك باستخدام الأيديولوجية كأداة مهمة من أدوات الثورة. فالأيديولوجيات التي تؤسس للمفاهيم النضالية الثورية وتضعها في دائرة الفعل الحركي أو تتأطر بإطارها تتمكن من تجسير الفجوة الحاصلة بين أسباب ونتائج الثورات. نعم إنها لا تستطيع أن تقرّر أو تحسم سقوط هيمنة البناء الاجتماعي بدرجة جديرة بالذكر. ولكن، ومن ناحية أخرى، إنّ الأفكار القيمية التي تبني مؤسستها المعيارية، والتي غالباً ما تُعرف أو تتشكل مسبقاً أثناء المسار الثوري، هي التي تؤطّر المنظومة السياسية أو ترسم الإطار السياسي الذي تفرزه الثورة بدرجة من الدرجات.
إنّ تحليل مقارن لهدفية الثورة الإسلامية يستدعي في هذه الحالة تحليلاً منظومياً جدياً لأيديولوجيات الثورة ذاتها. فالأسطورة السياسية المعاصرة للثورات والأيديولوجيات المتنوّعة التي طُعّمت لها في القرنين الماضيين شكلّت عاملاً سببياً لاستنهاض المعارضة الثورية ووضعها في حاله اصطفاف وتخندق، ولكن إيقاف التحليل عند هذا الحد سيكون خطأ كبيراً أو جديّاً.
فالأيديولوجيات تمتلك مغزىً نظرياً أولياً في كون أفكارها القيمية الدستورية هي التي تقرّر غائيات الثورات الأصيلة[64].
كما إن طبيعة القناعة النموذجية للأفكار القيمية القادرة على التمييز بين الأيديولوجيات الثورية المختلفة ساعة وقوعها هي التي تحدد النقاط المركزية لمرجعيتها السياسية ومقارنة ذلك مع هدفية الثورة الإسلامية. هذه المقارنة هي التي تمكننا من إدراك المغزى الواضح للثورة الإسلامية في تاريخ العالم المعاصر.
1 ـ أسباب و أجواء الثورة الإسلامية أ ـ سقوط الملكية: إنّ تأكيد الدراسات الحديثة على دور الدولة وقدرتها القمعية وإمكاناتها الهائلة في تحسس أو قياس الأزمات الجدّية كشفت عن حقيقة مهمة مفادها أن الثورات غالباً ما تكون مدينة في نجاحاتها إلى النخرة والشلل الداخليين للدولة أكثر من مديونيتها لقوة الجماعات الثورية المنفّذة لها[65]، إنه ما زال موضع جدل وسجال في كون العامل الحاسم لتأجيج الثورة هو هشاشة وانهيار المنظومة السياسية القائمة.[66]
أن مركزية الدول الملكية يقلّل من الحالة التعددية في المجتمع ويزيد من هشاشتها السياسية ،ويبدو من الأنظمة السياسية القائمة في العالم المعاصر، أنّ أنظمة الحكم الملكية، على وجه التحديد، أكثر هشاشة وعرضة للثورة، لأن التذمر الجماهيري يركّز على شخص مفرد واحد. دي توكيفيل De Tocqueville الذي اعتبر إنّ الكراهية المختزنة ضد النظام القديم والتي اكتسحت كافة العواطف الساخطة الأخرى أثناء الثورة الفرنسية، كشف كيف أنّ تلك الكراهية أصبحت مركّزة بشكل قاتل ضد شخص واحد ،هو الملك: «إذ ترى فيه أنه العدو الأول، وهذا هو الاتفاق العاطفي الذي كان ينمو»[67]. نفس الشيء يمكن أن يُقال حول الشاه الذي كان إخراجه هو المطلب الجماهيري الوحيد الذي اجتمعت عليه جميع الفصائل الغاضبة اليائسة في المجتمع الإيراني. وأكثر من ذلك أنّ نفس مواصفات المنظومة الملكية في إيران تساهم كثيراً في توضيح نهضة (الإمام) الخميني الملتهبة ضد هذه الملكية وضد التصوّر الشاهنشاهي للحكم.
إنّ نمط النظام السياسي الذي يمكن أن نسميه (الكنيسة الجديدة) يوصف هو الآخر بهشاشته، على النقيض من النمط النموذجي للدولة المطلقة الذي يُفترض أن يكون فيه
الملك أول خادم فيها ،فإنّ الحكومة تصبح فردية تماماً في الدول الكنسية. السلطة التنفيذية الرئيسية تُشجع الانقسامات داخل العسكر والنخب السياسية من أجل أن تحكم. مثل هذه الدول الكنسية تكون عادة عرضة للسقوط ورياح الثورة، حالما يضعف الحاكم أو يتهاوى.[68]
الثورة المكسيكية التي تفجرت بموت پرنريو دياز عام 1911، ومثلها الثورة الكوبية والثورة النيكاراغوية يمكن أن تُقرأ في إطار هذا الافتراض. في النظام الإيراني، جمع الشاه بين ضعف النظام الكنسي الجديد ومساوئ الملكية ،[69] وكان يعاني معاناة مرة ناشئة من ميكانيكية تركيبة سلطة الدولة الملتفّة حول شخصه فقط.
لم يكن هناك أدنى شك بأن سقوط الرجل سبق سقوط جهازه الحاكم، وكان هذا السقوط واضحاً في تأرجح الشاه الواضح وفقدانه القدرة على اتخاذ القرار. مثال ذلك انه لم يستطع استخدام عقله لتعيين رئيس وزراء للمعارضة الليبرالية الوطنية حتى بعد فوات الأوان، وكذلك في ربطه غير المتوازن بين سياسة الترغيب والترهيب (أو الهدايا والتهديدات) فضلاً عن استخدام بالغ السوء لقوة الردع.[70]
ضمن الصفة الكنسية الجديدة لدولته المتهاوية، كان للشاه جيشاً منظماً ومجهزاً تجهيزاً جيداً، وهكذا قوى الشرطة والدرك. انه رفض ببساطة استخدام هذه القوى بالكفاءة اللازمة لقمع الحركة الثورية، مدّعياً انه سيستخدم الجيش، إذ أعلن قانون الطوارئ في بعض المدن في أواخر صيف 1978، وقام بتشكيل حكومة عسكرية في نوفمبر. ولكن، وبعد مذبحة الجمعة السوداء في 8سبتمبر 1978 حاول الشاه إخفاء الجيش وذلك بسبب انفجار الغضب الشعبي ضد جنرالاته. وقد انعكس ذلك في كوارث وفجائع أدّت إلى مقتل حوالي 250 شخصاً في مذبحة 8 سبتمبر، تبعتها مذبحة أخرى لـ750 آخرين في طهران في الأشهر الخمسة التالية وبعدها ثلاثة أضعاف هذا الرقم تقريباً في عموم إيران. في 21ديسمبر عام 1978 ،رئيس الوزراء الجنرال أزهري، وبعد جلطة قلبية بسيطة داهمته في فراشه، اشتكى لدى السفير الأمريكي تدمير دور الجيش أو تشويه تركيبته التي عزاها إلى أوامر الشاه في حظره إطلاق النار إلاّ في الهواء، فضلاً عن إهانته أو تحجيم دوره. ومما قاله للسفير: «عليك أن تعلم ذلك، وأن تنقله إلى حكومتك. إنّ هذا البلد يتفتّت لأن الملك لم يعد قادراً على استخدام عقله»[71].
على عكس قوات القيصر عام 1917، بقي جيش الشاه معافىً ومخلصاً إلى يوم رحيله في 16 يناير 1979. كراريس ومنشورات (الإمام) الخميني وُزّعت بين الجنود، وكانت هنا كأمثلة حيّة على التآخي والالتحام مع المتظاهرين وفرار واضح من الخدمة العسكرية. 12 ضابط قتلوا على أيدي ثلاث جنود ثوار من الحرس الإمبراطوري.
حادثة تمرّد وقعت في تبريز في شهر ديسمبر، كما كانت هناك حوادث صغيرة أخرى مشابهة، فضلاً عن استياء متواصل عمال فنيين العسكريين للقوة الجوية عُرف بـ «هومافاران Homafar an. ومع ذلك، إن ضغط المواجهة مع الناس لم يؤثر جدّياً على معنويات وانضباط القوات المسلحة. فقط بعد رحيل الشاه، بدأت علامات التفسّخ والانهيار تظهر على الجيش أي تحت الضغط السياسي المتواصل.
إنني لا أرغب في التأكيد على إن استخدام الجيش لقمع الجماهير كان يمكن أن يحول دون وقوع الثورة.نحن لا نستطيع الجزم على الإطلاق بمعرفة ماذا كان يمكن أن يحصل لو كان الشاه قد أمر قواته المسلحة لأن تكون قمعية بشكلٍ متوحش في أكتوبر ونوفمبر عام 1978 عندما لم تكن قد تأثرت بعد بالغليان الثوري. كما إن مسألة أن يكون الجيش ينهار أو لا ينهار أو يتفكك أو لا، تبقى حقيقتها تقول انه لم ينهار حتى 16 يناير 1979، وان المعارضة قد عرفت ذلك.[72]
كان لضباط الجيش إحساس قوي بالانتماء الوظيفي الرسمي ولكن بدون أي شعور بالارتباط بأية تشكيلة اجتماعية أخرى ذات مصالح منظمة خاصة. أكثر من ذلك لقد اختار الشاه كبار جنرالاته بعناية ودقة ليتأكد أنهم لا يستطيعون الطيران خارج سربه أو العمل ضده بأي شكل من الأشكال، وانه نجح في ذلك فعلاً. كان يمكن للجنرالات أن يحفروا تحته ولكنّه لم يدَعهم. أنهم لم يستطيعوا العمل ضده، ولكن أياً منهم لم يستطع العمل لنفسه أو لجماعة معينة أخرى نعم، في حالات اليأس الأخيرة، حاول بعضهم التنسيق مع المعارضة الرسمية أو المحلية.
أكّد تيلي Tilly وكان مصيباً، على أهمية التحالفات التي تربط رجال الثورة مع الجيش[73]. ورغم أن مصطلح (تحالف) بدا قوياً جداً، فإنّ الاتفاقية التي عُقدت أو تم تنفيذها بين بازرگان وبهشتي بتوسط السفير الأمريكي مع عدد من الجنرالات كانت ذات أهمية حاسمة في إحداث شرخ كبير في الجيش ومن ثم تحييده في فبراير 1979.[74]
النتائج التي يمكن استخلاصها من قضية إيران هي كون الأزمات المالية أو ذات العلاقة بخزانة الملك ،وما تؤدي إليه من القدرات المنتزعة من ضرائب الدولة الثقيلة، ليست كلها ضرورية لانبثاق الثورة. من الممكن أن تكون هيمنة البناء الاجتماعي عرضة للسقوط بدون إشراك العامل الزراعي، كما أنّ حرباً خاسرة للجيش ليست بالضرورة عاملاً رئيسياً لتشكيل أجواء مناسبة للثورة. إنني سوف أبيّن كيف أن النظام السياسي يمكن أن يسقط بدون أيّ من هذه الشروط.
لحد الآن، نلاحظ بشكل مجرد بأن الثورة الكوبية كانت مثالاً لثورةٍ سياسية بدون ثورة زراعية وبدون هزيمة عسكرية في حرب. سكوكبول التي تقوم نظريتها على تأكيد دور هذه الشروط المزعومة تقفر بتعسف واختزال على الثورة الكوبية وتناقشها بنصف هامش. إضافة إلى ذلك، إنها لم تتصد لمناقشة النتائج النظرية في غياب هذه العوامل في مقالتها اللاحقة حول الثورة الإيرانية.
