مركز الصدرين للدراسات السياسية || الكتب السياسية

ست نظريات حول انتصار الثورة الإسلامية

دور الأيديولوجية والقيادة والأمة في الثورة الإسلامية
بقلم: منوچهر محمدي


ميدان في حقل الدراسة:
إنّ واحدة من أهم الإشكاليات عند دراسة ظاهرة العلم السياسي، كما في العلوم الأخرى، هي انتخاب ميدان البحث أو حقله. هناك
جدل حاد بين علماء الاجتماع في ما إذا كان ينبغي دراسة الموضوع بكافة اتجاهاته وأبعاده ومنحه شمولية مطلقة، أم المغامرة
بتفكيك تفاصيله وعناصره الثانوية وتركيز الانتباه على عناصر نموذجية مع تجاهل علاقاته مع العوامل التي جرى إهمالها.
وهذا في الحقيقة قياس تشبيهي يشير إلى عدم رؤية الغابة من أجل الأشجار. مجموعة من العلماء يتناولون المسألة الكلية
ويفضّلون الدراسة النظرية (التحليل الاستقرائي) فيما يعتقد آخرون بانتخاب عناصر نموذجية اعتماداً على البحث التجريبي
والتاريخي (التحليل الاستنباطي).
معظم العلماء المعاصرون اليوم يتبنّون الفكرة القائلة بأهمية كلا الطريقتين في التحليل ويعتبرانهما بدرجة متساوية في الأهمية،
ويعتقدون إن أي تقدّم في أي جانب منهما يؤثر في تقدّم الجانب الآخر. وعلى الرغم من عدم وجود قاعدة نموذجية أو مبدأ محدّد
للتمييز بين التحليل الاستقرائي، كطريقة نظرية رئيسية، وبين التحليل الاستنباطي كآلية فريدة في التحليل التجريبي، فإنّ هناك
تأكيداً على المتباين منهما وعلى الأولويات التي تميّز أحدهما عن الآخر.
تأسيساً على الميدان المحدد لحقل الدراسة فإنّ التحليل التجريبي والتاريخي كلاهما مفيدان ومؤثّران. ومع ذلك ومع اتّساع
تعقيدات ميدان العلم السياسي والظاهرة المعنية به، فان إمكانية تقديم تحليل تاريخي جدّي أصبحت ضعيفة وصار من الصعوبة
بمكان الوصول إلى استنتاج متكامل حول الموضوع. ولنفس السبب، فإنّ دائرة التحليل السياسي النظري في العلوم الاجتماعية،
بما فيها العلم السياسي، كانت اتّسعت بشكل هائل على صعيد امتدادها الأفقي وسرعة النمو في آليات التحقيق خلال القرن
الحاضر.
مدعومةً بالتقدم في العلوم الأخرى، فإنّ هناك ديناميكية جديدة وملحوظة قد ظهرت في هذا الحقل. ونتيجة لذلك، فقد عُرضت
نظريات متباينة وعديدة لدراسة وتحليل الحوادث الاجتماعية والسياسية.
الوضع الاجتماعي والسياسي في إيران قبل الثورة:
القوة السياسية:
فقط المجتمعات التي نأت فيها السلطة السياسية بعيداً عن الشعب وافتقدت القاعدة الجماهيرية المؤدية إلى سيادة الوضع
الاجتماعي الثنائي القطب، هي التي تكون عرضةً للثورات. مثل هذه الحالة أو هذا الوضع كان موجوداً في إيران منذ فترة
طويلة، ومثال ذلك، أنّ السلطة السياسية نادراً ما أهتمت بمشاركة الجماهير أو رضاها. وفي الحقيقة، وبسبب إفقار الجمهور
وسلبه قوته ونموّه، فإنّ هذه الحالة لم يكن لها وجود إطلاقاً.
مع بداية واتّساع الكولونيالية الجديدة الغربية في القرنين الماضيين وآثارها على الأقطار الأخرى، فإنّ إيران وبافتراض موقعها
الاستراتيجي وثرواتها الطبيعية، كانت موضع الاهتمام الأول بالنسبة إلى القوى الأوربية الكبرى، وقد أصبح هذا عاملاً آخر في
التغيّرات الحاصلة في السلطة السياسية الإيرانية. ومع تنافس أو صراع المصالح بين روسيا وانكلترا التي سبقت الحرب العالمية
الثانية وظهور الولايات المتحدة على المشهد السياسي العالمي ،وتنامي التنافس العالمي بين القوتين العظميين، الولايات المتحدة
والاتحاد السوفياتي بعد الحرب العالمية الثانية، فإنّ إيران لم تبق محصنّة أو مستثناة في ظل هذا التنافس أو هذه الصراعات. وفي
الحقيقة إن البحث عن النفوذ من قبل القوى الأجنبية أصبح مؤشراً مهماً جداً في تشكيلة القوة السياسية في إيران.
إن السلالة البهلوية التي أُسّست من قبل الضابط القوقاسي الفظّ المغامر عام 1924 وانتهت بنجله عام 1979 كانت آخر سلالة
في الحكم الملكي في إيران.
قبل صعود رضا شاه إلى مركز القوّة في إيران، كانت السلالة القاجارية هي التي حكمت البلد.فالقاجاريون الذين كانوا في يوم ما
ملوك أقوياء وأصحاب نفوذ أيضاً، أصبحوا ضعفاء باتجاه النهاية. أحمد شاه، آخر ملوك القاجار، الذي هو نجل المخلوع محمد
علي شاه، كان أضعفهم جميعاً. إنّ حكم أحمد شاه هذا كان تزامن مع الحرب العالمية الأولى وثورة البلشفيك الروس. قبيل الثورة
في روسيا، كان لهؤلاء نفوذ قوي ومؤثر في إيران، وكان شمال إيران عملياً تحت هيمنتهم. فرقة الحماية الإيرانية القوقازية كانت
تُدار وتُنظم وتؤمر من قبل الضباط الروس.
لم يكن البريطانيون سعداء مع شؤون الدولة في إيران وكانوا يريدون أو يرغبون في حكومة قوية فيها لتحقيق مصالحهم أولاً في
هذا البلد، وكذلك في كبح الخطر الشيوعي ومنع امتداده في المنطقة، فكان أفضل خيار لهم في الوضع القائم هو رضا خان
وبتنسيق أو توجيه البريطانيين كان التخطيط لانقلاب، ولكن، وطبقاً لاتفاقات سابقة، فانه (رضا خان)، وبدلاً من إسقاط أحمد شاه
القاجاري، أقترح عليه أن يختار بين تأييد حكومة الانقلاب أو الاستعفاء من السلطة. وبالتأكيد، فإنّ الملك القاجاري فضّل دعم
الحكومة على الاستقالة. ولكنه عملياً، وبهذا الإجراء فقدَ كل مقوّمات نفوذه وسلطته واستقلاليته.
بعد أربع سنوات، صمّم رضا خان الذي راح يقوّي دعائم سلطته في كل الأبعاد، على إنهاء سلالة القاجار وأعلن نفسه الملك
الشرعي على إيران. إنّ انتقال الملوكية كان نُفّذ، بطبيعة الحال بسلوك شرعي من قبل مجلس المؤسسين ،هذا المجلس عدّل
دستور 1917 الذي وضع أسس الملوكية لعائلة القاجار واختار رضا خان ملكاً. بعدها تمّ التصويت على ان الملوكية في إيران
تستمر (كنسياً) في عائلته.
تمّ تتويج رضا خان في أردبهشت 1303 الموافق لـ (20 أبريل 1924) ملقبّاً نفسه رضاه شاه بهلوي. إن اختيار كلمة (بهلوي)
كلقب لهذه السلالة نقطة مهمة جديرة بالتأمل. إذ أن (بهلوي) هو اسم اللغة الإيرانية القديمة، وان رضا خان في اختياره لهذا الاسم
كان بيّن تفضيله للمعتقدات الإيرانية القديمة على التعاليم الإسلامية الحاكمة في المجتمع الإيراني.
أثناء فترة حكمه التي استغرقت قرابة الستة عشر عاماً، اتخذ هذا الرجل الأمّي العادي خطوات وإجراءات تمت ملاحقتها أو
إتمامها من قبل نجله. الكثير من هذه الخطوات أو المشاريع كانت تعارَض من قبل المعتقدات الدينية للمجتمع الإيراني. إنّ إجبار
النساء على السفور مثلاً وإكراههن على خلع (الشادور) مقلداً بذلك النمط الغربي في الزي، وحظره أو منعه عرض المسرحية
العاطفية والخطب المتعلقة بوصف المشاهد التراجيدية لحادثة كربلاء، كانت بعضاً من هذه الإجراءات المضادة لمشاعر الناس.
رضا خان أخطأ الحساب في بداية الحرب العالمية الثانية التي انتهت باحتلال إيران من قبل الجيوش الأجنبية والتي قادت في
نهاية المطاف إلى خسارته لعرشه. هذا الضابط الجاهل، وظناً منها وعدم إدراك للشؤون العالمية، والذي أدهش أو انبهر بالحرب
الألمانية الكاسحة وسقوط الأقطار واحدة بعد الأخرى بأيدي القوات الهتلرية، اعتقد بأن ألمانيا سوف تربح الحرب وان قوات
هتلر سوف تتاخم الحدود الإيرانية. ولهذا، فقد وضع نفسه بجانب الفائزين، مصطفاً معهم متوهّماً الاستفادة من علاقات الصداقة
مع المنتصرين في نهاية الحرب.
وفي النهاية تم إبعاد رضا خان من جزيرة موريتيوس إلى جوهانسبرغ في أفريقيا الجنوبية، وفي يوليو تموز 1944، أي سنة
واحدة قبل نهاية الحرب العالمية الثانية ،مات في المنفى.
محمد رضا وتوأمه أخته أشرف كانا وُلدا من زوجة خان الأولى في 26 اكتوبر 1919 عندما كان رضا خان مجرد ضابط
قوقازي لا أكثر، وبعد وصول رضا خان إلى التاج، سمّى محمد رضا أميراً لتاجه، وبعد إتمام دراسته الابتدائية أرسله إلى
سويسرا لإتمام تعليمه العالي.
كان محمد رضا ضعيفاً ومريضاً في طفولته. رضا خان الذي كان يريد من ولده أن يكون جدّياً وفظّاً مثله، أرسله إلى المدرسة
العسكرية، إذ أن معايشة هذه المدرسة غيرّت مواقف وتوجهات محمد رضا. مع ذلك، وفي عام 1941 عندما وافق الحلفاء على
اختياره خليفةً لأبيه بعد استعفاء الأب ونفيه، لم يكن الولد أكثر من شاب غرّ وغير مجرّب. ومن أجل إدارة مهمات الحاكم، كان
بحاجة إلى مرشد قوي ومحنّك. ولذلك فقد عيّن البريطانيون محمد علي فروغي رئيساً للوزراء، ومربٍّ فعّال خاص به (أي
مشرف عليه).
لم يستمر فروغي في منصبه هذا سوى ستة أشهر، بعدها استقال من منصبه بسبب مرضه. وكان معظم خلفاؤه يُنتخَبون من قبل
السفارة البريطانية، كما أن محمد رضا شاه الذي لاحظ بل شاهد بعينه انتقام البريطانيين من أبيه، لم يكن ليجرأ على معارضتهم.
يمكن تقسيم عهد محمد رضا إلى أربع فترات متميزة: الفترة الأولى، من 1941 ـ 1946 التي احتُلت فيها إيران من قبل القوى
الأجنبية. الفترة الثانية استغرقت سبع سنين مبتدئةً عام 1946 ومنتهيةً بمجيء محمد مصدّق رئيساً للوزراء وارتقائه السلطة
وهروب الشاه من البلد. الفترة الثالثة التي استغرقت سنتان بدءاً من عودة الشاه إلى إيران وحتى إبعاد الجنرال زاهدي من رئاسة
الوزراء. وأخيراً الفترة الرابعة التي تبدأ عام 1955 حيث بداية سطوته التي وصلت إلى الذروة وحتى سقوطه عام 1978.