النظرية لعام 1979[75] إحدى التعميمات تمّ استخلاصها من قبل الثورة في إيران.[76] فلقد حوصر الشاه جدّياً بسبب ارتباطاته الوثيقة والمذّلة مع الولايات المتحدة، وبسبب الحضور الأمريكي العسكري والاقتصادي ،وكذلك بسبب غزو طاقات العمل الأوربية الكبيرة لإيران والتي كانت محفزاً رئيسياً للتعبئة الجماهيرية المضادّة. إن دافع التحريض ضد الأجنبي في تحديه لشرعية سيادة البناء الاجتماعي تجد مقاربات لها في الثورات الانگليزية والفرنسية والروسية والصينية والكوبية وحتى في فاشية أوربا الشرقية.
ب ـ الدولة، الكهنوت، المجتمع المدني في إيران الشيعية: إنّ من الخطأ أن نساوي بين البناء الاجتماعي للهيمنة والدولة فقط. فبالنسبة إلى ماكس ويبر إن عنصري البناء الرئيسيين هما الدولة والكنيسة، وقد عرّف مؤسستي السلطة الشرعية هاتين بشكل متشابه وكان حذراً جداً في تحليل العلاقة بين الكنيسة والمجتمع المدني إذا كان هذا التحليل مناسباً.[77] ان هذه النقطة ذات مغزى كبير المبكرة.[78]
أما في تاريخ إيران، فقد جاء التسابق المتشابه بين الدولة والكهنوت متأخراً كثيراً عما هو عليه في أوربا.اذ أُعلن التشيع ديناً رسمياً لإيران في عام 1501، إلاّ أنّ الكهنوت بقي متباين الخواص والعناصر ومُعيناً للدولة لفترة طويلة ومعززاً لقوتها واستقلالها الذاتي لحد نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر. أن بتر قوة الكهنوت أو تقليصه، وتقليص استحقاقات العديد من امتيازاته ووظائفه من قبل الدولة لم يحدث إلاّ في نهاية القرن العشرين. السلطات الدينية الشيعية كانت وبقيت مستقلة منهجياً ومؤسساتياً عن الدولة، ومع ذلك، فإنها احتفظت بسلطتها الدينية المستقلة ذاتياً، كما احتفظت بسيطرتها على المصادر الداعمة لاستقلاليتها في جهاز الدولة البيراقراطي.[79]
الثورات الغربية تمّ توجيهها ضد الدولة والكنيسة معاً. فقد تمّ اصطياد الكنيسة في انكلترا، وتقليمها أظفارها أو محصارتها في فرنسا، وتهديمها من قبل بيتر العظيم في روسيا، وفي كلّ هذه الأمثلة كانت الكنيسة جزءاً متممّاً للحكم الكهنوتي. أما في الثورة الإسلامية في إيران ،فقد وقف الكهنوت الشيعي المطوّق تماماً ضد الدولة. (كان هذا بسبب حماقة الشاه في عدم تفتيته لهذا الكهنوت في الوقت المناسب. يوجد الآن دليل بأن عدداً من آيات اللّه‏ الكبار كانوا على استعداد للتنسيق أو التفاهم مع الشاه في صيف1978، وان التمزق أو الانقسام كانفي الحقيقة قد وقع بعد الثورة).
لأسباب تحليلية أيضاً، من المهم أن نتصور أو نتذوق البناء الاجتماعي للهيمنة في مصطلحات أكثر شمولية، فالمواقف الثورية تحدُث بسبب تفسّخ السلطة المركزية ،وبهذا التفسّخ لسلطة الدولة تبرز عناصر أخرى أكثر أهمية للبناء الاجتماعي للهيمنة، الجمعيات والتحام الأفراد مع السلطة في واجهات أخرى من الحياة الاجتماعية يمكن أن تمدّ السلطة بالنفوذ إلى المحيط الأساس وتسلم مواقع قيادية فيه. في مثل هذه المواقف يظهر هؤلاء القادة وكأنهم (قادة طبيعيون)للشعب Natural Leaders. الكهنوت ورجال الدين يمكن أن يستخدموا سلطتهم التقليدية في هذا الإطار، وقد فعلوها فعلاً مرات عديدة، ومثال على ذلك، في التاريخ الاسباني[80]. في إيران، كان هناك العديد من أعضاء المراتب العالية في (الكهنوت) الشيعي قد قادوا الجماهير المعارضة للملكية أثناء الثورة الدستورية بين عامي 1905 ـ 1906. في عام 1978 نهض عدد من التجمعات والأفراد من الذين أرادوا إخراج الشاه ولكنهم لم يكونوا مهتمين مَن سيَقبل ثيوقراطياً زعامة الإمام الخميني!.
إن تمركز الدولة يدفع بالضرورة إلى تركيز المرجعيات الرمزية والاقتصادية والسياسية القهرية ،كما انه يستلزم انتهاكات خاصة تطال المصالح والامتيازات على مستوى الفرد والمحافظة والمحلة، وأكثر من ذلك يستلزم حصانات أميرية ودستورية لآخرين، وكذلك مصادره‏حقوق وتجريد ممتلكات لتشكيلات اجتماعية صاحبة امتياز. وبهذا، وفي إطار الحركة والمسار، يكون التمركز سبباً لحركة نضالية حادة مستمرة. ردود فعل الجماعات المستفيدة وردود فعل مراكز القوه ‏المستقلة ذاتياً ضد امتداد ومركزية الدولة كلها أسباباً رئيسية لمعظم ان لم نقل كل الثورات الأوربية المعاصرة المبكرة.[81]
إن ثورة الكومينروس في مدن الكاستيل ضد چارس الخامس عام 1520 ،وثورة النيذرلانديين التي جاءت كردّ فعل لمركزية سياسات فيليب الثاني في الستينات 1560. والحرب المدنية الفرنسية في القرن السادس عشر، وهكذا انتفاضة الكاتلان أو ليفرز التي دفعت (دساتيرهم) إلى الشيطان، والبرتغاليين عام 1640، ومثلها الوجه المبكر للثورة الانكليزية[82] وكذلك نهضة الفرونديين ومقدمات الثورة الارستقراطية في فرنسا بين عامي 1787 ـ 1788 كلها أمثلة واضحة على ذلك[83]، ففي كل هذه الثورات ،جاءت ردود فعل التشكيلات والتجمعات لاسيما عندما تهدّد استقلالها الذاتي وامتيازاتها الموروثة من قبل الدولة، إذ أنهم كانوا في الأغلب يجدون عدداً من رجال الدين حلفاء لهم أو وكلاء. لقد وجد النيوزلانديين المبعدين والمجهدين بالديون مثلاً، حلفاء لهم من الوعاظ الكالفانيين والمتطرفين ضد المعتقدات الدينية.[84] في إيران السبعينات أوجد الخطباء والمبلّغون والجماعات المتضامنة المقصية القادرة على إيجاد ردود الفعل نفس النمط الثوري وشكّلوا تجمعاً واحداً مؤثراً.
كانت هناك ثلاث تجمعات اجتماعية رئيسية صاحبة امتياز صارت ضحايا مركزية الدولة، أصبحت الأولى تتكون من رؤساء القبائل، إذْ قامت حملات رضا خان(أخيراً رضا شاه) التهديئية بين عامي 1921 ـ1925 بتهشيم قوة رؤساء القبائل هؤلاء وأدّت إلى تصفية عدد منهم جسدياً. ورغم ذلك استمرت المقاومة في المناطق الخارجية، أي البعيدة عن المركز، كما هو الحال في لرستان حتى بدايات الثلاثينات.
قانون تسجيل الملكية لعام 1922 حوّل رؤساء القبائل الممولين هؤلاء إلى ملاّك أراضي كبار[85]. وبهذا أصبحت أعداد منهم في عداد سكان المدن وملاك أراضي من الطبقة العليا، أما كأفراد فقد دخل الكثيرون منهم فى نخبة بهلوي السياسية.
الكهنوت الشيعي كان مرشحا للحضور تحت وطأة الهجمة الشرسة من قبل دولة بهلوي المركزية. وتحت حكم رضا شاه، كانت الدولة حرمته من كافة وظائفه القضائية، وألغتا متيازاته (الكنسية) والأميرية (أي الشاهنشاهية) والاجتماعية، وقللت بشكل هائل سيطرته على التربية والأوقاف الدينية. فأمام تصميم رضا شاه وقسوته، لم يقم الكهنوت آنذاك بأي رد فعل يُذكر ولا بأية طريقة أو أسلوب يستحق الذكر.
توصّل رضا شاه إلى اتفاق مع طبقة مُلاّك الأراضي الكبار (الألف عائلة) الذين كانوا يهيمنون على البرلمان الإيراني (المجلس) حتى سنة 1960. إنها المرّة الأولى، وفي المحطة الأصلية في إصلاحات محمد رضا شاه للأرض عام 1962 و 1963 تجري تصفية هذه الألف عائلة المالكة، كطبقة بمن فيهم رؤساء القبائل.
في مرة من المرات جرى حلّ المجلس، ولم تكن طبقة ملاّك الأرض (الفاعلة) تمتلك أية قاعدة مؤسساتية مستقلة، كما ولم يكن بإمكانها الردّ على الإقصاء السياسي الكامل والاقتصادي الجزئي الذي اتُّخذ ضدها من قبل الدولة. ورغم أنّ العديد من أعضائها استعادوا ممتلكات كبيرة من الأراضي وأصبحوا فلاحين تجاريين ميكانيكيين، وبذلك اصطفوا مع البرجوازية ،إلاّ أنّ العديد منهم بقوا مع نخبة بهلوي السياسية وإن علاقة الفلاحين مع الملاك التقليديين شكّلت قاعدة القوة لطبقة الملاك وعملت لصالح معروفيتها في المجلس، إلاّ إنها قد دمّرت وتم القضاء عليها.[86]
العلاقات بين الكهنوت والملكية كانت تحسنّت بعد استقالة رضا شاه، وخاصة في نهاية الأربعينات والخمسينات عندما كانت هذه الملكية ضعيفة والكهنوت متيقظاً
بسبب تهديد الشيوعية أو توجّسه منها. استأنفت الدولة موقعها العدائي في الستينات والسبعينات حيث بدأت الهجمة على الحالة الدينية الوسط الديني وانتهكت وجودها بشكل سافر ووقح.[87]
على عكس طبقة مُلاك الأرض، فإنّ الاكليروس الشيعي المقصي جزئياً كانت له قاعدة مؤسساتية مستقلة ذاتياً، وكان بإمكانه الردّ على تمدّد الدولة، وقد نفذّ ذلك فعلاً في نهاية المطاف.
النضال السياسي الذي استفزته مركزية الدولة وحداثتها، وكذلك التشكيلات الإجتماعية المقصية التي استعادت قاعدتها المؤسساتية في الردّ على تمدد الدولة كان بحاجة إلى إيجاد تحالفات مع تشكيلات وطبقات أخرى إذا أرادت أن تحقق نجاحاً. في أوائل الستينات، عناصر من الكهنوت وملاّك الأرض ورؤساء القبائل افتعلوا محاولات اتحادية متواضعة لتحقيق صيغة مصطعنة من صيغ التحالف، ولكن الانتفاضات الانفصالية لأتباع (الإمام) الخميني والكاشاني وقبائل بوير أحمد في فارس عام 1963كانت قد قُمعت بلا رحمة[88].
وفي عام 1978، عندما تم إيجاد تحالف مؤثر، استطاع هذا التحالف أن ينفّذ الثورة. بسبب عدائهم الموّحد تجاه الشاه، استطاع التحالف الثوري لعام 1978 أن يضمّ مجموع الكمّ السكاني لإيران. المزارعون لم يلعبوا دوراً مهما في الثورة الإسلامية، وهكذا طبقة العمال الصناعيين.جميع القطاعات السكانية الأخرى عارضت الشاه بنشاط وفاعلية، وقبلت بزعامة (الإمام) الخميني للثورة. التحالف المزدوج الأهم ضمّ رجال الدين المناضلين المتشكّل من الطبقة الوسطى الجديدة لمستخدمي الحكومة ومعلمي المدارس إضافة إلى المثقفين وأصحاب الياخات البيض في قطاع الخدمة والبرجوازيين التقليديين في البازار.