وفي تقسيمٍ أكثر عمومية، يمكن القول أن محمد رضا شاه في الأربع عشرة سنة الأولى من حكمه، لم يستطع انجاز ما أنجزه والده
في قوته وسطوته، ولكن ومنذ سنة 1955 وما بعدها، وفي قرابة23 سنة ظل يحكم إيران بقوةٍ أوتوقراطيةٍ ملكية ودكتاتورية
مستبدة[174].
إنّ الأربع عشرة سنة الأولى من حكم محمد رضا شاه كانت من أكثر المراحل إزعاجاً في الحياة السياسية الإيرانية. ففي حقبة
السنين الأولى التي كانت فيها إيران محتلة من قبل الجيوش الأجنبية لم يكن الشاه يمتلك عملياً أية قوة أو سلطة. معظم ممثلي
البرلمان الإيراني مثلاً، كانوا يُنتخبون فعلاً تحت تأثير ووصاية وتوصيات القوى المحتلة وكانوا خاضعين تماماً لأوامرها
وإرادتها في هذا الإطار. وبالإضافة إلى نشاط وفاعلية القوى الدينية ـ السياسية تحت قيادة آية اللّه‏ كاشاني ونّواب صفوي، ظهر
وجودان سياسيان آخران أيضاً:
الأول: هو الجماعة الوطنية الليبرالية بزعامة الدكتور محمد مصدّق
والثاني: حزب تودة الشيوعي.
الجبهة الوطنية كانت تُغذّى من قبل المشاعر المناهضة للوجود الأجنبي والمترشحة بسبب احتلال البلد من قبل هذا الوجود
وتدخّله في الشؤون الداخلية لإيران. حزب تودة كان يُنسّق ويتعاون مباشرة بل ويُدعم من قبل الحكومة الروسية، وخاصة في
المحافظات الشمالية الواقعة تحت احتلال الجيش الأحمر.
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ارتفعت أو رفُعت قضية تحرير إيران من الاحتلال الأجنبي، قادة الحلفاء، وفي مقابلة معهم في
طهران أثناء الحرب، كانوا أوعدوا بإخلاء إيران في غضون ستة أشهر بعد إنهاء الاعتداءات. مع ذلك، فإنّ الحكومة السوفيتية
التي حُشرت في محاولتهم وراحت تحاول الحصول على امتياز خاص لاستثمار حقول النفط الإيرانية الشمالية التي كادت أن تفقد
كل سيطرتها عليها لو سحبت جيشها من إيران، قررت تأسيس قاعدة نفوذ وقوة في المنطقة لتنفيذ هذه المهمة أو الخطة، فتمّ
تأسيس حزب شيوعي مستقل سُمّي الحزب الديمقراطي الأذربيجاني. وقبل الانسحاب العسكري المخطط، قامت هذه الجماعة، أي
هذا الحزب، بمسك السلطة في مقاطعة أذربيجان بمساعدة الجيش الأحمر.
واحد من الأرقام السياسية البارزة في بداية حكم محمد رضا شاه ومن الذين اعتُبروا منافسين سياسيين هو قوام السلطنة زاعماً أنه
قريب من الروس وواعداً إياهم بمنحهم حق امتياز في النفط الشمالي، وأخيراً، السماح بثلاث وزراء من حزب تودة في كابينته
الوزارية.نجح قوام في إقناع الروس (الذين كانوا تحت ضغط الأمريكان) لإنهاء احتلالهم لإيران، وبعد جلاء الجيش الأحمر، فإنّ
الحكومة المدعومة روسيّاً في أذربيجان سقطت في الحال.
بعد فترة قصيرة من سقوط قوام السلطنة، حصلت محاولة الاغتيال الأولى للشاه، ومع الذين قُتلوا معه، بقيت حقيقة هذا الفعل
مخفية رغم أنّ الحزب الشيوعي كان متهماً في الضلوع في الخطة أو التخطيط لها. هذا الإتهام أدّى إلى تصفيته.
وفي الأثناء، وسعّت الجماعة الوطنية ـ الليبرالية، التي يتزعمها الدكتور محمد مصدّق والتي سمّت نفسها الجبهة الوطنية ،نشاطها
مع الشعار الجديد في استعادة جقوق إيران من شركة النفط البريطانية ـ الإيرانية. وفي نفس الوقت، فإنّ حركة رجال الدين
والمتحمّسين الإسلاميين الذين يبحثون عن الحل والمخرج في الدستور والنظام الإسلاميين، كانوا شكّلوا خطراً جديداً على نظام
الشاه.
كانت حادثة اغتيال الجنرال غلام حسين رزم أرا الذي كان رئيساً للوزراء هي حادثة الإغتيال السياسية الثانية في إيران بعد
الحرب. هذه الحادثة أرعبت الشاه، ومع ذلك، ومن بعض الوجوه، فإنّه كان سعيداً جداً بهذا الحادث لأنّه أودى بحياة شخصية قوية
منافسة له. وبموت هذه الشخصية فإنّ التهديد الأكبر لقوته وسلطته قد تقلّص كثيراً بل استبُعد. لكن هذه السعادة لم تدم طويلاً لأن
الإعصار السياسي الذي اكتسح إيران بعد حادث الاغتيال قد هزّ عرش الشاه. منتهجاً المصادقة على قانون تأميم النفط، فقد كان
الشاه مجبراً على اختيار مصدّق زعيم الجبهة الوطنية وواحد من أشدّ وأبرز معارضيه كرئيس للوزراء.
مصدّق، الذي جاء إلى السلطة مرتقياً قمة المشاعر الوطنية المناهضة لبريطانية، كان على صعيد من الأصعدة المشكلة الكبرى
للشاه. فموقفه الوطني المدعوم من قبل الزعماء الدينيين ،وخاصة آية اللّه‏ كاشاني قد أزاح عملياً كافة سلطات الشاه ودفع به إلى
الخلف مؤدّياً إلى حالة ضعف ووهن في بداية حكمه. وعندما استقال مصدّق بسبب معارضة الشاه لاختياره وزير دفاع، واجهت
الملكية انتفاضة شعبية بزعامة آية اللّه‏ كاشاني في 30 تير 1331 (21تموز 1952). هذه الانتفاضة أجبرته على دعوة مصدّق
للعودة مرة ثانية بالعودة إلى وظيفته في عدة أيام.
وكالة المخابرات الأمريكية CIA وبالتعاون مع وكالة المخابرات البريطانية بدأت التخطيط لإزاحة مصدق عن السلطة، وقد أخذ
كرمت روزفلت وكيل الـ CIA هذه المهمة على عاتقه.
جدير ذكره، أنه في بداية حكومة مصدّق، كانت الولايات المتحدة وبسبب تأثير شركات النفط الأمريكية ومصالحها في النفط
الإيراني، قد تعاونت قليلاً أو كثيراً مع مصدّق ومع ذلك، وبعد أنفشلت الوساطة الأمريكية في إنهاء أو حل جدل النفط البريطاني
ـ الإيراني الذي كان يضمن مصالح أمريكا أيضاً، فإنّ الأمريكان اصطفوا هم كذلك ضد حكومة مصدق. الذي رسّخ معارضة
الأمريكان لمصدق وتدخّل الـ CIA في هذا الموضوع هو تنامي قوة حزب تودة في إيران وخطر انقلاب شيوعي محتمل في هذا
البلد.
عامل آخر ساهم في سقوط مصدّق، وهو فقدانه دعم المؤسسة الدينية والغالبية العظمى من الشعب. مع افتراض موقف مصدّق
الاتوقراطي العنيد الذي أصرّ عليه، فإنّ أولئك الذين كان بأيديهم مفتاح تصعيده للسلطة ابتعدوا عنه تدريجياً، وفي النهاية وقفوا
ضده، وهذا ما ساعد على انحداره. ومع غياب المشاركة الجماهيرية فُسح المجال أمام الإنقلاب الأمريكي لأن يتبلور ويحقق
انتصاره عليه بسهولة.
ومن أجل تنفيذ مخططاتها في إيران، اختارت الولايات المتحدة الجنرال زاهدي الذي عمل فترة مع مصدّق كوزير لداخليته.
ولتنفيذ المرحلة الأولى من هذا المخطط، دفعت الشاه لطرد مصدق من وظيفته وتعيين زاهدي رئيساً جديداً للوزراء. إلاّ أن
مصدق رفض قبول أمر إبعاده، وأخذ نفس الأمر المبيّت والصادر عن الكولونيل ناصري (أحد ضباط الحرس الإمبراطوري
الذي أصبح في ما بعد رئيس للسافاك الجهاز البوليسي السرّي المرعب) بمثابة انقلاب ضده. الشاه الذي خاف ردّة فعل مصدّق
وكان يخشى بأن اعتقاله يمكن أن يُرد عليه هرب من البلد. وهنا وضع الأمريكان المرحلة الثانية من المخطط موضع التنفيذ،
مفتعلين الفوضى وحوداث شغب وبلبلة في الشوارع، وذلك باستخدام عناصر من القوات المسلحة. حكومة مصدّق، التي حُرمت
من دعم الزعماء الدينيين، وفقدت لدرجة كبيرة، شعبيتها، أُسقطت بسهولة.
الشاه، وبعد عودته إلى إيران، وجد لنفسه مصدراً جديداً للدعم أيضاً، ومقدّراً الدور الذي لعبه الأمريكان في إعادته للسلطة،
أصبح قريباً منهم. فترة ما بعد انقلاب 28 مرداد يمكن أن تسمى بداية حقبة العلاقة الإيرانية ـ الأمريكية، وبالأحرى العلاقة
الشاهنشاهية الأمريكية. في غضون أقلّ من سنتين بعد هذا الانقلاب نجح الشاه في الحصول على تنازل أمريكي لإقصاء زاهدي
عن منصبه. إن حقبة حكم الشاه محمد رضا المطلق قد بدأت فعلاً من هذا التاريخ.
في عام 1960 وانسجاماً مع التحوّلات التي حدثت على المشهد السياسي العالمي، فإنّ الشاه هو الآخر أُجبر على تغيير أسلوبه
في الحكم. من أجل إضفاء وجهاً أكثر رائقية على وجهه المستبّد، فإنّ الشاه شجّع رئيس الوزراء منوچهر اقبال ووزير العدل اسد
اللّه‏ علم على تأسيس حزبين سياسيين متنافسين من الملّيين أي (الوطنيين) والمردوم(الشعب) على التعاقب. على الرغم من أن
كل فرد في إيران كان يعلم أن كلتا الجماعتين محكومتان لمدير واحد، فإنّ التنافس في الانتخابات البرلمانية وحرص إقبال على
الاحتفاظ بمنصبه من خلال الحصول على الأغلبية البرلمانية، أثار فضيحة سياسية كبيرة، وكان على الشاه أن يُصدر أمراً بإلغاء
الانتخابات.
أستقال إقبال من منصبه، وكانت الانتخابات البرلمانية الثانية لمجلس الشورى الوطني الإيراني العشرين قد أجريت في أوائل عام
1962. في تلك الأثناء كانت الانتخابات الأمريكية قد حُسمت لصالح الرئيس الأمريكي جون كندي، ووقفت الولايات المتحدة
على بوابة تغييرات سياسية خاصة داخلية وخارجية.
إن ميل السياسات الأمريكية باتجاه الليبرالية أثّرت على توجهات السياسة الأمريكية حيال إيران. علاقات كندي الشخصية الباردة
مع الشاه، الذي كان متهماً بانتهاج سياسة دكتاتورية خانقة سببّت بعض الاضطرابات والفوضى في إيران. وقد انتهت هذه
الاضطرابات بسقوط الحكومة آنذاك (وهي كابينة شريف إمامي) وصعود علي أميني لمنصب رئاسة الوزراء. أميني هذا كان
معتمّداً وموثَّقاً من قبل الحكومة الأمريكية الجديدة. وكان اختياره كرئيس للوزراء تحت تأثير الإدارة الأمريكية المباشرة. في حفل
رسمي عُقد على شرف الشاه أثناء زيارته لواشنطن في مايو 1962، عبّر كندي عن دعمه لأميني بتسميته وبوضوح، رئيس
الوزراء (الكفوء والمتخصص) apt and competentومع ذلك فإنّ الشاه وفي خلال العشرين سنة من حكمه، وحيث أتقن
ممارسته للعبة السياسية، نجح في سفرته تلك على حيازة ثقة الرئيس الأمريكي واقنعه بقدرته على تحمّل مسؤولية تنفيذ
التغييرات التي كان كندي ينوي تنفيذها عبر أميني. وبعد عودته من أمريكا بدأ الشاه تدريجياً يضع العراقيل أمام خطوات أميني
التقدمية، وكانت النتيجة إجباره علىتقديم استقالته من منصبه في يوليو تموز من نفس العام.
إصلاح الأراضي، كان واحداً من البرامج التي كان الأمريكان قد خططوا لتنفيذها بواسطة أميني، من ناحية أخرى، ولكي لا يُقال
إنّ الشاه صار وريثاً لحكومة أميني، ومن أجل تعزيز الثقة بأنه هو مبتكر برنامج إصلاح الأرض وبرامج إصلاحية أخرى، فإنّ
الشاه ألحق بعض الإصلاحات التي لفتت انتباه الأمريكان بما يعزز مصالحهم. وفي استفتاء صوري حاز الشاه على (
استحسانوطني)لمجموعة من الإجراءات سُميّت لغطاً «الثورة البيضاء» The WhiteRevolution.
بعد اغتيال رئيس الوزراء علي منصور، كان هناك أحد وزرائه والمدعو عباس هويدا الذي لم يكن أحد حتى ذلك الحين سمع
باسمه الا قليلاً، قد اختير رئيساً للوزراء.
إن اختيار هويدا لهذه المهمة جاء سريعاً كردّ فعل على اغتيال منصور وقد اعتبر الجميع حكومته على أنها حكومة مؤقتة، ومع
ذلك، فإنّ هويدا ذهب أكثر من سابقيه في الطاعة والخضوع لأوامر ورغبات الشاه. ونظراً لامتلاكه هذه الصفة فانه نجح في
تحمّل رئاسة الوزارة لأكثر من إثني عشر سنة، وقد اعتُبرت حقبته هذه أطول فترة في تاريخ إيران المعاصر.
ويمكن أن تسمى هذه الحقبة الزمنية كذلك بأنها أشد فترات الحكم استبداداً للشاه. الحكومة طيّعة والبرلمان يفتقد أبسط معاني القوة،
ووسائل الإعلام تحت رقابة مشدّدة، وكان السافاك يقمع أية معارضة حالاً، ولا أحد كان يجرأ على معارضة النظام.
كما لم يكن هناك الحد الأدنى من الإشارة والتلميح برفع أي صوت ناقد.
في هذه الفترة، بعض الأحداث التي كان يمكن اعتبارها نتائج لحوادث أو لظروف دولية ملائمة زادت من قدرة الشاه، كالثروة
والغرور. تدريجياً، فكرة نمت أو تسللت إلى عقله تُنبئه بأنه فعلاً مخلوق غير عادي قُدّر له أن يحمل رسالة نبوية إلى أهل
الأرض. وكان الشاه قد منح أرضية أووزناً دينيين لأفكاره الخاصة هذه والسبب أولاً:
لجعلها أكثر مقبولية وأيسر هضماً من قبل عموم الناس، وثانياً: كان يريد أن يعلن نفسه تدريجياً على إنه زعيم ديني أو يزعم
الزعامة الدينية، بينما يعرف الجميع إنه لم يكن في يوم من الأيام مسلماً حقيقياً، وانه لم يؤد أي واجب من الواجبات التي يؤديها
الفرد المسلم عادةً.
الاحتفالات المترفة والباذخة والمكلِّفة لإحياء ذكرى مرور 2500 سنة على الإمبراطورية الإيرانية والتي حملت على اعتقاد الشاه
بربط التاريخ الإيراني بفترة ما قبل الإسلام، جسّدت انشداد الرجل وطريقة تفكيره وتعاطيه مع تلك الفترة.
الارتفاع المفاجئ في واردات النفط مصحوباً مع فقدان البرنامج الاقتصادي الموائم لاحتوائه ،أوجد تحركاً سريعاً واضحاً للتقدم
في البلد. مع ذلك، وبسبب أعباء المشاريع العسكرية الهائلة والمشتريات الضخمة للمعدات الحربية، وعلى امتداد مخطط نيكسون،
بالإضافة إلى مواطن صرف طموحة مترفة أخرى، وفي نفس الوقت مشاريع لا جدوى فيها، كلّها ساهمت في خلق التضخّم
وزيادة الانحطاط والتفسخ في البلد.
وفي خضمّ هذه المنعطفات والحوادث نشأت مشاكل عويصة ومعقدّة وجديدة، كان لابدّ من التعاطي معها بجدّية.
وبما أن عمر الشاه وحكمه بدأ يهرم، فانه أصبح أكثر قسوة وأكثر عناداً وصلابةً، وراحَ تدريجياً يواصل ممارسة طريقة والده في
إدارة السلطة، فيما كانت ظروف الأخير لا وجود لها في ظرفه.وإضافة إلى ذلك أنه هو نفسه بطبيعته لم يكن بجسارة رضا خان
أو صلابته في تعامله مع المشاكل والصعاب.
من خلال تلخيص وتحليل القوة السياسية الحاكمة في إيران والتي كانت نموذجاً كلاسيكياً للسلطة السياسية في أي مجتمع ثنائي
القطب، الذي يعبِّد الطريق بشكل لا إرادي إلى التحوّل الاجتماعي ـ السياسي، يمكن ذكر العوامل النوعية التالية:
1 ـ إن السلطة السياسية في إيران كانت ترتكز حول قطب واحد لملكٍ مستبد كان يفتقد الشخصية القوية ،وكان الناس الذين حوله
غير معنيين بعمق في اتخاذ القرارات، وكانوا عملياً غير مؤهّلين ومن ذوي الشخصيات الطيّعة الضعيفة.
2 ـ كان النظام يعتمد كلياً على جيشه الخاص الذي كان مسلحاً تسليحاً ثقيلاً، كما إن ضباطه من ذوي الرتب العالية كانوا
مخلصين وموالين له بشكل مطلق. عذرهم في وفائهم وولائهم هذا هو المنافع التي جنوها من ثروة متنامية تجاوزت الحد، ورفاه
أو ترف غير محدود كانوا يتمتعون به. بالطبع، لم يُختبر هذا الجيش على الإطلاق في معركةٍ تبرهن على إخلاصه أو كفاءته.
3 ـ كان البوليس السري المرعب السافاك يخنق أي صوت معارض، وذلك باستخدام أسوأ أنواع الإرهاب والتعذيب.
4 ـ اعتمد النظام في وجوده على إقناع وإرضاء القوى الأجنبية، وخاصة الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى.
5 ـ الفساد والرشوة غطت كلّ أوجه النظام الإداري، كما إن التضخم وبيروقراطية النظام حالتا دون قدرته على تنفيذ مهماته
الروتينية.
6 ـ مع ارتفاع أسعار النفط، تنامت قدرة النظام الاقتصادية والمالية بشكل واضح، إلاّ أن الحاجة إلى برنامج اقتصادي وتنموي
واقعي زادت من السخط أو التذمر الشعبي ضده.
7 ـ انتقلت القوة السياسية أو نُقلت من أيدي الناس، وسُحبت كذلك من أيدي المنظمات الاجتماعية، كما أن النظام لم يُعِر أي
اهتمام لكسب التأييد الجماهيري لحكومته. الشيء الوحيد المرغوب كان حاجة الناس لمعارضة النظام الحاكم الذي تسنّم السلطة
عبر الإرهاب والتعذيب.
8 ـ آخذون بنظر الاعتبار عدم كفاءة السياسيين وسيادة القرارات الخاطئة التي أُلصقت بشكل رئيس بشخص واحد، فإنّ النظام
السياسي لم يكن قادراً على حلّ أبسط المشاكل الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية.
9 ـ كان النظام يعتمد بكثافة على الدعاية، والمزاعم وإقامة الاحتفالات والمناسبات الباذخة من أجل تلميع صورته في الداخل
والخارج.
10 ـ تجاهلَ النظام القيم الاجتماعية والتعاليم المتجذّرة للدين، وحاول بكل وسيلة تقليص دور هذه القيم واستبدالها بأخرى غريبة
على المجتمع.
في أجواء هذه الظروف بدأت الوجودات الاجتماعية تيأس من النظام السياسي للبلد وراحت تتكتل خلف قياداتها، وبهذا تمّ إيجاد
قوى اجتماعية بالغة القوة كان لها الدور الأول، وفي اللحظة المناسبة، لتعجيل سقوط النظام.
القوة الجماهيرية:
القوة الاجتماعية والمذهبية تنشأ من إرادة وتصميم الشعب الذي يعيش في مكان محدّد على قاعدة ثابتة من سلسلة مصالح وقيم
مشتركة. لا تستطيع أية أمة أو جماعة البقاء أو توسيع البقاء بدونها. الأمة بلا قيم لا تتمكن من تحمّل المسؤولية وأنها تستسلم
وتنتهي بسرعة. القيم المشتركة يمكن أن تكون ذات طبيعة مادية أو روحية. مع ذلك، وبشكل طبيعي لا مناص منه، إن أي مجتمع
يُبتنى أو يتأسس على قيم مادية بحتة أو مصالح فقط، لا يفتقد الاستقرار الذاتي وحسب، وإنما يكشف عن ضعف أو خواء يجعلاه
غير قادر على الدفاع عن نفسه ضد الأخطار المحتملة.
شريحة كبيرة من المجتمع وخاصة عوام الناس والفقراء وأهل القرى المحرومين وسكان المدن الأوفياء لعقائدهم الدينية الذين
شعروا بالخطر على معتقداتهم، حولّوا اهتماماتهم من النشاط الاجتماعي أو السياسي وطلبوا ملاذاً في أبعاد محدّدة للدين مثل إلفات
النظر إلى النفاق أو الرياء عند البعض، وتبنّى العزلة والسكوت عند بعض آخر، والوقوف بلامبالاة تجاه الأحداث الاجتماعية
عند صنف ثالث. مجموعة صغيرة جداً من الناس وأغلبهم أولئك المنحدرين من خلفية أكاديمية والذين لم يستطيعوا البقاء غير
مبالين حيال ما كان يحدث في أوساطهم، جسّدوا ردود فعلهم في طريقين: مجموعة، وبسبب علاقاتها مع المجتمعات الغربية،
وخاصة المثقفين الأوربيين لاحظوا التقدم العلمي والصناعي في تلك المجتمعات وانبهروا بترفها المادي، اعتقدوا أن الطريق
الوحيد لحل مشاكل إيران واللحاق بتلك المجتمعات هو التخلّي عن قيمهم الدينية والثقافية وبناء مجتمع جديد يقوم على أسس
معاصرة وقيم غربية.
هذه الشريحة قُسّمت إلى مجموعتين رئيسيتين: الأولى كانت متأثرة بالليبرالية الغربية والثورة الفرنسية معتقدة بتعقّب المجتمعات
الغربية والسير خلفها. ووفقاً لـ تقي زادة، أحد روّاد هذه النظرية «على المرء أن يكون متغرّباً من قمة رأسه إلى أخمص قدميه
لكي يصل إلى السعادة والراحة والتقدم الذي أحرزته المجتمعات الغربية». أعضاء من هذه المجموعة كانوا ينتمون مبدأياً إلى
سكان المدن الأثرياء الذين تهيأت لهم الفرص للاتصال مع المجتمعات الغربية أو أرسلوا أولادهم إلى أقطار الغرب لغرض
التعليم العالي.
والأكثر أهمية أن هؤلاء وجدوا الليبرالية الغربية أكثر مواءمة لهم أنفسهم.