التحالف بين رجال الشيعة والطبقة الوسطى الجديدة لم يكن مستقراً بالدرجة المطلوبة، إذ أنّه كان يرتكز على صمت خبيث للطرف الأول ورغبة مضلّلة أو غرور للطرف الثاني. ولذلك لم يستمر طويلاً، فبمجرد أن أطيح بالشاه، لم يتأخر (الإمام) الخميني في الإجهاز على الانتلجينسيا الغربية، أي المثقفين الغربيين وإقصائهم.
أما التحالف بين رجال الدين الثوريين والبرجوازيين التقليديين، من الجانب الآخر، فقد ارتكز على أحزان وآلام محسوسة وملموسة لكلا الطرفين. وبما أنه أرتكز على أرضية تاريخية فقد كان أكثر صلابة وأكثر صبراً وتحمّلاً. انه مثل آخر للتلاحم بين المسجد والبازار ،وهو يشبه التلاحم بين برجوازية المدينة والكنيسة في القرنين الحادي عشر والثاني عشر في المسيحية الغربية. وقد تم تلفيقه في نهاية السبعينات تحت الضغط المباشر لتدمير الشاه للمدارس الدينية في مشهد وحملاته الشاسعة المناهضة للاستغلال ضد البازار والتجار والمتمولين[89] في طهران ومدن أخرى.
ترى لماذا تمّ استبعاد الطبقة الوسطى الجديدة، أو قل لماذا خسرت هذه الطبقة موقعيتها؟ إذْ كان يمكن للتاريخ أن يأخذ مساراً آخر، كما حصل في قضية تحالف جمال عبد الناصر المعاصرة مع الإخوان المسلمين الذين كانوا يحظون بدعم جماهيري أوسع، وكانوا فيبعض الأمور أكثر تنظيماً من الملالي في إيران. في القرن العشرين الإيراني، يبدو انتم ركز السلطة جزّأ المجتمع وفتّته إلى درجة عالية من التشظّي، إنه فكك رؤساء القبائل وذوّب طبقة الملاك، وأوجد الانتلجينسيا والطبقة البيروقراطية وأوجد كذلك كياناً مستقلاً لضباط الجيش، وأخيراً أوجد التجمع الصناعي والتجاري للمقاولين. كلّ هؤلاء لم يكونوا على اتصال مع أي تجمع اجتماعي تضامني، سواء كان قبيلة أو أصحاب عقارات أو تعاونيات. ومع ذلك وفي تفسير مقارب لما كانت عليه فرنسا قبل الثورة فقد كانت هناك ثلاثة عناصر من المجتمع المدني القديم تسعى لتقليل تمزّق أو تشظّي المجتمع الإيراني وهي: الحالة الدينية الشيعية (الإقطاع الاكليروسي الشيعي)، البازار والبرجوازية التقليدية، التجمعات المدينية في عدد معين من أحياء المدن القديمة التي كانت تحت هيمنة الجماعة السابقة. والى هؤلاء، يمكن أن يضيف المرء تجمّعاً مدينياً جديداً تمّ إيجاده بمسلسل الهجرة من المناطق الريفية والمدن الصغيرة إلى المدن الأكبر، إذ لم يعد مدهشاً أو غريباً عندئذ أن يُقال بأن الطبقة الوسطى الجديدة المتفجرة برهنت على أن يكون مثلها مثل المثل الذي يقال في الماركسيين وهو «كيس البطاطس» بينما كانت الجماعات الاجتماعية التضامنية الأخرى في التحالف قادرة على فعل شيء سياسي استعراضي ملحوظ ،وقد اضطلعت بذلك في الحال.[90] أي في اللحظة المناسبة.
احتفظ الشاه بالطبقة الوسطى الجديدة هذه تحت رقابة مستمرة من قبل الشرطة السرية ولم يدعها تقيم أية تشكيلات أو تحظى بأية تجربة سياسية. وأكثر من ذلك كانت قدرتها قد عُطلّت بجدية، لأن ضباط الجيش كانوا عُزلوا عن بقية عناصرها. وبهذا فإنّ الممثلين السياسيين لهذه الطبقة لم يتمكنوا بسهولة إنشاء أي تحالف مع الجيش الذي كان معرّفاً للشاه ونظامه بشكل دقيق ومركّز، فلم يكن أمامهم حينئذ إلاّ إقامة تحالف مع الكهنوت الشيعي.
وفقاً إلى تيلي Tilly، المناضلون الذين عانوا من هاجس فقدانهم مواقعهم في نظام الحكومة، كانوا أجبروا، أي دُفعوا دفعاً إلى رد الفعل وهو الانتماء إلى عمل تضامني قهري. انه (أي تيلي) يلاحظ، وهو مصيب طبعاً، انه ومنذ قرون كان الشكل المبدئي للعمل التضامني يتشكل عادة كنموذج رجعي. الشكر الجزيل والامتنان للتطور الاجتماعي، مع ذلك، إذ أن القضية لم تعد هكذا، بل صار رد الفعل عملاً تضامنياً مؤثراً في العصر الحديث.[91]
هذا التمييز المفاهيمي يبدو ذا قيمة مبهمة. عدد من الثورات المفككة في هذا البحث هي إما رد فعل أو سابقة لرد فعل. وفي الحقيقة، أنّ الفعل التضامني الذي صنّفه تيلي كردّ فعل لم يعدم فائدته أو أهميته بعد منتصف القرن التاسع عشر، وانه ينسحب عادةً على التجمعات التقليدية العرقية العامة..
وحيثما تتخذ هذه التعاونيات التضامنية العامة صفة التعاونيات الطبقية، فلا يمكن استخدامها في انتفاضة الطبقات الاجتماعية وإنما لتهديدها أو تضعيفها. الثورة الإسلامية في إيران تنبهنا إلى الأهمية التي لا تُنكر لفعل رد الفعل أي الفعل الانفعالي في الحركات الثورية للقرنين الأخيرين، بما فيها تلك التي أتخذها ماركس كنماذج لثورات الطبقات الناهضة.
هناك دليل فاتن على أهمية الفعل الارتجاعي للتعاونيات التضامنية التقليدية العرفية في الحركات الثورية والذي جاء حديثاً إلى دائرة الضوء. انه يختص بنفس الجماعات التي ألهمت ماركس نظرية الثورة ولكنها شوهّت فهمنا لتفسير الظاهرة لأكثر من قرن.
إنّ أسطورة الطبقة الوسطى فيالثورتين الانكليزية والفرنسية كانت قد برزت منذ مدة وتحديداً من قبل هيكستر وكوبان Hexter and Cobban. تشخيص تريفر ـ روبر للثورة الانكليزية على أنها مجرّد ضمور أو يأس للطبقة الحاكمة الأرستقراطية يحتوي على بعض الحقيقة ولكنّه مبالغ فيه كثيراً[92].
من ناحية أخرى، نحن نعرف الآن بأن ثوار عام 1789 لم يكونوا من البرجوازيين الرأسماليين[93] كما إن ثوار العقود الأولى من القرن التاسع عشر في انكلترا ومثلهم ثوار عام 1848 لم يكونوا من طبقة العمال الصناعيين (أي الشغيلة). أن طبقة العمال الثوريين الانكليز كانوا في الحقيقة، في تلك الفترة يتشكلون من أصحاب الحرف وعمال الأعمال اليدوية الذين كانوا مهدّدين من قبل أرباب التصنيع الرأسمالي، وهذا يُعيد إلى الذاكرة حقبة العصر الذهبي لتعاونيات المنتجين الصغار المرتكزة على الروابط التبادلية والتعاون الأخوي المشترك.[94]
دراسة حديثة حول هؤلاء «الراديكاليين الرجعيين» كما يُسميهم أحد المراقبين.
تخلص إلى أن القيم الثقافية التقليدية والعلاقات العامة المباشرة والفورية تُعتبر عناصر حاسمة للعديد من الحركات الراديكالية. وتُعتبر العلاقات العامة أسباباً مهمة للتعبئة إذ إنها تمكّن التجمعات التقليدية لأن تبقى معبئة لفترة طويلة في وجه الإقصاء المتعمد أو الفاقة والحرمان.[95] أصحاب المحلات والحرفيين فرضوا سيطرتهم إبان حوادث العصيان المسلّح في فرنسا في ثلاثينات القرن التاسع عشر 1830 [96]. نفس تجمّع الحرفيين هذا وكرّد فعل ضد الرأسمالية الصناعية والعمالية، والذي استقى مواقفه ومصطلحاته الاجتماعية من الماضي، شكّل العمود الفقري لثورات 1848 في فرنسا وألمانيا. في فرنسا، تجمعات السفر الإخوانية التي أدامت الحس التعاوني التقليدي والتضامني للحكم السابق شكّلت العنصر القيادي الثوري عام 1848. في ألمانيا شكلّت تجمعات الحرفيين ظاهرة بارزة في الحركة الثورية في نفس العام، بينما كانت البروليتاريا هي الأكثر سكوتاً وهدوئاً في جميع الوجودات الاجتماعية[97].
«الراديكاليون الرجعيون» ـ كما يخلص كالهون ـ «كانوا نادراً أو إطلاقاً، ما يقدرون على حيازة أية مكانة متفوقة في الثورات. ولكن وفي نفس الوقت، إنّ الثورات التي استحقت هذا الاسم لم تكن لتحصل بدونهم»[98].
مع الثورة الإسلامية، كانت هناك مجموعة من الراديكاليين الثوريين وتحت زعامة حراس العقيدة الشيعية ،استطاعت أخيراً أن تنال حظاً من السيادة في ما يُسمّى نظرياً التفوّق ،الأكثر إثارة ومتعة في الثورات الحديثة.
دعنا نتحرك أكثر للتأمل في بعض الحركات التي لم يدرسها ماركس دارسة وافية.
يوجد أولاً، الثوار المزارعون. على العموم، الثورة الإسلامية احتوت هؤلاء الثوار. إنها استدرجت التعاونيات التضامنية على أساس الروابط العامة للقرابة والنسب، ونتيجة لذلك امتلكت مقومات دفاعية ومحافظة عديدة[99]. في المكسيك، كانت هناك ثورة فلاحين جماهيرية عام 1810 قادها الأب هيدالكو والأب مورلوس. وكلاهما من قساوسة الجماعة الأبرشية[100] Parish Priests في أسبانيا. كان هدف الكارلستيين في أواخر ثلاثينات عام 1830 قد وُصف بعنوان «إحياء الديمقراطية الرهبانية». إذ قاد رجال الدين جماعة اليوامنة الموفقة [101]Yeomanry من الباسكو والاراكونيز في نهضة عارمة للدفاع عن استقلالهم الذاتي المحلي وعبّروا عن غضبهم ضد السياسة المركزية وحصر السلطة بأيدي الحكومة البوربونية[102]. في القرن الحالي كانت هناك ثورة الـ زاپاتا Zapata التي دافعت عن الاستقلال الذاتي للجماعات الزراعية التقليدية ضد امتداد الهاسنداس في المكسيك مع جزيل الشكر إلى الثوار الزاباتيين (وقوانين 1915 و 1917) والى الكادريناس (1934 ـ 1940) والى الثورة المكسيكية التي رسخت أمْن أجيدو وحافظت على الأموال الخاصة والعامة في القرى.