المجموعة الرئيسية الثانية التي كانت تتكون أيضاً من الشباب المثقفين والمتحمسين الذين أغاضهم فقدان العدالة وشيوع الظلم في
المجتمع الإيراني، وفي بداية القرن، وتحديداً بعد انتصار الثورة الروسية عام 1917 ،وحين كان هؤلاء على اتصال مع جيرانهم
الروس وكانوا متأثرين بالماركسية ـ اللينينية قاموا بتأسيس الحركات اليسارية في إيران.هذه الجماعة، وبجانب رفضها للقيم
التقليدية الحاكمة في المجتمع لاسيما المعتقدات الدينية، فقد كانت تحاول إقامة مجتمع اشتراكي على غرار ذاك القائم في روسيا.
ولهذا الهدف، قاموا بالدعوة إلى الأفكار الإلحادية والمادية الموجودة في الماركسية (والمطبّقة في الاتحاد السوفياتي السابق).
ومع ذلك، ظهرت مجموعة ثالثة متشكّلة على الأغلب من رجال دين وزعماء دينيين، عزوا تخلّف مجتمعهم لا إلى إتّباع الناس
القيم الإسلامية، وانما بالتخلّي عنها وتركها جانباً. إنهم كانوا يعتقدون أنّ المجتمعات الإسلامية، ورغم أنها تحتفظ بالمظهر العام
للدين، إلاّ إن هذا الدين فُرّغ من جوهره الحقيقي. هذه النظرية كانت عُمّقت من قبل حركة السيد جمال الدين الأسدآبادي التي
أكدت بأن الطريق الوحيد أمام المجتمعات الإسلامية، وبالأحرى الأمة الإسلامية هو بالعودة إلى الإسلام. وقد بذل أنصار هذه
الفكرة جهوداً كبيرة لتحقيق هذا الهدف الذي بلغ ذروته في حركات تأميم التبغ والنفط والدستورية، ومن بينروّاد هذه الأفكار ،بعد
السيد جمال الدين ،يمكن تسمية الشيخ فضل اللّه‏ نوري والسيد حسن مدّرس وآية اللّه‏ كاشاني ونواب صفوي.
والآن ومن أجل فهمٍ أفضل للقوة الاجتماعية في الأمة الإيرانية، من الضروري إجراء مراجعة موجزة لتركيبة الشعب الإيراني
من وجهة نظر اجتماعية.
الوضع الاجتماعي في إيران قبل الثورة:
في فجر القرن الجاري كان القسم الأكبر من الشعب الإيراني يتألف من سكان القرى الذين ينتهجون غالباً نمط الحياة القبائلية.
كانت القبائل تشكّل قرابة الـ 25 % من سكان البلد. في عام1911، وفي المراحل الأولى من الحركة الدستورية، بلغ مجموع
سكان إيران حوالي 10 ملايين نسمة وقد سكن ما يقارب الـ 20 % منهم في المدن التي كان عدد القاطنين في كل واحدة منها يبلغ
حوالي 5000 فيما كان عدد نفوس طهران 000ر200. ويشكّل هذا الرقم 2% من إجمالي سكان إيران.ومع ذلك فقد كان تزايد
عدد سكان طهران سريعاً حيث وصل عدد قاطنيها إلى أكثر من مليون، والى ما قبل الثورة كان عدد نفوسها أكثر من خمسة
ملايين نسمة.
هذا النمو السريع لسكان المدن يعود بشكل رئيسي إلى السياسة غير السليمة المملاة من قبل النظام البهلوي. وهذا ما سبب تدمير
حياة الريف والقرى وجاء نتيجةً، لهجرة أبناء الريف إلى المدن الكبيرة مثل طهران. وبهذا وفي عام 1978 بلغ عدد سكان المدن
أكثر من 20 مليون أي متجاوزاً رقم سكان القرى.
إن ظروف حياة القرويين مقارنةً بسكان المدن كانت تماماً غير مرغوب فيها.
فالإيرانيون في القرى يسكنون في بيوت مبنية بالطين والآجر، وقد بيّن إحصاء عام 1976 بأن هناك حوالي 65000 قرية في
إيران، كان سكان 18000 فقط من هذه القرى يشكلون نسبة 25% ،وهذا يشير بأن الشعب الإيراني واحد من الشعوب المشرّدة
المنتشرة في العالم.
إن التخلّف والحرمان وتمزيق القرويين الإيرانيين إلى تجمعات صغيرة أوجد ظروفاً صعبة لا يمكن تحمّلها. النسبة العالية من
الأميّين والموتى بين سكان القرى هو النتيجة الطبيعية لمثل هذه الظروف. في عام 1974، كان هناك 39% فقط من أطفال
الريف هم الذين استفادوا من عمر المدرسة للدخول إلى المدارس التربوية المدعومة من قبل الحكومة. نسبة أطفال المدن بلغ أكثر
من 90%. القرويون وعلى امتداد قرون كانوا يعيشون تحت الاضطهاد المستمر واستغلال ملاّك الأرض وجور الحكام
المستبدين.
وبذلك، فإنّ الطغيان والضغوط من قبل وكلاء الحكومة جعل القرويين لا يستشعرون أو لا يضمرون إلاّ سوء الظن والكراهية
والخوف تجاه الحكومة ورجالها.
إنهم حسبوا أن موظفي الحكومة ليسوا أكثر من مجرّد مرتشين وطلاب أتاوات وموزّعي مفاسد، وليس على الإطلاق عناصر
خير تمنحهم الحماية والأمان.
حتى أوائل الستينات، كانت إيران مكتفية ذاتياً في مسألة توفير الطعام والغذاء، وكانت قادرة بدرجة ما على سدّ نواقصها من
الواردات الأجنبية بتصدير القطن والفواكه والجوز، ومع ذلك، لم تمضِ فترة طويلة على تنفيذ قانون إصلاح الأراضي للشاه،
الذي جرى إعداده من قبل الحكومة الأمريكية في حقبة كندي، حتى أصبحت إيران تعتمد في غذائها على الواردات.ومع هذا، وفي
مخطط لمسح الأرض تمّ إعداده من قبل الخبيران الأمريكيان مورسون وكنودسون، حول خيار إيران في التطور، كان ممدوحاً أو
مصوباً أن يركّز البلد أغلب نشاطاته على تحسين الزراعة. إلا أنّ الشاه في عام 1962، وتنفيذاً للسياسة الإمبريالية لنفس
الحكومة الأمريكية، دمّر الزراعة في إيران ليبني على أنقاضها الصناعة المؤسساتية المستقلة المزعومة.
في عام 1973 وعندما زادت واردات النفط الإيرانية بشكلٍ سريع لم يزد الاستثمار في القطاع الزراعي عن نسبة 8% من
الدخل القومي.
ونتيجة لبرنامج إصلاح الأرض المزعوم هذا، وتدمير الزراعة واتّساع ظاهرة الهجرة إلى المدن والسكن فيها، فإنّ القرويين،
وعلى أمل العثور على فرص عمل مناسبة، راحوا ينهمرون على المدن فأوجدوا طبقة اجتماعية جديدة من عمال الأجور
اليومية.
هؤلاء الناس الذين هاجروا إلى المدن بمفردهم كرجال تاركين زوجاتهم وعوائلهم في القرى، اصطدموا بالحياة المدنية ذات الثقافة
الغربية الغريبة عليهم. وبقصد الحصول على الأموال وتأمين لقمة العيش، كان عليهم أن يشتغلوا في البنايات والعمارات الضخمة
القريبة من الفلل والقصور العصرية المترفة المنيفة، التي كانت أرقام كلفتها ترتفع إلى السماء. إن دخولهم بدأت كبيرة وجيدة، إلاّ
إنها كانت تُستنزف مع ارتفاع نسبة التضخم الفاحش.
مع بداية عام 1976، بدأت برامج البناء تتقلص، وذلك بسبب انخفاض واردات النفط. نتيجة لذلك أصبح الكثير من العمال
فائضين. وما دام وضع الزراعة سيئاً جداً هو الآخر، فلم يكن لديهم أي تصوّر بالعودة إلى قراهم.وبلحاظ الخلفية الدينية لمعظم
هذه الطبقة من الشباب ،وفي بداية الحركة السياسية الثورية في المدن، فإنهم كانوا في قلب النضال الشعبي، ليصبحوا بعدئذ أداة
الوصل الطبيعية بين المدينة والقرية في هذا النضال.
إنّ عناصر التذّمر الاجتماعي التي منحت خلفية عميقة للثورة عديدة ومتنوعة منها: إهمال القيم الدينية، عدم الاهتمام بنداءات
رجال الدين ومطاليبهم، انتشار الرذيلة والفساد الأخلاقي ،تجاهل الأعراف العامة ،توظيف البهائيين والصهاينة في مواقع حساسة
في أجهزة الدولة، وهيمنة هؤلاء على الاقتصاد الاجتماعي، تبديل التقويم الإسلامي والعودة إلى القيم والتعاليم التي كانت سائدة
قبل الإسلام والدعاية لها وإقحامها في بعض البرامج أو الترويج لها، كلها كانت عوامل مهمة سبّبت جرحاً عميقاً للمشاعر الدينية
للمجتمع الإيراني.
يُضاف إلى هذه العناصر، الحضور الكبير للأجانب وخاصة الأمريكان، والنقص الواضح في الخدمات الاجتماعية، وزيادة
البطالة، أي تناقص استخدام الطبقات الوسطى والدنيا، واتساع الهوّة بين الأثرياء والطبقات الأخرى في المجتمع.
هذه العوامل التي ساهمت في زيادة انكفاء الشعب عن النظام السياسي وكذلك عدم قدرة السلطة السياسية على توفير الحدّ الأدنى
من حاجات ومتطلبات الناس، فتحت الطريق أمام تحوّل جذري في النظام الاجتماعي ـ السياسي الإيراني. فلم يعُد يوجد هناك
سوى نفر قليل ممن يشك بأن الاحتفاظ بهذا الوضع ممكن أن يدوم فترة طويلة.
بطبيعة الحال، لا ينبغي أن ننسى أنه على الرغم من زيادة الهوّة بين أبناء المجتمع الإيراني والنظام السياسي الحاكم، فإنّ الشاه ما
زال يساهم في إيجاد ظروف أفضل لما يخص الاقتصاد والعسكر والشؤون الدولية. وكان هذا نتيجة ارتفاع أسعار النفط في أوائل
السبعينات.إذ أن دخل الحكومة قد تضاعف عدة مرات عما كان عليه قبيل انتصار الثورة، وأصبح النظام معروفاً بأنه واحد من
أهم الدائنين الكرام بين الدول الغربية وأقطار العالم الثالث. وفي سياق منهج نيكسون واختيار الشاه كشرطي للمنطقة، تمّ توفير
ضغوط استثنائية لتقوية وتعزيز الجيش الذي كان أداة الشاه الرئيسية في القمع والإمساك بالسلطة.
وأخيراً، وفي إطار أجواء دولية للتفاهم بين القوى العظمى العالمية، شاركت حكومة الشاه بكل أنواع الدعم المادي والمعنوي لكافة
القوى المؤثرة والفاعلة في العالم، شرقية كانت أو غربية. ومن الطبيعي إنّ مواجهة مثل هذا النظام، الذي كانفي قمة سطوته،
وتوفير أرضية سقوطه كانت تحتاج إلى قوة هائلة ينبغي البحث عنها في العناصر الثلاثة الضرورية للثورة.
وبلحاظ النقاشات السابقة، ينبري أمامنا هذا السؤال: لماذا أو لأي سبب يمكن أن ينتهي التحوّل في الوضع القائم بالثورة؟ ورغم
كل الجهود التي بُذلت، فإنّ الإصلاح الاجتماعي ـ السياسي لم يستطع حلّ مشاكل ومعضلات المجتمع الإيراني، بل على العكس،
انه أوجد ثورة تاريخية عظيمة، وهذا ما سوف نناقشه في الفصل اللاحق.
عناصر انتصار الثورة الإسلامية:
عندما يصبح المجتمع ثنائي القطب، وعندما تنكمش إمكانية علاج الأوضاع وتقريب الفجوات بين القوى السياسية والقوى
الاجتماعية، حينئذ يكون التغيير الاجتماعي ـ السياسي أمرٌ لا مفرّ منه.
وكما جاء التحليل في الفصل السابق، أنّ السلطة السياسية الحاكمة في إيران كانت معزولة عن‏المجتمع الإيراني، وهذا ما ازدادت
وتيرته في السنين الأخيرة من عمر النظام. قليلون هم الذين كانوا يشكّون بأن النظام السياسي الحاكم فوق المجتمع الإيراني
يستطيع، وفي ظل الظروف الحالية، أن يقرّب الهوّة بينه وبين المجتمع، إذ لمْ يعد النظام يمتلك القدرة على تغيير أو تحسين
كفاءته، ولا الشعب قادراً أو مستعداً لأن يخضع أكثر أو يسلّم أكثر، أو يقبل الحكومة ويضع أدنى أملٍ فيها.
وبهذا، فقد وصل المجتمع الإيراني إلى لحظة الانفجار وللحدّ أن أي حادث صار يمكن أن ينسف الوضع القائم من أساسه ويلخبط
الوضع الروتيني العادي فيه. إن أي جهد لعلاج الجروح الموجودة وتقليل الفجوة بين الناس والنظام السياسي لم يعد فيه أي
جدوى، ولم يبقَّ هناك مجال لخداع الناس. وهنا أعلن الشاه مرة قائلاً: «إذا لم يستطع نظام الحزب الواحد (حزب راستاخيز) ان
ينجح، فلا أمل حينئذ بإعادة النظام إلى الحياة أو إعادة الحياة إلى النظام».
ومع ذلك، يبقى السؤال المهم القائم هو: لماذا لم تُدرَك الثورة في إيران أو تُعرف، في الوقت الذي تحصل في العالم حولها أشكال
مماثلة من التحولات الإجتماعية ـ السياسية كل يوم؟ ضمن مقارنة مختصرة مع الثورات العظيمة في العالم في القرن الحاضر،
يُلاحَظ بأن انتصار الثورة الإسلامية حدثت في ظروف، كانت فيها الظروف الدولية، من وجهة نظر عسكرية سياسية، ليس فقط
غير مستعدة لدعمها أو تأييدها، بل كانت هناك جهود لخنقها أو قمعها.
الثورتان العظيمتان في القرن الحاضر اللتان حدثتا في روسيا والصين حصلتا في ظل ظروف اقتصادية قاهرة وظروف سياسية
واجتماعية مناسبة لإيجاد مثل هذه الأحداث. فثورة أكتوبر الروسية التي انتهت بانتصار عام 1917 لم يكن انتصارها ضمن
نضال سياسي ضد قوة سياسية، ولا في دحر جيش روسيا لامبريالية ولا في حل النظام الحاكم، لأن هذه جميعها كانت ضعفت
وأقرب إلى الانحلال بسبب تداعيات الحرب العالمية الأولى. الشيء الوحيد الذي فعله الثوار هو أخذ زمام المبادرة في السيطرة
على المجتمع الروسي في جوّ من الفوضى والارتباك وفقدان النظام.
حكومة الكومنتانك في الصين فقدت قوتها هي الأخرى في الحرب العالمية الثانية نتيجة الهجمات الأجنبية على الحكومة
المركزية. ماعدا مقاطعة بيجنع وضواحيها لم يكن للحكومة أية سيطرة على البلد. وبذلك لم تكن هناك أية عوائق معتبرة ضد تقدم
القوات الثورية التي كان يقودها ماوتسي تونع ليفرض سيطرته على البلاد.
وكما ذُكر سابقاً، أنّ الظروف الدولية وقت انتصار الثورة الإسلامية، وخلاف ظروف ووقت الثورتين المذكورتين، لم تكن مهيئة
لمثل هذا الحدث الكبير.
القوى العظمى وصلت إلى اتفاق سلام دولي، وأسست منظومة إمبريالية عالمية منسجمة. يُضاف إلى ذلك أنّ هذه القوى الكبرى
كانت على اتفاق كامل لحفظ الأوضاع الدولية كما هي، وخاصة بلحاظ المصالح والمنافع التي حققتها حكومة الشاه لكلتا القوتين
العظميين ،إذ إن كليهما دعما نظام الشاه حتى آخر يوم من وجوده وبالحدود التي كانت تحت إمكاناتهما وقدراتهما.
كان الشاه كذلك معتمداً على جيش ضخم قوامه 000ر700 رجل كانوا مسلحين بأحدث أنواع الأسلحة.في ظل هذه الظروف
المحلية والدولية انتفضت الأمة المسلمة في إيران ضد الملكية وحققت نجاحها دون استخدم السلاح.
لمعرفة وفهم أسباب انتصار الثورة الإسلامية، هناك نقطتان مركزيتان يجدر أخذهما بنظر الاعتبار وهما:
1 ـ الخلفية التاريخية لكفاح الشعب الإيراني:
إن أبناء الشعب الإيراني، وخلال القرن الأخير، بذلوا جهوداً مستمرة ومضنية ضد النظام السياسي الحاكم بالطريقتين الإصلاحية
والمحافظة، وعلى الرغم من اكتسابهم خبرة كافية، إلاّ أنهم عملياً واجهوا هزائم مرّة جداً. حركة التنباك، وحركة تأميم النفط اللتان
استهدفتا إنهاء هيمنة الأجانب، انتهتا أخيراً في الانقلاب الأمريكي ـ البريطاني في 28 مرداد (آب 1053) وتكريس حكم الشاه
المستبد وزيادة تحكّم الأجانب بمصير المجتمع الإيراني. ما يُسمّى بالتجارب التاريخية برهنت إنه ما لم تُقطع جذور النظام
السياسي الحاكم وتُجتثّ من قبل الحركات الثورية ومعها الفساد السياسي ويؤسَّس نظام جديد بديل يرتكز على قيم الناس
وأفكارهم، فإنّ من المحتمل أن تتمكن بقايا النظام القديم المتهرّئ‏ من اكتساح وابتلاع كافة الإنجازات التي حققتها حركة الأمة.
وبهذا، فإنّ كافة الضغوط المستخدمة ،من داخل البلد وخارجه ،لفرض صلح معين أو اتفاق محدد لم تترك أي شك عند الناس في
أنّ على قيادة التحرك أن تُدرك أنّ الأهداف الكبرى لا يمكن تحقيقها إلاّ بإقامة حكم إسلامي.
2 ـ حضور العناصر الثلاثة الضرورية المؤدّية للثورة:
إن حضور العناصر الثلاثة وفي انسجام كامل ووقت واحد، كانت سبباً للثورة الإسلامية الإيرانية ،وهذه العناصر هي: الشعب
والقيادة والأيديولوجية.
أ ـ الشعب :
بإمعان النظر في الثورات العظيمة المعاصرة التي حدثت في العالم، لا يستطيع المرء أن يجد أية ظاهرة بنفس السعة والشمول
التي وجُدت أو تجلّت فيها ظاهرة الثورة الإسلامية في إيران.ففي الثورة الفرنسية كانت برجوازية المدينة وأبناء العاصمة هم
الذين نهضوا وأسقطوا النظام البوربوني. وهذا هو سبب تسميتها بـ (الثورة البرجوازية).
في الثورة الروسية، كانت هناك إضرابات العمال في مصانع بتروگراد، وجنباً إلى جنب مع مجموعة من الجنود من مدينة
كاريسون، وكلهم هم الذين تمكّنوا من قلب حكومة القيصر. في الصين كذلك كان هناك الفلاحون وعمال الأرض المزارعون
الذين قادوا النضال وحسموا الجزء الأكبر من الصراع مع السلطة، وبهذا عُرفت الثورة الصينية بأنها (ثورة الفلاحين).
بينما في إيران، وباستثناء قلة قليلة جداً ممن كانت لهم علاقة وثيقة مع نظام الشاه ويعتمدون عليه والذين ارتبطت مصالحهم
ومنافعهم المادية بوجوده، فإنّ الجماعات الأخرى والطبقات الاجتماعية بمن فيهم الفلاحين، العمال، رجال الأعمال، موظفي
الدولة، طلاب الجامعات والمدارس في المدن والقرى في كافة أنحاء القطر، كلهم انتفضوا وفي انسجام كامل دون الحاجة إلى أي
تحالف أو اتفاق أو ائتلاف على المطالب المختلفة للجماعات المتباينة. لقد وقفوا جميعاً وقفةً واحدة وأنشدوا نفس الشعارات.
وبالأساس، أنّ الحركات الثورية للجماهير عبرّت وبقوة عن إرادة وتصميم كاملين. في التاريخ البشري، مَواطن قليلة مثل هذه
يمكن العثور عليها. لقد صار موروثاً سياسياً حيث راح الفلاسفة ورجال القانون يُحللّون ويكتبون ويعملون على ضوء برنامج هذه
الثورة ومنظومتها، كان لهذه الإشارة بُعداً نظرياً أقل إلفاتاً للنظر، وكما وضعه ميشيل فاكولت قائلاً: «مثل اللّه‏ أو الروح ربما لا
تُرى بالعين على الإطلاق». ومع ذلك، ففي طهران وفي عموم إيران ،لوحظ أن هذه ظاهرة أمة تتحرك بأجمعها كأنها شخص
واحد باقية وستبقى وتُسجّل كملاحظة تاريخية لافتة لا يمكن محوها من ذاكرة الأجيال.
وبهذا، تشكّل اتحاد مفاجئ أو إئتلاف غير معلن لم يحصل في تاريخ الأمة الإيرانية وكان مرتكزاً على مشاعر دينية قوية بحتة.
نعم، جرى هذا التشكيل جنباً إلى جنب مع ما كانت تعانيه الأمة، من سيطرةٍ الأجانب وتدخّلهم في الصغيرة والكبيرة ونهْبهم
للثروات الطبيعة مع تبعية واضحة للسياسات الأجنبية، وتدخّل فاضح من قبل أمريكا في الشؤون الداخلية لإيران.
التهبت المشاعر مؤكّدةً إرادة الأمة، ليس في رفض هذا الواقع المرّ فحسب، وإنما في رفض القيم السائدة التي حكمت أو تحكّمت
بالقدر السياسي للشعوب منذ قرون طويلة وكانت سبباً لمصائب وكوارث. إن هذه الوحدة الوطنية لم تكن نتيجة أي إئتلاف
لجماعات سياسية مختلفة، كما لم تكن حصيلة أي تكتّل لجماعات اجتماعية بعينها، إذْ كانت كل الجماعات مستعدة للتضحية
ببعض أهدافها من أجل التشبّث بأية تسوية أو حلّ وسط عند الاختلاف.
على الرغم من أن الحركة الثورية في إيران كانت مبنية على قيم ومثُل الفكر الشيعي، إلاّ أن أبناء السنّة (العقائديين) أي المتدّينين
دعموا الثورة وشار كوافيها. علّق فوكولت على حوار له مع أحد أبناء كردستان قائلا: «عندما سألته عن مساهمته في الثورة رغم
وجود الخلافات الدينية والقومية، أجاب: صحيح إننا نعتقد بالمذهب السنّي، ولكننا مسلمون قبل كل شيء)، وبعدها أردف قائلا:
«لماذا فعلناها؟ انه شيء واضح، إننا قبل كل شيء إيرانيون وكلّ واحد منا له سهم في المشاكل والشؤون الإيرانية. نحن نريد
الشاه أن يغادر، يعيش الخميني، يسقط الشاه». فالشعارات في كردستان كان هي نفسها فيطهران ومشهد.
إنّ الذي طبع عُمق وحدّة الثورة في إيران عاملان أساسيان هما: الأول: هو تصميم الشعب الذي تشكّل سياسياً ولم يُعد أحد يشك
في ذلك، ولا حتى الأعداء أو الشاه نفسه، والثاني هو إرادة الشعب وإصراره على إجراء تغيير سياسي وجذري في المنظومة
الاجتماعية السياسية والقيم الحاكمة في المجتمع.