ينبغي أن يُضاف أيضاً بأن حصيلة الثورة المكسيكية يمكن أن تكون أقلّ علمانية بكثير، وأكثر محافظةً لو كانت حركة كريستيرو التي نظمها القساوسة ووضعت الكاثوليك في خانق رد الفعل المضاد للسياسة المكتبية للحكومة المركزية مع شعارها (يعيش الملك المسيح) قد نجحت بين عامي 1927 ـ 1928.[103]
إنّ الفكرة المتهافتة القائلة بأن الفاشية كانت حركة ثورية للطبقة البرجوازية الضيقة الأفق قد وُضعت على الرفّ[104]. البرجوازية الصغيرة كانت بعض الشي أُقحمت في تمثيل معظم الحركات الفاشية وأنها بلا شك أيضاً أُقحمت إقحاماً في الثورة الإسلامية الإيرانية. ولكنها مُثّلت في كافة أنواع الحركات الراديكالية.
نحن نجد «الناس الصغار» في الاضطرابات الدينية في فرنسا القرن السادس عشر على كلا الجانبين[105]. إننا نجدهم بين أولئك الرجال الذين اقتحموا الباستيل[106]، وكما كنا رأينا توّاً، إننا وجدناهم من بين راديكالييّ القرن التاسع عشر الذين شكّلوا الطبقة العمالية الانكليزية ـ كما يرى إي بي ثومبسون E.P.Thompson.
الدراسات المتأخرة ترينا بوضوح بأن الأحزاب الفاشية كانت دُعمتْ بعناصر من كافة التشكيلات الاجتماعية وتحديداً من التشكيلات المقصية والمطرودة وغير المصنّفة طبقياً. الشيء الأكثر أهمية في هذه النقطة «الذي لم يناقش» هو أنّ قيادات الحركات الفاشية ترشحت بشكل غير مناسب عن الناس اللاطبقيين والمبعدين، من ضباط الجيش المسرّحين، ومن البيروقراط غير المستخدمين أي البطالين الذي لا مكان لهم (وخاصة أولئك المطرودين المهدّدين بالانسحاب من الحدود القومية) ومن الاورستقراط المبعدين.
النازيون أيضاً لم يفشلوا في الطرْق على التجمعات التضامنية التقليدية العامة التابعة للبروتستانت في الريف.[107]
الفاشية الأوربية والحركة الإسلامية في إيران متشابهتان في كون قيادتهما منحدرة من عناصر مقصية، إلاّ أنّ هناك اختلافين مهمين:
الأول: إنّ القادة الفاشست كانوا مجموعة متبايني العناصر والخواص، فيما كان رهط (الإمام) الخميني المناضلين يشكلون مجموعة متجانسة ومتضامنة.
الثاني: إنّ الزعماء الفاشست لم تكن لهم سلطة فوقية على أيّ من الكيانات الثقافية، وكان عليهم الحصول على أفكارهم أينما وجدوها، فيما كان الكهنوت الشيعي يتشكل من أمناء وقيّمين أثرياء مشبعين بالتعاليم الدينية. إن عواقب هذه الاختلافات وآثارها ستصبح واضحة عند التطبيق على أرض الواقع.
ج ـ حركات اجتماعية نزيهة كردّ فعل على التفكك الاجتماعي: يمكننا العودة الآن إلى الأجواء التي سبقت الثورة، منها التفكك الاجتماعي والاضطراب الأخلاقي اللذان يعقبان التحوّل الاجتماعي السريع أو المفاجئ عادة.
دعنا نبدأ بالاضطراب المعياري في المستوى الأكثر تجليّاً وظهوراً. الإسراف البيّن لدى الطبقة الاجتماعية العليا من الإيرانيين ووفرة المجوهرات الثمينة أنتجت إحساساً حاداً بالحرمان النسبي بين مستخدمي الحكومة من الطبقة الوسطى الناشئة، وكذلك بين العمال من أصحاب الياخات البيض، ومعلمي المدارس. في بعض الأحيان، كان هناك عدم ارتياح مضاف، من فاقة أو عوز مطلق ناشئ عن أزمة السكن المتفاقمة بسبب انهمار عدد كبير من العمالة الأجنبية والخبراء الأمريكان على إيران.
في هذا السياق، يأتي من نافلة القول الحديث عن التذمر الواسع الانتشار بين عامي 1977 ـ 1978 كما يأتي مؤيداً لمنحنى ديفير J حول التوقعات والآمال المستمرة والمتصاعدة وما يرافقها من إحباط مفاجئ.[108] ارتفعت نسبة التضخم في دخل الفرد الإيراني من 3ر30 بالمائة في عامي 1973 ـ 1974 إلى 42 بالمائة في عامي 1974 ـ 1975، بعد ذلك جاء الانهيار الاقتصادي، رغم، وبالأحرى، بسبب تدفق واردات النفط غير المنظمة والهائلة.
الاختناقات القاسية في الأيدي العاملة الماهرة والصناعية أوقفت النمو الاقتصادي عام 1976[109]. المشكلة كانت أعمق جذوراً اذاً. فالمختبئ تحت الرغبة الشعبية للتحوّل الثوري هو الإرباك الجذري الذي كان أكثر من الإحباط الظاهري للتوقعات المادّية. وكما أوضح دور كهايم ،أن «أزمات النجاح» أولدت الارتباك بخلخلة النظام المعياري التضامني.[110]
لا يوجد أدنى شك حول الفوضى الهائلة وفقدان النظام. الناتج عن التدفق الكبير للبترودولار، تماماً كما هو الشك القليل حول الاضطرابات المشابهة في نيجيريا والمكسيك اليوم. الإحساس المترتب على الفوضى الأخلاقية والرغبة لتأكيد المساواة المطلقة لا ينبغي أن يُهوَّنان. هناك نقص ثقافي عام في أوساط المجتمع الإيراني ساهم في صياغة إطار خاص لفوضى عامة وارتباك واضح بسبب الثروة الناشئة أو الثراء المفتعل والمركّز والذي سبّب رفضاً قاطعاً للآثار الثقافية الأجنبية واللادينية وجاء لحساب الملالي وتجار البازار.
في أوربا، كانت الحركات الجماهيرية الاشتراكية والفاشية جزء من المواجهة غير العادية للتحرك السياسي المعبأ والحاشد الذي اكتسح القارة الأوربية خلال العقود الأولى من القرن العشرين.[111]
جاءت التعبئة السياسية كنتيجة لتحوّل اجتماعي أساسي انطوى بالتأكيد على تفكيك البنية الإجتماعية بشكل واضح. إذْ استبدل التحول الاجتماعي هذا أعداداً كبيرة من الأشخاص وأخرجهم عن المسار أو المراتب التي نشأوا فيها. هؤلاء الأشخاص يحنّون بل يطلبون الانتماء لأطر جديدة في المؤسسة الاجتماعية. الحركات والفصائل الدينية تعتبر قنوات عتيقة لإعادة ترتيب أوضاع هؤلاء الأفراد المفككين، فيما تُعتبر الحركات والأحزاب السياسية القنوات الجديدة لإعادة اللحمة الاجتماعية.
الثورة الإسلامية أثبتت أنّ الجديد والقديم يمكن أن يرتبط ويشكّل شيئاً متكاملاً.
التمدّن والتمدّد في التعليم العالي خلال العقدين اللذين سبقا الثورة هما البعدان الأساسيان للتحول الاجتماعي السريع والأكثر موائمة لحلّ الإشكالية. بين أعوام 1956 و 1976 زادت نسبة عدد سكان المدن في إيران من 31 بالمائة إلى 47 بالمائة (أي من 6 ملايين إلى 16 مليون). الهجرة السنوية نحو المدينة المعتمدة على نسبة هذا التحول المفاجئ تشير إلى أنّ ثلث هذه الهجرة حصلت في العقد المحصور بين 1966 ـ 1976 وكانت الأعلى نسبة من هذه الهجرة في طهران.
لوحظ في هذا العقد أيضاً اتساعٌ غير مسبوق في نسبة التحصيل أو التعليم العالي.
أرقام الأشخاص من ذوي التحصيل العالي تضاعف إلى (حوالي 000/300) والزيادة في الجامعات والمدارس الحكومية في إيران بلغت ثلاثة أضعاف هذا العدد (أي إلى حوالي 000/150). هذه العوامل ساهمت بشكل فاعل في نهضة الحركة الإسلامية. آلاف الجمعيات الدينية ظهرت إلى الوجود تلقائياً في المدن والجامعات وراحت تفعل فعلها في تحريك آلية التكامل الاجتماعي، وبنسبة عالية في أوساط المهاجرين داخل المدن من الجيل الأول لطلاب الجامعات[112]. على النقيض من ذلك، كانت محاولة الشاه الموازية لهذا الفعل والقاضية بتوحيد نفس الجماعات وضمّها إلى منظومته السياسية ذات الحزب الواحد قد برهنت على خيبة أمل وإفلاس.
لا يوجد شيء جديد حول الرجال والنساء المقصييّن أو المخلوعين لأن يجدوا ملاذات ومراسي جديدة في الجماعات الدينية والفصائل والحركات العائدة إلى الحياة.
في انكلترا مثلاً أصبح العديد من الرجال المبعدين منتسبين إلى جمعيات ومنظمات القرنين السادس عشر والسابع عشر[113]. في أوائل أعوام 1570 الطبقات البرسبيتارية كانت مشخّصة ومحصورة بالناس العاديين العاطلين عن العمل، ولكن بين 1620 و1630 كانت محاضرات البيورتان (المتطهرون) قد تجذرت في المدن لدرجة مدهشة، الأمر الذي أرعب الكنيسة الانكليكانية. أصبح الناس العاديون هم حماة ومموّلو المحاضرين البيورتان ،وان الجماعات المتكتلة حول الصنف الأخير أصبحت «نماذج للمنظمات الحزبية الأيديولوجية»[114] المعاصرة.
الموقف يشبه كثيراً نمو الجمعيات الدينية العادية في إيران في الستينات وأكثر منه في السبعينات، حيث كان رجال الدين يحاضرون ويخطبون. في البداية أخذت المسألة إطاراً شخصياً وعندما تطلّب الأمر التوسع تحوّلَ عبر أشرطة الكاسيت والمسجّلات لتحاشي المستمعين في المدينة. نحن نجد مرادفاً قريباً في النهضة الميثودية[115] (المنهجية). في القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر ـ اندمج المهاجرون إلى المدن الصناعية الحديثة في انكلترا مع جمعيات وخطباء ومبلّغي الميثودية. وهنا فإنّ منهج التكامل في الوحدة الاجتماعية يبرّز الوجه المنطقي الاجتماعي في أطروحة هالفي الشهيرة. القائلة بأن عودة الحياة للميثوديين أحيت الجماهير المتمدنة حديثاً وصهرتها في وحدة اجتماعية متكاملة، حالت دون وقوع الثورة في انكلترا.[116]
الفاشية، أيضاً، عملت كعربة أو وسيلة لتوحيد أو صهر المهاجرين المدنيين في وحدة اجتماعية متماسكة. في ألمانيا مثلاً، «العديد من المدنيين الجدد فشلوا في إتمام ملاكاتهم الثقافية ،أي انسجامهم مع حياة المدينة، وبدلاً من ذلك ،بقوا أشداء بشكل غريب تجاه الرومانسية الزراعية والأيديولوجيات الشعبية[117] Volkisch Ideologues. نصف زعماء الحزب النازي في الهرم القيادي كانوا ولدوا في قرى كبيرة»[118].
منهج البيوريتان Puritanism ومنهج محو الأمية سارا جنباً إلى جنب. ونفس الشيء جرى ويجري مع تنامي المقدس الإسلامي. أما مذهب العصمة الإسلامي.[119]
Islamic Fundamentalism فقد انتشر في الجامعات الإيرانية تماماً كما انتشرت البيورتانية في جامعتي أكسفورد وكامبردج[120]. العديد من الناشطين الإسلاميين في السبعينات الذين شكّلوا على التناوب المسار الثاني للحكم الإسلامي، اكتشفوا «الإسلام الحقيقي»في التجمعات الجامعية ،تماماً كما تمّ إحياء كروميل Cromwell في كامبردج.