ولكن العنصر الأكثر أهمية هو دور المؤسسة الدينية وعلماء الدين في تنظيم وقيادة الحركة الثورية، وهذه بحاجة إلى نقاش. إن
الزعامة الدينية في إيران وخاصة المؤسسة الشيعية تمتلك خصوصيات معينة كان لها الدور الأكبر والأكثر تأثيراً في إدارة
وتنظيم الأحداث.
1 ـ البنية الاجتماعية للمؤسسة الدينية:
إنّ الأغلبية العظمى من رجال الدين ينحدرون من الطبقات الفقيرة والمحرومة في المجتمع الإيراني ومعظمهم من أبناء القرى.
وبهذا فإنهم أدركوا معنى الألم والحرمان لعموم الناس، وإنها نشأة معهم. على النقيض من ذلك، الطبقة المتعلّمة والمثقفة، الذين
أوجدوا في العديد من الحركات الاجتماعية ـ السياسية التي تزعموها في الكفاح الوطني، طبقة نخبوية بثقافة محدّدة خاصة بهم،
وراحوا تدريجياً يفصلون أنفسهم عن عموم الناس، إذْ تراهم في الأعم الأغلب يفقدون علاقاتهم الروحية مع الشعب. أما رجال
الدين، فإنهم لم يفقدوا علاقاتهم الروحية والثقافية على الإطلاق.
2 ـ الاستقلال الاقتصادي لرجال الدين الشيعة:
على عكس رجال الدين السنّة الذين تستخدمهم الحكومة كموظفين، فإنّ المؤسسة الدينية الشيعية ورجالها يتمتعون بالاستقلال
الاقتصادي بعيدين عن النظام السياسي الحاكم، ويعتمدون في معيشتهم على الأموال التي يستلمونها باسم الضرائب الدينية
الخاصة التي يدفعها المسلمون المؤمنون. ومن الطبيعي إن هذه الاستقلالية الاقتصادية عن النظام السياسي، والاعتماد على
الشعب في توفير المعيشة، ساعدا رجال الدين الشيعة كثيراً لانجاز نشاطاتهم الدينية ـ السياسية بحرّية بعيداً عن القلق والهواجس،
ووّفر لهم الوقت والجهد للاهتمام بحاجات ومطاليب الناس.
وهنا، من الضروري أن نذكر نقطتين فقط: الأولى، أنّ رجل الدين حاول غالباً أن يعيش حياة بسيطة بدون أي ترف أو بذخ،
وهذه وحدها كانت سبباً لحرية رجال الدين وبنائهم الروحي والمعنوي. الثانية، إن مؤونتهم في معيشتهم لا تعتمد على الأثرياء
وإنما في الغالب على الطبقات الدنيا والوسطى في المجتمع، الذين، وبحكم أيمانهم بإشراف العلماء على النظام والقانون ورقابتهم
الدينية، يرون أنفسهم ملزمين بأداء الواجبات الدينية والحقوق.مثل الخمس والزكاة والنذور والصدقات وغيرها، وتوفيرها
لمتطلبات رجال الدين المحدودة.
3 ـ تأسيس العلاقات:
مثل الاجتهاد، إن بذل الجهد والسعي الجاد لفهم معاني الدين الحقيقية وقوانينها وضوابطها لا تزال تحتل بُعداً عملياً في الإسلام
الشيعي، وهذه لوحدها لا تساهم في تيسير أو تسهيل النمّو المستمر للفقه الشيعي وحسب، وإنما أعطت الاجتهاد والتقليد أهمية
خاصة ولافتة.إن أي مسلم لابد له أن يكون هو نفسه منظّراً متخصصاً أو منسجماً متطابقاً مع فكرة فقيه متخصص مطلق يُعرف
بـ (المجتهد) كمرجع، أو مرجعاً دينياً كان طبع كتاباً عملياً يسمى (الرسالة العملية).من الطبيعي أن ليس كل الناس ومن مناطق
مختلفة قادرين على الاتصال المباشر مع السلطات المرجعية العليا (أي المرجعية الدينية).لذلك، فإنّ رجل الدين يلعب دوراً مهماً
في نقل الأفكار والآراء الفقهية، وبدون الحاجة إلى رتبة خاصة.فهم إذن يحملون رسالة مهمة وهي نقل أو إيصال أفكار وفتاوى
السلطات الدينية المرجعية هذه إلى أبناء الشعب. أنهم يترجمون فتاوى ومواعظ وأحكام الفقهاء المتخصصين في المساجد،
وبالمقابل يعكسون مشاكل الناس وتساؤلاتهم إلى القادة الدينيين.
مقدّراً دور المساجد ورجال الدين في كفاح الشعب الإيراني، كتب گراهام قائلاً:
«الحقيقة أن رجال الدين الشيعة في إيران يعيشون بين الناس، ولديهم علاقات وطيدة معهم، وهذا يعني إنهم أكثر إحساساً من
غيرهم بمشاعرهم وأحاسيسهم. المسجد يُعتبر جزء لا يتجزأ من حياة الناس كما هو البازار (أي السوق) بالنسبة لعامة الناس،
حيث يُعتبر المركز في حياتهم العادية.وعندما يعارض علماء الدين سياسة الحكومة، فإنّ أفكارهم لها من الشرعية والتأثير بحيث
يجري تنفيذها من قبل الناس في جميع الظروف وأكثرها حدّة ودكتاتورية. في هذه الأثناء توفّر شبكة العلاقات العامة والمسجد
الإمكانية والقدرة لهم على الاتصال بجميع الناس».
انه من وسط هذه الجماعة من رجال الدين السياسيين، ظهر قائد الثورة الإسلامية في إيران سماحة آية اللّه‏ الإمام الخميني.
ب ـ القيادة:
هنا، سوف لا نناقش ماذا فعله قائد الثورة، وإنما سنتحدث عن ماذا كان؟ وأيّة ملامح وخصائص كانت لديه، إن أي شخص التقى
الإمام شخصياً، يُدرك أنّ هذا الرجل كان إنساناً نموذجياً ،مع كل ما تمتلكه الشخصية المقدسة من خصائص وصفات. إنّ مجموعة
من صفات روحية وآلهية موهوبة وأخرى سياسية وعقلية وأخلاقية وضعت هذه الشخصية الاستثنائية في موقعها لأن تلعب هذا
الدور العظيم في تاريخ إيران المعاصر. نعم، أنّ قوته وقدرته، قد فاقت بلا شك، بعدة أضعاف قدرات وإمكانات أولئك الكبار في
المرجعية الدينية العادية ونفوذهم العالي. انه كان بكل المعاني، نموذجاً فريداً للشخص المتكامل في فهمه لنفسه والتحكّم بها (كمسلم
حقيقي). حتى غير الإيرانيين من مسلمي العالم وجدوا فيه النموذج الأعظم للرجل المثالي في الإسلام.
نعم ومع ذلك، انه وبامتلاكه هذه الصفات، وبلحاظ كونه الرجل الذي استطاع في دقائق قليلة إخراج ملايين الإيرانيين إلى
الشوارع في مظاهرات جماهيرية حاشدة، لكنك حين تنظر إلى مكان عمله وسكناه، لا ترى شيئاً أكثر من البساطة والهيبة. لقد
تعوّد الجلوس على الأرض خلف طاولة صغيرة، هي الشيء الوحيد الذي تراه في غرفة عمله.
أحد الصحفيين من مراسلي الصحف التركية غير المتدينين، وقبيل انتصار الثورة الإسلامية، كغيره من العديد من المراسلين
الذين كانوا يذهبون لزيارته وإلقاء عدد من الأسئلة حول حقوق الأقلّيات وحقوق المرأة وأمثال ذلك، كان ذُهل تماماً بشخصية
الإمام بحيث لم يستطع حياءً إثارة الأسئلة التي كان ينوي إثارتها، ولذلك فقد بقي صامتاً، ولكن السؤال الوحيد الذي آثاره هو في
ما إذا كان الأمام يوصيه بعض الوصايا تنفعه في حياته الخاصة، فأوصاه بان يدرس الإسلام ويؤدي صلاته اليومية وما إلى ذلك.
واحدة من الملامح اللافتة حول الإمام أن شخصيته القيادية ودوره السياسي في الثورة التي لا نظير لها في التاريخ كانت عتّمت
على موقعيته كسيّد جليل وفيلسوف وحكيم.
لقد جرى الاعتقاد من قبل مسلمي العصر بأن أفكار ونفسية الحكيم والفيلسوف لا علاقة لها بالحقائق الجارية في المجتمع وإنه
عموماً يمتنع عن أخذ أي دور سياسي أو اجتماعي، ويبدو ان سبب هذا الاعتقاد هو أن البعض يرون أن المسائل الروحية
والنفسية ليست لها علاقة منظورة مع المشاكل القائمة ومسائل العالم الإسلامي.
إنّ حياة الإمام الخميني وعلى عكس هذه الفكرة تماماً، تعتبر دليلاً واضحاً على العلاقة بين المسائل المذكورة، وتجسّد الحقيقة
القائلة بأن برنامجه ليس مجرد فكرة إستراتجية وسياسة ابتدائية وإنما تمّ تبنّيها والإهتداء بها وفق الرؤية الشرعية المقدسة.
في عهد رضا خان، كان الإمام قد كتب كتاباً تحت عنوان (كشف الأسرار) منتقداً الدكتاتورية البهلوية ،كما انتقد في هذا الكتاب
بجسارة وشجاعة نظام رضا خان وخاصة استسلامه للقوى الأجنبية.
إن موقف الإمام من نظام الشاه كان موقفاً راديكالياً وغير قابل للمصالحة إطلاقاً، وانه لم يكن مقبولاً أو غير مسموح به من قبل
النظام وحسب، وإنما كان مع ذوق العديد من السلطات المرجعية العليا ومراجع الدين في مركز قم اللاهوتي Qums
Thelogical Center نفسه، وكان هذا بسبب محاولة هذا المركز، رغم كل قوته، إنقاذ موقعه وإبقائه حيّاً. ففي فترة آية اللّه‏
البروجردي الذي كانت السلطة الدينية المطلقة له، كان الإمام واحداً من ثقاته ومستشاريه، ولكن هذا لا يعني أن وجهات نظره
كانت معروفة بين مستشاري المرحوم آية اللّه‏ البروجردي.
لم يؤسس الإمام حزباً من جماعة منظمة لها كادرها المنظم المبدأي، ولم يكن له برنامجاً مخططاً من قبل. انه ببساطة استفاد من
الأساليب أو الوسائل البسيطة في ترويج أفكاره للوصول إلى المجتمع الإسلامي النموذجي، وان هذا لم يكن لينفّذ إلاّ بعبقريته
وجاذبيته الشخصية واعتماده على الرؤى الإسلامية الواضحة ونماذجها المعروفة (أي مصاديقها)المعروفة وبنوعٍ من القاطعية
الفريدة التي كانت من خصائصه.
إنّ فترة قيادة الإمام الخميني يمكن أن تُقسم إلى أربعة أطوار أو تمظهرات مختلفة هي:
الطور الأول:
وتمثّل فترة ظهور الإمام الخميني كقائد ديني ـ سياسي، ومقبوليته السريعة من قِبل الجماهير. تبدأ هذه الفترة ببياناته المعارضة
لإجراءات المجالس البلدية ومجالس المحافظات وتصل قمتها في خطابه الشهير يوم عاشوراء، كان اعتقاله اللاحق هو الذي سببّ
انتفاضة الجماهير في 15 خرداد 1342 (5 حزيران 1963) وانتهت بنفيه إلى تركيا بعد أن رفع صوته عالياً معترضاً على
قانون الامتيازات الأمريكي المفروض، وعلى غدر وخيانة عدد من مراجع الدين الكبار وتسوياتهم المهينة بمن فيهم شريعتمداري.
في هذه المرحلة من النضال، اتخذ الإمام أربعة إجراءات مهمة:
1 ـ تحريم التقية التي كانت عذراً للمساومين أو المصالحين، وبذلك أزال الإمام أكبر العوائق أهميةً في جدل الجماهير المباشر
القوي مع الأنظمة المستبدة.