الفاشية انتشرت في الجامعات الأوربية بنفس النمط طولاً. وفي أوربا الشرقية تحديداً، شكّل طلاب الجامعة والناشطين الشباب محور الأحزاب الفاشية وقياداتها. الفاشية الرومانية سارت على نفس النمط في هذا السياق. في أوائل العشرينات من عام 1920، كان كولورانو وموتا، هما المؤسسان الرئيسيان للمنظمات الجامعية للإصلاح المسيحي والإحياء القومي في جامعات إياسي lasi وكلج [121]Cluj، بشكل خاص.
إنّ الجمع بين التعليم العالي والتفكك الاجتماعي يحظى بأهمية خاصة عند توضيح موضوع تسييس الحركات التوحيدية. فمفتاح التشكّل الاجتماعي للناشطين الجامعيين الإسلاميين في السبعينات 1970 هو أنهم منحدرين إما من الضواحي الصغيرة إلى المدن الكبيرة حيث يذهبون إلى جامعاتهم، أو إنهم كانوا الجيل الأول المنحدرين من الطبقة الوسطى التقليدية الدنيا بحضورهم إلى الجامعات أيضاً أو كليهما.[122]
هؤلاء الشباب هم الذين بثّوا الوعي السياسي الثوري في فضاء الإحياء الإسلامي للستينات والسبعينات 1960، 1970 وبنفس الطريقة التي قام بها رجال الريف المثقفون في انكلترا، وساهموا فيزرع الوعي السياسي الثوري في صفوف البيوريتانية. المقارب لذلك مع الفاشية الرومانية كان أكثر تجلّياً، وهذا ما أشار إليه القائد الحديدي الراحل (سيما Sima) حيث قال: «في عامي 1926 ـ 1927 اكتسحت جامعاتنا موجة كبيرة من الشباب من أصل فلاحي ،وقد استصحبوا معهم إحساساً وطنياً عارماً وكانوا بهذا يدمّرون آخر معقل من معاقل الروح الأجنبية في بلداننا وجامعاتنا»[123]. وفقا إلى اگوين ويبر Eugen Weber، «قيادات كثيرة العدد جاءت من ضواحي المحافظات، وكانوا قد تمدنوا تواً وشكلوا الانتلجينيسيا (أي طبقة المثقفين) أبناء أو أحفاد فلاحين، ومعلّمو مدارس، وقساوسة».[124]. ماكس وبر Max Weber أشار مرّة أنه مع مجيء جمهور السياسيين المعاصرين، فإنّ ظرف الهيمنة الإكليريكية نفسه قد تبدّل، «فلم يكن هناك خيار أمام الكهنوت سوى تأسيس منظمات حزبية واستخدام وسائل مدمّرة شأنها شأن الأحزاب الأخرى»[125]. التمدن السريع والمفاجئ، وفشل الشاه لتعبئة عناصر متجذرة، وخاصة العناصر المعبئة اجتماعياً، أو العناصر المثقفة، الحديثة النشأة في نظامه السياسي، قدّمت (للإمام) الخميني والكهنوت الشيعي المنـزوي فرصة لا نظير لها لإيجاد حركة سياسية جماهيرية ثورية. وبتوظيف الشبكة المنظمة للحوزات الدينية العاطلة عن العمل، وجنباً إلى جنب مع طلبة الجامعة الإسلاميين، استطاع رجال الدين بفترة قياسية استخدام عامل الزمن وتنظيم مظاهرات جماهيرية حاشدة مناهضة للشاه مع البازار الذي أعد لإضراب عام وبفترة قياسية لم يسبق لها مثيل. كل هؤلاء ربما كانوا قادرين على إسقاط نظام أقوى من نظام الشاه، وهذا ما لا نعلمه على الإطلاق، الأكيد الذي نعلمه فقط هو أنّ هذا الإضراب الذي تزعمه رجال الدين، كان أسقط النظام البهلوي الهشّ وأزاح حاكمه المترنح.
د ـ الدوافع السياسية والأخلاقية لأنصار الثورة، وضعف أهمية الحافز الطبقي:
الدافع السياسي يمكن تعريفه بأنه المحفزّ الداعي لاستلام السلطة، أو الاستحواذ على وحدات سياسية ومؤسساتية مهددّة أو منـزوعة الملكية أو وحيازة العضوية على قدرة سياسية معينة تسعى للسيطرة على المجتمع سياسياً. من الجانب السلبي، الدافع الأخلاقي الداعم للثورة يمكن أن يتشكل من اتّهام النظام الحاكم بأنه غير عادل، أو لأنّه مستسلم للقوى الأجنبية، أو انّه أداة لنشر الثقافة الدخيلة وسحق القيم التقليدية الأصلية، وكذلك سحق القيم الثقافية والدينية الحقيقية.
الاتهام الأخلاقي لأي نظام حكم في كونه غير عادل، يعود بالأساس، مجسّداً للطغيان أو مسبباً للفاقة والحرمان. في الجانب الايجابي، الدافع الأخلاقي المؤيد للثورة يمكن أن يترشح عن قبول الأسطورة الحديثة القائلة بأن الثورة فعلٌ إنقاذيّ شامل.
وبالتالي فإنّ المصلحة الطبقية يمكن أن تمثل دور الحافز في إسناد الثورة إذا كانت المصالح الاقتصادية لطبقة ما (كما هو تعريفها في سياق موقعها في نظام العملية الإنتاجية) مضمونة أو تمّ الوعد بضمان حمايتها. في هذا الإطار، دعنا نتفحّص الدوافع التي يمكن أن تكون ساهمت في بناء التشكيلات الاجتماعية التي دعمت الثورة ضد الشاه.
إنّ الدوافع السياسية والأخلاقية متداخلة بشكل قوي في الاتجاه المفاهيمي للكهنوت الشيعي. فالاهتمام المادي الأول لدى الزعماء الدينيين هو استعادة الامتيازات والمواقع التي افتقدوها نتيجة تركيز وتحديث الدولة. وهذا ما تبين فعلاً مع الزعماء الدينيين المناضلين الذين انحدروا من خلفيات مدينية تقليدية، والذين كانت أعمارهم في الأربعينات أو الخمسينات أيام الثورة، وكان لديهم وعياً حاداً وحساسية مفرطة تجاه استبعاد وإقصاء الوجود الديني الشيعي من قبل نظام الحكم البهلوي. رجال الدين الأصغر سنّاً المنحدرين من بيئات أقل تواضعاً في الريف والمدن الصغيرة شاهدوا كلّ المنافذ المؤدية للارتقاء إلى مستوى الطبقة الاجتماعية العليا من الناس في نفس مواقعهم أو وظائفهم، والمحصورة في أعوان الشاه وحاشيته[126]. أنهم كانوا يتوقعون حكومة إسلامية تمنحهم رقياً اجتماعياً سريعاً ومشاركة كاملة في النظام السياسي.
كلا الصنفين، الزعماء الدينيون، وطلاب العلوم الدينية المناضلون، كانوا ساخطين أخلاقياً على انتشار الفساد الأخلاقي وانتشار أجواء التحرر والثقافة الدخيلة تحت ظل النظام البهلوي.
في عبارة مهمة لنجل (الإمام) الخميني كان عرّف فيها الأعضاء المحافظين في الحالة الدينية الشيعية من الذين ساندوا الثورة ضد الشاه بأنهم أشخاص كانت دوافعهم أخلاقية محضة.[127]
إنّ الدوافع السياسية والأخلاقية هي الأخرى متداخلة بالنسبة إلى الناشطين الإسلاميين السياسيين. الجيل الأول من هؤلاء الطلبة الجامعيين والخرّيجين المنحدرين من الطبقة الوسطى الأدنى. والذين معظمهم أصحاب تخصصات علمية وهندسية، لاحظوا أنفسهم معارضين من قبل الأنساق العليا المتغرّبة في المجتمع ومن قبل أصحاب المواقع الحكومية العليا. إنهم أيضاً كانوا مدفوعين برغبة شديدة لإزاحة هذه العوارض أو دفعها إلى طاقتها الحركية الاجتماعية العليا. أنه من الضحالة بمكان إدخال أية مصلحة طبقية في هذا التجمع البرجوازي الشاب المدلّل، باستثناء رغبة أكيدة للحصول على القوة والدخول في النظام السياسي والترقي في السلّم الاجتماعي ووضع نهاية للجو الثقافي الذي وجدوه غريباً وغير مألوف وازدروه بعمق.
إنّ دوافع الطبقة الوسطى الجديدة إذن كانت سياسية وأخلاقية على حد سواء.
العديد من أعضاء هذه الطبقة من النساء المعبئات حديثاً ومن اللواتي شُخّصن بشكل واضح في المظاهرات المضادة للشاه وكُنّ يُردن مشاركة ما في المجتمع السياسي كُنّ يُعبّرن عن حكومة الشاه بأنها حكومة طاغية ومستبدة وظالمة وبالتالي قبلن بأسطورة الثورة. مع ذلك ومما يجدر ذكره، أنّ نفوذ وتأثير الأسطورة السياسية للثورة هما اللذان دفعا الطبقة الوسطى الجديدة وخاصة النساء للمشاركة في حركة الثورة الإسلامية ضد مصالحهن الطبقية، وفعلاً بشكل انتحاري.[128]
البرجوازية التقليدية المتكونة من تجار البازار وكذلك البرجوازية الصغيرة من تجّار التوزيع والحرفيين في نقابات البازار، ومنها الاتحادات المهنية والنقابية هي الجماعات الوحيدة التي تعتبر مصلحتها الطبقية دافعها الأول لقلب نظام الشاه. هذه الجماعات شعرت بالتهديد من قبل السياسات الاقتصادية المتطورة للدولة التي أبعدتهم ـ كما أبعدت غيرهم ـ من الوصول إلى مساحة الأمان السهلة. أنهم كانوا يخشون أيضاً زحف آلة الاقتصاد العصرية على مقاطعاتهم في إطار منافسة البضائع المصنّعة آلياً، ويخشون كذلك زحف شبكة توزيع الأسواق الحديثة والمخازن ذات الصلة.
يُضاف إلى هذا الدافع الطبقي المصلحي، إحساس بالحرمان النسبي بسبب الأرباح الهائلة التي يجنيها أرباب الصناعات القريبين من البلاط، فضلاً عن الازدراء الأخلاقي المتنامي الذي استفزه عدم احترام الإسلام والقيم التقليدية بسبب غزو الثقافة الأجنبية وغارتها غير المهذّبة على الدين.
2 ـ غائية الثورة الإسلامية أ ـ الصرامة الأخلاقية والبحث عن الأصالة الثقافية: ان حقيقة كون الحركات الاجتماعية التكاملية هي ردود فعل للتفكك الاجتماعي والفوضى المعيارية توضح الدور البارز لبحث الناس عن الأصالة الثقافية وصرامتهم الأخلاقية.
«الفاشية كانت ثورة، ولكنها ثورة قرأت نفسها في مصطلحات ثقافية وليس اقتصادية»[129]. وهكذا نفس الحقيقة مع الثورة الإسلامية حيث وجدت نفسها فعلاً وبالتأكيد في إطار هذه المصطلحات، حتى لو لم تكن موضحّة في الثورة الثقافية الإسلامية، ضد التغريب وضد الشيوعية (الشرقية) الكافرة وقد دُشّنت بإغلاق الجامعات في أبريل 1980. منذ الثورة، بدأ نظام القضاء العلماني يؤسلَم منظومياً، الدستور الشيعي المقدس بدأ يُصنف لأول مرّة في التاريخ. الأخلاق الإسلامية وحجاب المرأة أُقحما بشدة في الوسط الاجتماعي من قبل جماعات طلابية رسمية متخصصة وواعية أُنشئت لهذا الغرض.