2 ـ سحب الكفاح إلى المركز الرئيسي للنشاط الديني، أي مركز قم اللاهوتي، وهنا نسفَ الإمام والى الأبد النظرية القائمة على
الفصل بين الدين والسياسية، وحتى أولئك الذين كانوا لا أباليين في دخول النشاط السياسي، وجدوا أنفسهم مجبرين على إعلان
مواقفهم بصراحة ووضوح.
3 ـ بتوجيه السهم الأول والحادّ في هجماته نحو المركز الرئيسي للفساد، أي الملكية والشاه نفسه ،أنهى الإمام حجة المحافظين
ووسائلهم التي حاولوا إيجادها لتبرير تحفّظهم وصمتهم.
4 ـ بهجومه المباشر على جميع القوى الأجنبية الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة أنهى الإمام كل أنواع التحفظ السياسي الذي
وُجد سابقاً وخاصة أثناء الدستورية (المشروطة) وحركات تأميم النفط واختار أسلوبا جديداً بالكامل في إدارة متشابكات الكفاح
السياسي.
وبما أن الإمام كان يمتلك فهماً دقيقاً للتجارب الماضية، وعبارته الشهيرة التي قال فيها: «بما إن أمريكا أسوأ من انكلترا وانكلترا
أسوأ من أمريكا، وروسيا أسوأ من كليهما، وكلّهم واحد أسوأ من الآخر، فإنّ صراعنا اليوم هو ضد هذه الوجودات السيئة جميعها
وأمريكا» وبذلك أغلق الإمام الباب أمام أي تدخّل أجنبي أو اختراق من قبل أتباع السياسات الأجنبية في حركة الثورة في
محاولاتهم سرقة ثمار النضال الجماهيري.
الطور الثاني:
الطور الثاني من قيادة الإمام الخميني يمكن تشخيصه بخمس عشرة سنة طويلة من فراغ السلطة، تبدأ منيوم نفيه إلى تركيا
وتنتهي بيوم إبعاده عن النجف. في تلك الفترة، ولو بشكل متقطع في التعاطي مع أحداث إيران، كان الإمام مستمراً في معركته
ضد النظام بإصدار البيانات والأحكام الدينية أي الفتاوى وإلقاء الخطب والبيانات، وانه بذلك احتفظ بعلاقته الروحية مع الناس
قائداً وموجهاً ومرشداً لهم في نضالهم. إن أهم عمل للإمام في هذه الفترة، هو تعيين نفسه كمنظّر للثورة، وقد نفّذ ذلك بإلقاء سلسلة
من الدروس الدينية عرُفت باسم (الحكومة الإسلامية) أو (ولاية الفقيه). وطبقاً لهذه الرؤية، وضع الإمام القاعدة الأساس لحكومة
ما قبل الثورة، وجعل ذلك بيناً أمام أولئك الذين لا يملكون فهماً واضحاً لمفهوم الثورة الإسلامية لاسيما كيفية ونوعية الحكومة أو
المجتمع الذي ينوون إقامته في ظل الحكم الإسلامي.
إن القيادة الثورية تتجلى في ثلاثة أشكال: المنظّر الأيديولوجي، القائد المتحدي، وأخيراً المهندس ورئيس الحكومة الثورية.
في هذه الفترة، تبّنى الإمام مسؤولية المنظّر للثورة وأنجز تكليفه هذا بأفضل وأكفأ ما يكون الانجاز.
الطور الثالث:
المرحلة الثالثة من زعامة الإمام الخميني بدأت مع أول شرارات الثورة في قم في شهر دي من عام 1356 (يناير 1977) حيث
أشعلت النار التي تحت الرماد. انه لم تمر فترة طويلة قبل أن تحاصر هذه النار النظام الحاكم في إيران وتُنهي حقبة زمنية دامت
2500 عام متواصلة من حكمٍ ملكي إمبراطوري غاشم.
في هذه الفترة، مدركاً الظرف المناسب والحركة الواعية للأمة، لم يتردّد الإمام، في حركته وراح حاملاً راية الثورة. متسلحاً
بوعي وإدراك صحيحين لرغبات الجماهير، مع توظيفٍ كاملٍ لإمكانات أبناء الأمة وتصميمهم الذي تجلّى في مظاهراتهم
الضخمة المعارضة للحكومة وقواتها، مقدّمين أرواحهم على الأكف، أعلن الإمام قراراً غير شعاري (أي واضح وصريح)
لمواصلة الكفاح حتى إسقاط نظام الشاه. وبدخول الإمام باريس، كانت هناك فرصة كبيرة للاتصال الواسع والقريب مع أتباعه،
فأصبحت نوفل لوشاتو، مقر إقامة الإمام خارج العاصمة الفرنسية، النقطة المركزية بل نقطة الانطلاق بالنسبة للإيرانيين
الراغبين بزيارة قائد الثورة. وفي الحقيقة، أن هذه الضاحية الباريسية، وبفترة قصيرة، تحولّت إلى عاصمة ثانية لإيران، وأكثر
دقّة، عاصمة إيران الفعلية. وهناك، انتقلت الثورة الإسلامية من الأقوال والكلمات إلى الفعل والممارسة حتى اجتثّت حكم الشاه في
نهاية المطاف.
الطور الرابع:
اُعتبرت هذه المرحلة الأصعب والأكثر حساسية على امتداد مسلسل حركة الإمام، إذ كان على القائد في هذه المرحلة أن يقود
سفينة الثورة المضطربة إلى شاطئ الأمان على صعيدين، باعتباره قائداً اجتماعياً أولاً، ومرشداً روحياً وموجهاً للجماهير ثانياً.
وهنا يكمن الوضع الحساس، حيث يضعف النظام الدكتاتوري والسلطة السياسية، وحيث ملايين الناس ممن يعيشون مقيدين من
قبل نظام يعتمد على الأجانب في إرساء حكمه، يروحون يكسرون أغلالهم. كان احتمال الفوضى وارداً ليكتسح المجتمع ويسحب
السيطرة من أيدي القائد. وبهذا كان على القائد أن يستوعب غضب الجماهير ويمنع الاضطرابات، وفي نفس الوقت ينظّم
الحكومة الإسلامية التي كان عازماً على تصميمها ولكن على قمة الدمار أو الخراب الذي تركته الحكومة الساقطة.
وهنا تبقى المقولة التي وضعها ماركس حول ما إذا كان «الناس والأبطال يصنعهم التاريخ»أو مقولة توماس كارليل الأخرى
القائلة «الناس والأبطال يصنعون التاريخ» قائمتان وهما جدليتان ربما لا يسع المجال لبحثهما هنا، ومع ذلك، وعند دراسة مسار
تشكّل الثورة الإسلامية وخاصة قيادة الإمام الخميني، يمكن القول بأنه هو نفسه (أي الإمام) كان من صنع التاريخ الإسلامي، وفي
نفس الوقت هو الذي صنع تاريخ الثورة الإسلامية.
أحد المؤرخين قارن الإمام الخميني بشمعة مشتعلة ولكنْ بقوة وطاقة ألف قنبلة نووية، وأوضح أحد المراسلين الصحفيين العرب
ذلك بجملة مفادها، إن ((الإمام) الخميني أربك وأدهش الشرق ،وهزّ الغرب، وجعل العرب حيارى مجبرين على الدفاع عن
أنفسهم، إذْ لا فرار. أنه الفت أنظار وانتباه كلّ شعوب العالم. وفي كل أرجاء الكرة الأرضية). الأيديولوجية:
وكما ذُكر في فصل الأيديولوجية، أن أهم المهمات الملقاة على عاتق القائد هي مع تأسيس أو تقديم أيديولوجية الثورة. ومثل هذه
الأيديولوجية يُفترض أن تحتوي على رفض الوضع القائم غير المرغوب فيه مع الإبقاء على قيمه وثوابته، وكذلك رسْم معالم
المستقبل الأفضل الذي ينبغي أن يحظى برضا ومقبولية مساحة عريضة من أبناء المجتمع.
في إيران ومنذ فترة طويلة، ومن البدايات المبكرة للقرن الحاضر، كانت هناك ثلاث أيديولوجيات شرقية وغربية، لفتت أنظار
الوجودات الاجتماعية المختلفة. وهذه النظريات هي القومية ،والماركسية ـ اللينية، والإسلام، وكان مبشرو كل واحدة من هذه
الأيديولوجيات يحاولون جمع الأتباع ورسم صورة مثالية للمجتمع النموذجي الذي ينوون إقامته أو الإعداد له.
فالقومية، في عقول مصمّميها الغربيين تعني: «مجموعة من الناس ينتمون إلى نفس العنصر أو العرق ،ونفس الخلفية التاريخية
،ويتحدثون بلغة مشتركة وذوي ثقافة وتعاليم واحدة، وكانوا تجمعّوا داخل حدود جغرافية واحدة كوحدة اجتماعية غير قابلة
للتفكيك، ويعتقدون بكل ما تحويه هذه الوحدة من مصالح واعتبارات، ودودون ورحماء مع بعضهم وعكسه مع الغرباء
والأعداء».
أما الحركة الماركسية، ورغم كل الجهود التي بُذلت لترويجها إلاّ إنها كانت أقلّ نجاحاً في إيران من النظرية القومية، وذلك
لسببين هما:
1 ـ إنّ البناء الإلحادي والطبيعة المادية للماركسية ـ اللينينية اصطدمت مع طبيعة المجتمع الإيراني ومعتقداته الدينية العميقة
الجذور، ولذلك فإنّ هكذا نظرية لا تجد استجابة جماهيرية واسعة في هكذا مجتمع.
2 ـ إنّ الانشداد الزائد عن الحد للماركسيين نحو موسكو، انتهى أن يُتهموا «ونتيجة للتجارب المرة للعلاقة الإيرانية ـ الروسية»
على إنهم مجموعة من دمى تحركها روسيا.
ومع ذلك، فإنّ الإسلام كمدرسة لأفكار سماوية، كانت له جذور تاريخية في عقول طبقات مختلفة من أبناء الشعب الإيراني. إذ أنّ
تركيبة المجتمع تتشكل من 98 بالمائة من المسلمين التقليديين ومعظمهم مخصلين لأوامر ونواهي كتابهم السماوي المقدس. هذا
المجتمع مُعّد إعداداً جيداً لتقبّل الفكر السماوي كأيديولوجية باتجاه التغيير الاجتماعي ـ السياسي، بضمنها الثورة.
من ضمن الجدليات الرئيسية ضد هذه الأيديولوجية وكونها تُستخدم كأيديولوجية للثورة هي:
1 ـ كانت الدعاية الامبريالية الغربية لعدة سنين تزرع الفكرة القائلة بأن «الدين يجب أن يُفصل عن السياسة ،وأنه لا علاقة له مع
المواضيع الإجتماعية ـ السياسية. الدين ليس لديه الأهلية لحلّ المشاكل الاجتماعية ـ السياسية المعقدة المعاصرة. هذا المنهج
الدعائي المتواصل كان أثّر على طبقات عديدة في المجتمع، وحتى على بعض العلماء ومراجع الدين».
2 ـ المجتمع النموذجي الذي يُراد من الإسلام إقامته يعود إلى 14 قرن مضت، وكان البعض يعتقد أنه من المستحيل إقامته من
جديد بنفس أحكامه وأوامره في العصر الحديث. الشكوك ما زالت قائمة في ما إذا كان الإسلام يستطيع الإجابة عن التساؤلات أو
المشاكل العويصة التي أفرزها الواقع المعاصر أم لا.
3 ـ اعتماداً على بعض المبادئ الإسلامية كالتقية وانتظار الإمام الثاني عشر في المذهب الشيعي، والطاعة للعلماء والوعاظ
المعيّنين من قبل الحكومة في المذهب السنّيـ لم تترك أي مجال وحتى في عقول بعض المسلمين الحقيقيين للفكرة القائلة بأن
الإسلام يمكن استخدامه كنظرية ثورية لتغيير القيم السائدة.