لا يمكن للأفراد والجماعات المرتبكة والمقصية أن تُدشَّن في منظمات اجتماعية بدون إيجاد (أو إعادة إحياء) نظام أخلاقي معين[130]. يؤكّد وولزر بأن البيورتانية كانت مبدأياً «انعكاساً لفوضى المرحلة الانتقالية». «رانولف Ranulf»[131] شخّص بشكل صريح الصرامة الأخلاقية عند النازية، وقارنها مع البيورتانية[132]. الأخلاقية الحادة والضاغطة والقمعية للتحركات الإسلامية والتي تأتى كرد فعل للتحلل الأخلاقي والفوضى في نظام بهلوي تجد مقارباً قوياً في أخلاق البيورتان في ردّ فعلهم ضد التحلّل القيمي والحساسية المفرطة تجاه الثقافة الرينايسانية، وهكذا في الأخلاق النازية في رد فعل مشابه ضد انحطاط حقبة وايمر Weimar period. علاوة على ذلك ،إن الرفض الضيّق الأفق للأممية يعتبر معْلماً شاخصاً من معالم الثورة الإسلامية والنازية، وخاصة الفاشية الأوربية الشرقية[133]. ان الرفض العنيف للتغريب الثقافي لصالح إحياء المسيحية في رومانيا وهنغاريا يجد نظيراً له في تخطيط (الإمام) الخميني المنظم والموفق لاستئصال لوثة الثقافة الغربية بتأسيس منظومة أخلاقية إسلامية جديدة.
ب ـ الأيديولوجية الثورية وتبنيها من قبل الأجيال اللاحقة: إنّ الثورات الأوربية الأولى المعاصرة صُممت من قبل رجال كانت كلمة (إحياء) هي المفتاح لديهم، والذين «كانوا يعيشون هاجس كلمة الاستبدال والرغبة للعودة إلى النظام القديم في المجتمع». كما أن الغائية المرتبكة لهذه الثورات كانت تلاحَظ في غياب الأيديولوجية المؤطرة بالدستورية القومية أو الوطنية والتي هي بشكل رئيس الاحتفاظ بهيمنة المنظمات الاجتماعية والمهنية[134]. في الثورة الانكليزية، مع الطبيعة، والمصدر ،وأرضية الشرعية السياسية ـ كان هناك سيل جارف من الدعاوى والمزاعم التي لا يمكن تحاشيها في إثبات الشرعية وبكل الأشكال والألوان وعلى جميع الأرضيات والمستويات القديمة والحديثة»[135].
ومع ذلك كان هناك عنصران قد هيمنا على غائية الثورة الانكليزية، وهما: الحالة البرلمانية،والبيورتانية وإفرازاتها.
وإذا كانت الثورة الفرنسية قد أسست أو أوجدت شيئاً مشتركاً لجميع الثورات اللاحقة، فهو حضور الأيديولوجية ـ إنها أولدت اليعقوبية [136]Jacobinism كإطار كلاسيكي من رحم الأيديولوجية الثورية المعاصرة. أن أفكار التمثيل الدستوري، والهيمنة الوطنية والقومية تمّت مضاعفتها في البداية. وكلما تقدّمت الثورة، مع ذلك، فإنّ المرجعية في الشرعية قد تتحوّل من تمثيل الطبقة العليا إلى التجسيد الرمزي لإرادة الجماهير. إنّ دعوى تجسيد إرادة الأمة كمفردة في وجود متجانس يمكن أن تمرّر فقط من خلال التلاعب بمصطلحات اللغة وإشعاعها العالي.
لقد أصبح التمثيل المزعوم لإرادة الجماهير هو القاعدة الوحيدة والمرتكز الأساس للشرعية. فأثناء حقبة الارتقاء اليعقوبي، انتصرت الشرعية الثورية، ومع انتصارها كانت الأيديولوجية الثورية «قد ملأت بالكامل أجواء القوة وأصبحت متساوية في الامتداد مع الحكومة نفسها»[137] إنّ تقطير التجربة اليعقوبية كان الأسطورة السياسية المعاصرة للثورة. بعدها أصبحت الشرعية الثورية مستقلة ذاتياً ولها برنامجها الخاص في الاكتفاء الذاتي.
الثورات في القرن التاسع عشر، أصبحت «معالم واضحة في مسيرة إنسانية عنيدة باتجاه الحرية الحقيقية والأممية الحقيقية»[138]. اللينينية ربطت هذا المفهوم للثورة مع الأسطورة اليعقوبية، إذ أصبحت تجسيداً للاستيلاء على السلطة من قبل الثوريين الذين يزعمون أنفسهم مسؤولين عن إدراك المرحلة القادمة للتحول التاريخي الاجتماعي.[139]مع اندماج الماركسية ـ اللينينية في روسيا، تمكّنت الأيديولوجية الثورية اللينينية «فرض سيطرتها على قراءة تاريخ العالم»[140]. إن هذه الهيمنة التي تمّ تحدّيها من قبل الفاشست والثوار الإسلاميين حتى أثناء قيامهم، مثل البلشفيك، جعل أسطورة الثورة فعلاً إنقاذياً لتحرير الجماهير والأمم المضطهدة.
كلاهما، الفاشية والحركة الثورية الإسلامية، باتتا ملتحقتين أو متأخرتين عن المشهد السياسي العالمي المعاصر، وبما إنهما هكذا، فهما يقتسمان عدداً من الملامح الضرورية. وأول هذه الملامح، وفي مقدمتها، ما يتعلق بأسطورة السياسة الشرعية للثورة.
الفاشست الإيطاليون كانوا يتباهون بـ (صلابتهم الثورية) ،والنازيون بمعارضتهم لثورتهم. ثورة الشعب الألماني هي الأخرى سُميت الثورة (فوق البشرية)لعام 1789[141].وعلى نفس الشاكلة يفتخر الثوار الإيرانيون كثيراً بالرسالة التاريخية للثورة الإسلامية.
«العامل الاقتصادي كان عاملاً وعلى الأقل من أهم العوامل المعتبرة عند الفاشست»[142].ونفس الشيء مع الثورة الإسلامية. ( الإمام) الخميني في استجابته لحالة الوضع الاقتصادي، أشار في إحدى المرات قائلاً: «إننا لم نقُم بالثورة الإسلامية من أجل أن يصبح البطيخ رخيصاً». بل أكثر من ذلك، ومثل الفاشست الأوربيين، كان هدف المناضلين الإسلاميين هو توحيد جميع الطبقات، بمن فيها الطبقة العاملة، في وحدة وطنية أو قومية متماسكة. استبدل الفاشستيون كلمة (أمة) بـ (طبقة) وطورّوا مفهوم ( الأمم البرولتيارية). وهكذا استُبدل الصراع الطبقي بالصراع بين الأمم والشعوب، والأغنياء ضد الفقراء. مع الثوار الإسلاميين في إيران لدينا نقلة مماثلة لمفهوم الاستغلال من قبل طبقة لطبقة أخرى إلى استغلال المستضعفين، أي استغلال الشعوب المستضعفة من قبل الدول الامبريالية أو المستكبرة.[143]
إنّ حقيقة كون الفاشية ملحقة أو متأخرة، ما يكتب لينز Linz «يساعد جزئياً على توضيح الشخصية المضادة الضرورية لأيديولوجيتها وفتنتها» علاوة على ذلك، «انه لمن التناقض أن نجد لكل رفض تآلفاً بين العناصر المرفوضة»[144].
إنّ حركة الثورة الإسلامية في إيران شأنها شأن الفاشية، كانت عرضت أطروحة جديدة للرؤى أو المناهج السياسية التي هاجمتها هي نفسها بعنف، كما أن المناضلين الإسلاميين شأنهم شأن الفاشست صاروا ضد الديمقراطية لأنهم يعتبرون الديمقراطية الليبرالية نموذجاً أجنبياً يمكن أن يمنح مناهج محددة للتعبير الحر ويفتح الطريق أمام الآراء والأفكار الدخيلة. (وكذلك مثل الرجال ‏الفاشست ،إنّ المناضلين الإسلاميين بالضرورة لا يقبلون اللافتة المضادة للديمقراطية)[145].
وعلى نفس المنوال فإنّ كلتا الجماعتين ضد البرجوازية، وهما يمقتان التوجه الوحدوي العالمي للطبقة الوسطى الجديدة (أي العولمة)، كما إن كلتا الحركتين ضد الماركسية، أي ضد الشيوعية وضد الاشتراكية، بينما نراهما يتبنيّان الأفكار ويرفعان الشعارات التي تدعو إلى العدالة الاجتماعية والمساواة.
حركة الثورة الإسلامية تمتلك امتيازا خاصاً مضافاً إلى امتيازات الفاشية مع ذلك، وهو الجمعبين (محو الشخصية) والتقليدية القوية. وهنا يمكن أن نرى نتيجة الحقيقة القائلة بأن قادة الثورة الإسلامية المقصيّين والمعزولين كانوا متناقضين كأفراد ولكن متجانسين‏كجماعة متضامنة.وأكثر من ذلك تراهم يشكّلون جماعة متماسكة حافظت على العقيدة الدينية الشيعية. على‏النقيض من النازية (الثورة ‏النيهيلية» Revolution of Nihilismالتيكانت في حاجة ماسة إلى العقيدة الفكرية اليابانية الخاصة. كما في كتابات زعماء الفاشية وحركة النظام الجديد في نهاية الثلاثينات 1930)[146]، يرى البعضان الثورة الإسلامية جمعت بين رفض الأيديولوجيات السياسية الغربية الغريبة مع تأكيدها الشديد على التعليم الديني والثقافي الإسلامييْن، ولذلك فإنني وصفتها بـ «التقليدية الثورية»[147].
بالإضافة لملامح محو الشخصية والملامح العرضية الأخرى، فإنّ الفاشية والحركة الإسلامية الثورية كلاهما يمتلكان محوراً دستورياً واضحاً. ومع أنّ العنصرية ومناهضة الساميّة كانا أكثر الملامح قبحاً في الفاشية الأوربية، ولكن، وكما استطاع موسى Mosse والآخرون إثباته أنها ليست منافساً محورياً للثورة الإسلامية.
القطب الدستوري للفاشية الذي يتماشى مع الفاشية الأوربية ويستمر متعايشاً بأطر وأشكال مختلفة كقوة أيديولوجية متينة في العالم الثالث هو الجمع بين القومية والاشتراكية. وهذا ما ثبّته جورج فالويس عام 1925 حينما قال: «القومية + الاشتراكية = الفاشية». فالتزاوج بين القومية والاشتراكية قد تمّ بعد الحرب العالمية الأولى.[148] هذه الحقيقة تجاوزت بكثير الظروف الخاصة في المنهج الاستبعادي، لأي قطر أوربي، ولهذا السبب دخلت أوربا الحرب. لقد تم الوصول إلى هذه الحقيقة بواسطة زعماء فاشست مختلفين ومن أقطار أوربية متباينة، كما تم الوصول إليها بشكل مستقل بواسطة عدة أيديولوجيات في العالم الثالث منذ سنة 1945.
هناك معْلم تحملّي للأيديولوجية الفاشية هو إصرارها على واقعية الأمة وافتعالية فكرة الطبقة. بالنسبة إلى الفكرة السطحية الباهتة لما يُسمّى الصراع الطبقي المستمر، يرفض المفكر الفرنسي مارسل ديت شعار الملكية ويدعو للوحدة الاجتماعية غير الفاسدة أو غير المتعفنة التي يسببها الصراع الطبقي أو التفكك التجزيئي. «الرجل الكامل في المجتمع هوا لكامل بلا صدامات، ولا انبطاح، ولا فوضى»[149].المفكرون القوميون العرب راحوا يبحثون عن الاستفادة من شعار الملكية الدولية باستبدال الطبقة بالقومية. أنصار الأيديولوجية الإسلامية كانوا بحاجة فقط إلى اتخاذ خطوة واحدة أبعد لاستبدال القومية بالأمة أي جمهور المسلمين المؤمنين.
وبهذا فإنّ ظهور الأيديولوجيات الثورية الإسلامية كان ضمن البرنامج المطروح منذ الحقبة الفاشية.وبصرف النظر عن ورطة الإقطاع الديني الشيعي المصادر في إيران.
إنّ الأخير لم يستثمر الاستقلال الذاتي المؤسساتي ولا الاستقلال في تجربة السلطة الدينية الشيء الذي كان رجال الايديولوجية السنّية الإسلامية مثل رشيد رضا يحلمون به فقط. لقد كان بطيئاً جداً إيجاد أيديولوجية مناسبة تدافع عن نفسها ضد الدولة. في الحقيقة، إنّ الأيديولوجية الإسلامية كان تشكلّت في مكان آخر من قبل الناشرين والصحفيين والكتاب أمثال المودودي (المتوفي عام 1979) في باكستان الهندية، وسيد قطب (المتوفي عام 1966) في مصر. يتشكّل جوهر هذه الأيديولوجية في عرض الدولة العلمانية ويتجلى كصنم أرضي يزعم الجلالة التي هي للّه‏ فقط. وعندما نهض (الإمام) الخميني أخيراً ضد الشاه ،فإنه استورد الأيديولوجية الإسلامية من الباكستان ومصر كمادة خام أو بضاعة حرة.
في 1926، وفي عمل جاد سبق معظم التحولات الأيديولوجية للعقدين الماضيين، كان الشاب المودودي آنذاك قد أعلن قائلاً: « أن الإسلام أيديولوجية ثورية وممارسة ثورية تهدف إلى تدمير النظام الاجتماعي للعالم بشكل كامل وإعادة بنائه من الحطام..» الجهاد (أي الحرب المقدسة) أشارت إلى النضال الثوري هذا. تصوّر المودودي العالم المعاصر وكأنه ميدان «صراع بين الإسلام واللإسلام» إذ يقرن الأخير مع جاهلية ما قبل الإسلام والكفر. المذاهب الحديثة والفلاسفة السياسيون تمت مقارنتهم مع الكفر والجاهلية، وأنّ هيمنتهم السابقة جعلت عورة الإسلام إلى الحياة مسألة ضرورية.
بعد عقود قليلة، المصري سيد قطب تبنّى فكرة التناقض بين الإسلام واللإسلام، مستعيراً فكرة الجاهلية من المودودي وجاعلاً إياها حجر الزاوية في أيديولوجيته الإسلامية الثورية. بقبول الناس للدول العلمانية، تعتبر المجتمعات المسلمة المعاصرة مجتمعات جاهلية. ومن أجل اجتثاث هذه الجاهلية من هذه المجتمعات، يجب أن تؤسّس حكومة إسلامية عليها تطبيق الشريعة المقدسة، ومن أجل تأسيس حكومة إسلامية، أي إقامة حكم اللّه‏، تصبح الثورة الإسلامية ضرورية.[150]
الفكرة الشيعية الاكليركية الواضحة حول الحكومة الإسلامية، ومن أجل أن تفهم أبعاد ثورة 1979 يمكن القول إنها لم تكن متأثرة مباشرة بالاتجاه الإسلامي السنّي وانها يمكن أنْ تفهم بشكل أفضل في سياق النضال بين الكهنوت الشيعي والسلطة المركزية التي بحثناها آنفاً.ورغم انها بدعة في التاريخ الشيعي الا ان فكرة (الامام) الخميني في الحكومة الإسلامية وضعت موضع التنفيذ عام 1979 وفي الإطار المرجعي الشيعي التقليدي ولا تتجاوز أي مبدأ للابتداع الأيديولوجي لكل من المودودي وقطب. انها ببساطة وسّعت السلطة العامة للفقه وحكم الفقيه وفي إطار حقه الطبيعي في الحاكمية ليضمن حقه في الحكم[151].
ومع ذلك فإنّ أفكار المودودي وقطب كانت قُرئت بشراهة في الترجمة الفارسية والعربية من قبل أتباع (الإمام) الخميني المناضلين الذين تبنّوا الفكر الثوري المتطرف القائل بأن الطاعة للدولة العلمانية التي لا ورع فيها لا تقوى، (وفي هذه القضية هي دولة الشاه)، إنما هو أقرب إلى عبادة الأصنام. إن تركيز هذه الفكرة لا جدال فيه في شعارات الثورة ونشرياتها وأدبياتها، وأكثر ما يُلاحظ هنا هو استخدام مصطلح الطاغوت (القوة الأرضية غير الآلهية) ويُقصد به النظام السياسي البهلوي. وقد أصبحت آثار ذلك أكثر عمقاً وتجذراً منذ إقصاء المعتدلين والحداثتيين الإسلاميين عامي 1980 ـ 1981 كما أصبح ذلك معروفاً بشكل واضح تماماً في خطاب النخب السياسية القائمة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
وأكثر من ذلك، إنّ آية اللّه‏ صافي[152] لا يجد صعوبة ولا يرى ضيراً بدمج محاسن أفكار المودودي وقطب مع الأفكار الإكليريكية (للإمام) الخميني. فبالنسبة له، أن حكومة الفقهاء ونيابة الإمام الغائب (المختفي) هي الحكومة الحقيقية للّه‏ على الأرض المنذورة لتنفيذ حكمه (سبحانه). إنّ جميع الأنظمة السياسية السابقة ليست إلهية وإنما أنظمة جاهلية وطاغوتية. إنّ الثورة الإسلامية ستستمر حتى الإطاحة بجميع هذه الأنظمة.[153]
ج ـ القديم والجديد في التقليدية الثورية والعلاقة غير الغائية بالتقدم ينبغي على الثورة الإسلامية في إيران أنّ تُلفت أنظارنا إلى الأهمية المهملة للعناصر الرجعية والانفعالية في جميع الثورات. إن أيديولوجية الثورة البروليتارية، كما بيّن لنا مانهايم تنطوي على الكثير من العناصر الرومانسية والنقد الرجعي للتنوير[154].
من جانب آخر، إنّ النازية في كلا بُعديها كما أصرّ المحاورون والمؤرخون (وخاصة باچلر)، تحتوى على العناصر الثورية كما تحتوي على العناصر الرجعية.[155]
الثورة الإسلامية أفرزت تعليقاً ساخراً على السجال الساخن بين المؤرخين حول ما اذا كانت الثورات الأوربية المبكرة المعاصرة محافظة أم ليبرالية، رجعية أم تقدمية.
وإنها أكّدت أيضاً أنّ الثورات غالباً ما تُستنزف في الدفاع عن القيم التقليدية.
باچلر كان مصيباً حين قال: «على عكس الظاهر والاعتقاد الشائع، أنّ الثورات المحافظة تدعم من قبل النخبة أقل مما تُدعم من قبل الجماهير»[156] ليس غريباً أن بعض العناصر الغائية المهمة في الاكليركية كانت تزّعمت انتفاضات شعبية مثل الكارلزمية Carlism وحركة كاسترو[157] ووجدت رنيناً لها أي صدىً في الثورة الإسلامية في إيران، منها رفض الأجنبي وآثار القيم الأممية، واعتراض شديد ومتطرف للسياسات اللادينية للحكومات الحداثتية، بما فيها الكافرة طبعاً.
فكرة ماركس الشهيرة القائلة بأن الثورة الفرنسية تحاكي الجمهوريين الرومان لأنهم لم يكوّنوا بعد لغة سياسية خاصة بهم، ليس بالضرورة أوتوماتيكياً تعميمها. أن الثوار الذين يرسمون صوراً تقليدية يمكن أن يختلفوا بشكل كبير في معرفتهم للتقليد، أو تعريفهم الرسمي أو الوظيفي له. آيات اللّه‏ في إيران كانوا الحراس الرسميين للعقيدة الشيعية وعرفوا الطريق إلى فلسفة التشريع لهذه العقيدة. وقد برهنوا وبجهودهم الحثيثة في السنوات الست الماضية على قدرتهم في أسلمة نظام القضاء الإيراني، وذلك بتأسيس مراكز سياسية مساعدة وداعمة، لأئمة صلاة الجمعة، وببناء الشكل الهيكلي الصارم للأخلاق الإسلامية.
إن التقليدية الثورية الإسلامية لها أيضاً كمائنها الخاصة الحديثة. فدستور الجمهورية الإسلامية يعرض خدمة لفضية وشفوية للمساواة وخاصة العدالة الاجتماعية، وهو يضمن حرية الطباعة المعبرّة عن وجهة النظر السياسية والتجمعات السياسية والتشكيلات شريطة ـ وبلا تعليق ـ ألا تكون متعارضة مع المصالح الإسلامية!!
وأخيراً فإنّ هناك عنصراً آخر حديثاً يُعتبر أكثر من كمين ومصيدة خادعة، وهو المجلس أو البرلمان. أن سنّ القوانين في الثورات الأوربية المعاصرة هو التنظير للممارسة والفعل، ويرتبط أشد الارتباط مع الهدف الرئيس في حفظ أو إطلاق الحريات المحلية. في إيران، ورغم أن الدستورية دخلت كدواء مستورد لجميع الأمراض بين عامي 1905 ـ 1906، فإنّ رجال الدين استخدموا الأيديولوجية الدستورية عند معارضتهم الشاه.
وبالنتيجة، فإنّ المجلس معْلم تحميلي للنظام الإسلامي. إذ أنّ جميع مقرراته مع ذلك، يتم الإشراف عليها بقوة من قبل فقهاء دينيين يضمهم مجلس يسمى مجلس الصيانة (أي صيانة الدستور)، أو (مجلس الحراس)، إضافة إلى ذلك أن كلاً من رجال الدين الحاكمين والطرف الآخر الثاني المحسوب على النظام يتحسسون كثيراً من التكنولوجيا. إنهم يحبون الإذاعة، ويحبون أن يُصوروا في التلفزيون، وتُجرى معهم مقابلات في الصحف والمطبوعات، كما يحبون إقامة المؤتمرات والملتقيات ويستخدمون العبارات الضخمة الحديثة كالـ (المكاتب الأيديولوجية والدوائر السياسية».
عندما يجري الجمع بين مفاهيم الثورة ومفاهيم التقدم، كما هو الحال في القرن التاسع عشر والى اليوم، فإنّ هناك خيطاً يمكن أن يرسم بوضوح بين الثورة والمضاد للثورة، الدليل المقدّم في هذا البحث يجعل من المستحيل تلمّس مثل هذا الخيط. إذ تمّت الإشارة بأن جميع الثورات تنطوي على عناصر مناهضة لها. هذه الملاحظة أيضاً صحيحة وهي إن جميع الثورات المضادّة يجب أن تدمج الإبداعات الثورية من أجل إحياء ما تعتبره أو ما يسمى النظام التقليدي، وهذا ما يبدو واضحاً في قضية التقليدية الثورية الإسلامية في إيران. وكما ناقشتُ في حديث سابق من هذا البحث، إن هذه الثورة في الحقيقة أسست ثورة أخرى داخل التشيّع نفسه.[158] وأكثر من ذلك أن الثورة الإسلامية استطاعت أن تستنهض وجوداً معتبراً وتوجد نمواً في حجم الدولة وعدد الأشخاص المستخدمين تحت لوائها أو الموظفين من قبلها. إن المرء يستطيع أن يرى هذه العوامل بشكل منطقي وواضح وكأنها استمرارٌ غير منقطع باتجاه التحديث. إلاّ انه من الأفضل، بأن يجري التعامل مع مثل هذا التوجه كاتجاه شامل، يعمل في تواصل مع الماضي، أكثر منه نموذجاً فردانياً لغائية هذه الثورة ومميزاً لها عن العوامل الأخرى.
د ـ العلاقة الغائية للدين: الدليل المقارن لا يتطلب منا فقط أن نفصل بين الرباط المفاهيمي للثورة والتقدم، وإنما علينا أن نشدّ أو نوثق الصلة بين الثورة والدين. إذْ لم يكن الدين عاملاً مهماً في ثورة البيورتان وحسب ،وإنما في كافة الثورات الأوربية المعاصرة باستثناء الـ فروند Fronde. أن وولزر كان مُصيباً فتقديره لمنافي البيوريتانيين في سنوات الخمسينات 1550 واعتبارهم طلائع أو بشائر للأيديولوجيات الثورية المعاصرة[159] ونفس الشيء صحيح أيضاً مع رجال الدين الكاثوليك في الثلاثين سنة الأخيرة[160]. في 1940 كان الوعاظ البيوريتان يسمون مجلس العموم الأداة الإلهية المختارة لإعادة بناء بيت المقدس[161]. في نفس السنة كان نظراؤهم الكاثوليك في كاتالونيا أيضاً منهمكين في نشاط ثوري. هنا يظهر قائد قوات الملك الأسباني في روسلّو متشكّياً من التحريض على العصيان وتفسيق رجال الدين:
«بين الاعتراف والوعظ والمنبر يقضون معظم وقتهم محرّضين الناس، يقدّمون للثوار الحماسة والنصائح ، يعلّمون الجهلة على أن الإيمان بالثورة سيمنحهم مملكة السماء»[162].
توجد هناك قرائن متشابهة بين ثورة البيورتان والثورة الإسلامية. مَثَل كرومويل، كمثل موسى، لدينا (إمام) خميني، كما هو إبراهيم وموسى شيء واحد، ومثل قدّيسي البيورتان، لدينا رجال الدين المناضلين ومواعظنا مثل مواعظهم الراسخة وخطبهم في الأعوام المحصورة بين 1642 ـ 1649[163].
كانت لدينا تحت حكم الشاه، تجمعات الأربعين لإحياء ذكريات الشهداء، وبعد الثورة أصبحت لدينا خطب الجمع في صلوات جماهيرية حاشدة. الاختلافات المهمة، مع ذلك تؤثّر على غائية هذه الثورات وهدفيتها.
توجد هناك عناصر فوضوية قوية في البيورتانية وخاصة، الاستقلاليون الذين يعتبرون أنفسهم رجال الكنيسة الحقيقية داخل الكنيسة الفاسدة. الوصايا الألفية[164] الفوضوية في عالم المستقلين تعمل ضد قبولهم الحكومة الكنسية الوطنية البرسبيتارية.
هذه الوصايا كانت تؤدي إلى نفس اتجاه مفهوم الإنسان لدى دعاة المساواة Levellers باعتباره كائناً عاقلاً في صورة آله. ومن هناك نحو الحقوق الطبيعية.
التضامن الاتحادي لرجال الدين الشيعة المناضلين يتناقض بقوة مع واقعية القديسين البيورتان كما تتناقض الشرعية المنهجية مع الأفكار الألفية للقديسين باعتبارهم المسيح واهب الشرعية. وأخيراً إن نظرية رجل الدين الشيعية الثورية حول شمولية الفقه تتناقض تماماً مع فكرة التمثيل المستقل، وخاصة لدى البريسبتارية المشيخانية.[165]
الموقف يختلف بالنسبة للثورات الحديثة، ولكن دعنا نرى كيف؟ أدرك دي توكيفِل بأن الثورة الفرنسية كانت أنتجت ديناً جديداً. إنها استهدفت إتمام النواقص في إعادة بعث الكائن الإنساني، إنها تطورت في نماذج عديدة للدين، حيث فهمت انها دين غير كامل مادامت بلا آله، وبلا وعود وأحلام في حياة مستقبلية، ومع ذلك، هذا الدين الغريب، شأنه شأن الإسلام، غيّر وجه العالم بأصنامه ومناضليه وشهدائه[166].
مصطلحا «الدين العلماني» و «الدين السياسي» كانا استُخدما بجدارة لوصف الشيوعية والفاشية.[167] الثورات الحديثة تحتاج بالفعل إلى أديان سياسية. القضية الحساسة هي في ما إذا كانت هناك مغايرة أو تناقض بين الدين العلماني والدين السياسي.
الثورة البلشفية كانت كفاحاً إلحادياً. ولكن قبل أن نخلص إلى أي استنتاج، دعنا نتأمل بعمق في أيديولوجيتها المستوردة، وكذلك في القاعدة الاجتماعية الضيقة الممتدة لنخبتها السياسية. ماذا عن الثورة الفرنسية؟ لم يلاحظ دي توكيفيل أي تنافر بين المسيحية والدين السياسي للثورة. اللادينية والحملة على الدين تشكّلا بسبب علاقة الكنيسة مع النظام القديم، وليس من أية حساسية أو إحساس لا ديني واسع الانتشار.
ماذا عن الثورة الفاشية؟! الفاشية الأوربية غالباً ما اقترنت مع اللادينية أو الإكليريكية، الاّ أن هذا الاقتران لم يكن عاماً شاملاً ولا جذرياً متطرفاً. النازيون مجّدوا العقيدة الألمانية المسيحية الأسطورية وكانوا لا دينيين، ونفس الشيء صحيح مع الحركات الفاشية الأخرى في غرب وشمال أوربا. في النهاية الأخرى من المشهد، مع ذلك، الحركات الفاشية الرومانية ،والهنغارية والسلوفاكية والكرواتية كلّها كانت مسيحية بالتأكيد وكانت تهدف إلى تأسيس دول اتحادية مسيحية.
القيادة الدينية ومساهمتها في الجمهورية السلوفاكية التي تأسست من قبل حزب الشعب للأب هلينكا (الذي تزعمه الأب تيسو) وفي حركة أستاش في كرواتيا تقدّم ملاحظات ممتعة للمقارنة مع إيران. ولكن المقارب الأكثر بروزاً وأهميةً، بين التقليدية الثورية الشيعية والحراس الحديديين الرومانيين هو فيلق أو كتيبة أرچنجيل ميخائيل.
كلتا الحركتين يُشخَّصان بتعبدهما فوق العادي وعشقهما للمعاناة والتضحية والشهادة.
القساوسة هم الشخصيات الأكثر بروزاً في حركة ميخائيل هذه وجنباً إلى جنب مع طلاب الجامعة. مُلتقياتهم الكتائبية كانت تسبقها عادةً عادات وطقوس كنسية، ومظاهراتهم كان يتقدمها في الغالب القساوسة وهم يحملون الإيقونات والأعلام الدينية المقدسة.
المسيحية المتكاملة لهؤلاء الكتائبيين هي التي فرقتهم عن النازيين والفاشست الإيطاليين، وهذا شيء يعرفونه هم، كما صرح واحد من زعمائهم المثقفين قائلاً:
«الفاشية تعبد الدولة، والنازية تقدس العرق والقومية. حركتنا لا تناضل فقط لتقرير مصير الشعب الروماني ،نحن نريد تحقيق ذلك على امتداد طريق الخلاص للبشرية» أن الهدف النهائي للقومية ـ كما أكّد كولوينو وآخرون هو «الانبعاث وقيامة المسيح»[168].
وأخيراً إننا يجب أن نعتبر أنّ التكاملية البرازيلية هي الحركة الفاشية الأكثر أهميةً في أمريكا اللاتينية.التقى مؤسسها پلينيو سالگا دو موسيليني عام 1930. ترك اللقاء أثراً عميقاً في نفسه إذْ عرف بالتأكيد انه ليس هناك تناقضاً بين الدين السياسي الفاشي والكاثوليكية. بعدها عاد إلى البرازيل (لكثلكة) الفاشية الإيطالية «أي أتطيرها بالكاثوليكية». مستثمراً شبكة الأعمال الممتدة للمؤسسات الدينية المطروحة التي جاءت إلى الوجود بفضل الكادرينال ليم، فقد أسّس هذا الرجل حركة التكامل البرازيلية بهدف إيجاد وتأسيس الدولة الاتحادية المتكاملة. فالتكاملية إذن، تنتمي إلى المثقفين الكاثوليك بسبب وعدها التاريخي في «الثورة الروحية» والدولة المتكاملة «التي تأتي من المسيح، وتُلهَم بالمسيح، وتعمل للمسيح، وتتجه نحو المسيح». وطبقاً لهذا، راح سالگادو ينتقد الوجه الوثني الخطير للهتلرية وينعى حاجة أو فقدان الأيديولوجية النازية للقاعدة المسيحية أو المرتكز المسيحي. [169] قليلون هم الذين يتصورون العبارة القائلة بأن الثورات السياسية هي الشكل المعاصر للألفية السعيدة غير المقبولة أو المعترض عليها. الشيوعية الروسية كانت الألفية العلمانية لروما الثالثة، فيما كانت النازية هي الألفية العلمانية للرايخ الثالث «أي الألف سنة الرايخية من الحرية الوطنية والعدالة الاجتماعية»[170]. وكما كانت القصة مع الدين والدين السياسي، فإنّ الألفية السياسية والدينية ليست بأي شكل من الأشكال هي المضادّ التبادلي. فالعنصر الألفي الديني [171]chiliastic يمكن أن يهيمن في الثورة التايبية التي سعت إلى تأسيس المملكة السماوية للسلام الأعظم[172]، أو أنها يمكن أن تلعب دوراً مساعداً مهماً كما في ثورة البيوريتان في انكلترا والثورة الإسلامية في إيران.
في ثورة البيورتان، نواجه نمطين أو شكلين من الألفية: الألطف والأعمق عالمياً مع المقدّس المستقل ،والآخر الأكثر شهرة والأوحد الناشط في رجال الملكية الخامسة. لا يوجد شك بأن الألفية الثورية السياسية كانت لعبت دوراً حاسماً في استنهاض الانتلجينسيا الإيرانية (أي المثقفون) والجماعات الأخرى. ولكن مضافاً إليها، أنّ المنهج الشيعي يتضمن اتجاهاً ألفياً مهماً: وهو الاعتقاد بظهور الإمام الثاني عشر المهدي الذي سينقذ العالم.
هذا الاعتقاد كان مناسباً لتحقيق هدف ثورة (الإمام) الخميني. كما كان مناسباً، لمؤسس الإمبراطورية الصفوية عام 1501.[173] ورغم أن الألفية الشيعية لعبت دوراً هاماً في الثورة الإسلامية، إلاّ إنها لم يكن لديها أية نتائج أو عواقب فوضوية أو تجزيئية كالألفية البيورتانية ،لأن رجال الدين كانوا مسيطرين على قرائتها وترجمتها، وفي الحقيقة أنهم اشتقوا أو انتزعوا سلطتهم الفقهية والشرعية منها.
استنتاج: إنّ نجاح الأيديولوجية الثورية الإسلامية هو العلامة الفارقة والدالّة التي لم يسبق لها مثيل في تاريخ الثورة الإسلامية في إيران. فالأيديولوجية إنما هي استجابة قوية في التنقيب السياسي المقارن بحثاً عن الأصالة. لاسيما وان بناءها قد تمّ من خلال الاستفادة غير المعترف بها من كافة المحاسن التقنية للحركات الأيديولوجية الغربية والأديان السياسية ،مع الشيء المضاف، بل المسترجع بالتأكيد، وهو الوعد بإنقاذٍ عالمي، أي الخلاص في يوم موعود.
وبمعنىً من المعاني، أن الثورة أضافت حسنة أيديولوجية ذات قيمة فاقت النازية والشيوعية اللتين اصطدمتا مع الدين، فضلاً عن  عدم القدرة على إيجاد بديل جديد له. وكما فعل الشيوعيون والنازيون ،فإنّ المناضلين الإسلاميين عزّزوا ديناً متيناً موجودٌ فعلاً، بدرع أيديولوجي ضروري جداً فبحقبة جديدة أو ميدان جديد من سياسة جماهيرية أو جمهور سياسي. وبهذا العمل استطاع هؤلاء المناضلون تأكيد مساهمتهم  المتميزّة في تاريخ العالم.

السابق || التالي   || الهوامش

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية

مركز الصدرين للدراسات السياسية