بلحاظ هذه المعوّقات أو الملاحظات، ورغم الجهود الحثيثة التي بذلها السيد جمال الدين الأسدآبادي، وآية اللّه‏ النائيني، وآية اللّه‏
نورى، ومدّرس، وآية اللّه‏ كاشاني والأوفياء للإسلام الذين قادهم نواب صفوي، وتأثيرهم الفاعل في تحقيق بعض الأهداف
القومية ، إلاّ إن هؤلاء جميعاً لم ينجحوا في تقديم الإسلام كنظرية للثورة في عقول الجماهير، وخاصة الشباب الثوريين.
حتى نهاية 1962 ولكون قائد الثورة يمتلك معرفة دقيقة بالإشكاليات المذكورة فإنه بدأ تدريجياً وبانتظام يهدم هذه العوائق، وقد
نجح في تغيير قناعات بعض الناس الذين يقولون بعدم أهلية الإسلام أو عدم كفاءته لإدارة الحكم. انه راح يزرع الإسلام في
عقولهم كأفضل فكرة ملائمة للثورة، وذلك بعرضه بطريقة جديدة وأسلوب جديد.
وقبل أي شيء آخر، قام الإمام الخميني بتحريم التقيّة وجعلَ قول الحق واجباً شرعياً وتكليفاً ملزماً.
بإتّباع ذلك، وباستثناء الفرصة التي توفّرت له في منفاه في النجف، قدّم الإمام فكرته عن الحكومة الإسلامية، ورقابة أو ولاية
الفقيه الأعلى. وبهذا الفعل فانه مهّد الطريق أمام التغيير الجذري وأمام الرؤى التي تعتقد بأن الإسلام أيديولوجية ديناميكية حركية
يمكن أن تؤدي وظيفتها في العالم المعاصر.
الحاكم في المجتمع الإسلامي يجب أن يحمل صفتين أو خصيصتين مهمّتين الأولى: استيعاب كامل للأوامر الإلهية، والثانية: أن
يكون عادلاً وغير منحاز في تنفيذ أو إجراء هذه الأوامر.وبكلمة أخرى أن الفقيه النزيه أو المتجرّد عن الهوى، هو في الحقيقة
خليفة لنبي اللّه‏ والأئمة المعصومين في إدارة المجتمع الإسلامي وتنفيذ الأحكام الإلهية.
ومن هنا فان طاعته كولّي وحارس للأوامر الإلهية تساوي طاعة النبي المرسل نفسه.
بعرض هذا المبدأ، عرّف قائد الثورة ـ بل أسس ثلاث نقاط مهمة جعلها بمثابة محطّات ستراتيجية لثورته:
1 ـ قلبْ وإسقاط القوانين الإمبراطورية.
2 ـ العمل على إنشاء أو إقامة حكومة إسلامية.
3 ـ ضمان سلامة خط هذه الحكومة بتنفيذ مبدأ ولاية الفقيه. وبعد ذلك واصل الإمام مسيرته واضعاً خطة وإستراتيجية النضال،
لإضعاف، وأخيراً، دحر النظام الحاكم وكما يلي:
إن علينا:
1 ـ قطع جميع العلاقات مع المؤسسات الحكومية.
2 ـ لا تعاون معها على الإطلاق.
3 ـ تجنّب أي عمل يمكن أن يُفهم دعماً أو تأييداً لها.
4 ـ إيجاد وحدات قانونية ومالية واقتصادية وثقافية وسياسية بديلة.
عوامل مساعدة للثورة الإسلامية من رؤى مختلفة:
إحدى النقاط المهمة التي لفتت أنتباه المحللين والمتابعين لأحداث الثورة بمن فيهم الموالين والمعارضين هي: ما هو العامل (أو
العوامل) التي سرّعت في إحداث التغييرات الاجتماعية ـ السياسية، وما هو مسلسل الأحداث الذي انتهى بانتصار الثورة؟ كيف
أصبح البلد الذي كان حتى نهاية يناير 1977 يُسمّى من قِبَل الرئيس الأمريكي جيمي كارتر «بلد الاستقرار» ويوصف فيه الشاه
بأنه «القائد الأقوى والأكفأ في الشرق الأوسط»، كيف أصبح هذا البلد الأكثر شغباً واضطراباً في غضون سنة واحدة، وكيف تم
اكتساحه بانتصار الثورة الإسلامية؟ انطلاقاً من نظريات عديدة ومتباينة تم طرحها لحد الآن، ومن خلال الوثائق والتحليلات
والمعلومات المتوفرة توجد هناك أربع عوامل يمكن تشخيصها كعوامل مساعدة أدّت إلى وقوع حدث الثورة:
1 ـ تنفيذ سياسة كارتر حول حقوق الإنسان.
2 ـ مرض الشاه.
3 ـ محاولة الشاه لإجراء التحديث السريع للبلاد.
4 ـ وأخيراً، طباعة المقالة المهينة لقائد الثورة في صحيفة اطّلاعات، التي أثارت مشاعر الشعب الدينية واستفزت غضبه.
1 ـ تؤكد وجهة النظر الأولى، أنّ كارتر وبتقديمه لائحته لحقوق الإنسان ودعوته لتسليط الضغوط على الأمريكيين المنضمّين إلى
جوقة الحكام المستبدين في العالم الثالث، بمن فيهم شاه إيران، قام بكبح وردع القوى الدكتاتورية التي يجري استنفارها عادة لقمع
المعارضة. إنّ سياسة التحرير في هذه المجتمعات التي لم تكن مستعدة لنزال الحرية المتحدي، سببت تمزيق رتابة الحياة في
إيران فضلاً عن تمزيق المنظمة السياسية الحاكمة فيها.
إن الفكرة القائلة بتأثير هيمنة الليبرالية الأمريكية على الشاه كان لها مؤيدون كثيرون ليس في الولايات المتحدة وحسب، وإنما
داخل إيران كذلك. في الولايات المتحدة كان الجمهوريون من كافة الشرائح وبعض الليبراليين قد قبلوا بالضرورة وجهة النظر
القائلة بأنّ جهود كارتر في تنفيذ لائحة حقوق الإنسان والنأي بعيداً عن السياسة المتّبعة في إيران سابقاً، كانت الدافع الحقيقي
لسقوط الشاه.
فقد اتّهمت جين كيرك باترك ممثلة أمريكا السابقة الدائمة في الأمم المتحدة في حقبة إدارة ريغن، اتهمت كارتر بهذه التهمة، إذْ
قالت: «إنّ إدارة كارتر أوقفت السياسات السابقة وبدأت حقبة جديدة ترتكز على جهود حثيثة لتوفير حقوق الإنسان. وكانت
حصيلة عدم الاستمرارية في سياسة أمريكا الخارجية قد منحت الفرصة لاستبدال الأنظمة الصديقة بأخرى غير صديقة أو غير
ودّية. ففيما كانت إدارة كارتر تساهم بنشاط بإسقاط الحكومات الاوتروقراطية وغير الشيوعية، إلاّ أنها لم تكن مبالية لتمدّد واتّساع
الشيوعية. وكان من أول ضحايا سياسة كارتر حول حقوق الإنسان، هو الشاه في إيران وسوموزا في نكاراغوا».
وهنا ينبري سؤالان: الأول يخصّ الوثائق المطبوعة: هل كانت هناك ضغوطاً حقيقة على الشاه لانتهاج سياسة تحررية
ليبرالية؟» والثاني: «أي الجماعات استفادت من هذه السياسة أو انضمّت إليها»؟.
في ما يخص المسألة الأولى، يمكن البرهنة انه لا يوجد أي دليل على الإكراه، بل هناك دليل قوي على العكس. مثلاً، أنّ سياسة
الشاه في الانفتاح ليست لها أية علاقة مع برنامج كارتر لحقوق الإنسان، بل أنّ إدارة كارتر استثنت إيران من تطبيق هذه
اللائحة، أي جعلتها استثناءً وهنا نسمع السفير البريطاني في إيران أنثوني بارسون يقول مثلاً:
«البعض قال بأن الدعوة للحرية جاءت بسبب الضغط المباشر المفروض على الشاه من قبل إدارة كارتر.. وأنا لم أتفق مع هذه
الرؤية في تلك الفترة وما زلتُ كذلك لحدّ الآن، في الحقيقة، إن الإشعاعات الأولى من الحرية لوحظت في أواخر عام 1976 ،أي
قبل حوالي شهرين أو ثلاثة من تسنّم كارتر لرئاسته، أنا لا أشك بأن الشاه، وباستثمار فرصته المناسبة إنما استنتج بأن ممارسةً
أكثر إنسانية وأكثر ديمقراطية من جانبه ربما تجعله أكثر محبوبيةً أو مقبوليةً من قبل الرئيس الأمريكي الجديد».
وليم سوليفان يكتب في مذكراته مُشيراً انه عندما التقى الرئيس الأمريكي كارتر لأول مرّة كسفير جديد لأمريكا في إيران، اندهش
بأن الشيء الوحيد الذي لم يتحدّث عنه كارتر هو موضوع حقوق الإنسان في هذا البلد، وكتب مضيفاً: «قبل السفر إلى إيران،
وفي مقابلة مع كارتر، أكّد أهمية إيران الإستراتيجية للولايات المتحدة وحلفائها الغربيين ،ثم أشار إلى الشاه بأنه صديق قريب
وحليف ثقة لأمريكا، ودعمه بحرارة، مؤكداً كذلك على أهمية إيران كعامل استقرار لحفظ الأمن في منطقة الخليج الفارسي القلقة.
وفي النهاية، تحدث حول أسعار النفط ومسائل أخرى تتعلق بالمصالح المشتركة بين إيران والولايات المتحدة، وطلب منّي طرح
أي سؤال يخطر ببالي حول إيران والمنطقة».
ويلاحظ سوليفان، انه على الرغم من الحقيقة القائلة بأن كارتر كان دخل البيت الأبيض راكباً شعار حقوق الإنسان، وضمن حملة
انتخابية انتَقدت مراراً وتكراراً الرؤساء الجمهوريين لدعمهم الشاه وبيع الأسلحة لنظامه، ولكنه (أي كارتر) الآن لا يذكر أي
شيء حول هذا الموضوع، بل أنه سأل عن رؤيته حول حقوق الإنسان فأجاب بلا مبالاة: «بالطبع، هناك بعض المشاكل حول ما
يتعلق بحقوق الإنسان في إيران، وبعدها طلب مني بأن أقُنع الشاه بتعديل سياسته العامة في هذا الصدد أثناء لقاءاتي معه».
النقطة الأخرى الأكثر أهمية هي أن كارتر كان أوعد بأن يؤسس علاقته السياسية والاقتصادية، ويبنيسياساته الأمنية والعسكرية
مع الأقطار الأخرى على ضوء ملاحظاتهم حول حقوق الإنسان، ومع ذلك، فإننا نرى بأن هذا المبدأ الأساس في سياسته الإدارية
قد تمّ تجاهله، وان النظام في إيران كان هو المستفيد الأول من هذا التجاهل.
في ما يتعلق بالصفقات الاقتصادية وخدمات التسليح والبيع الناتج عن التسوية يلاحظ بأن واردات إيران من المعدات العسكرية
كانت الأكبر من أية فترة أخرى. ففي ظل إدارة كارتر، وصل حجم الصادرات الأمريكية إلى إيران ما قيمته 6ر3 مليار دولار
أمريكي، بالإضافة إلى ذلك، وقّع كارتر اتفاقية مليارية مضاعفة أخرى مع الشاه لبناء خمس محطات نووية في إيران.
إنّ كارتر، وبتوقيعه هذه الاتفاقية قال: «لقد وقّعنا عقداً نووياً مع إيران سوف يدرّ علينا مليارات الدولارات لتشغيل المصانع
الأمريكية واستخدام أو توظيف الكثير من الطاقات الأمريكية العاطلة عن العمل، إلاّ إن ذلك لا يتناقض مع سياستنا المبدأية في
الحدّ من الأسلحة النووية».الأمر الوحيد الذي لم يوضحه كارتر بل لم يتطرق إليه هو مسألة حقوق الإنسان في إيران.
وحول موضوع بيع الأسلحة لإيران، فقد تجاوز كارتر الرئيسين نيكسون وفورد في إشباع أهداف الشاه وتحقيق رغباته. فقد
بلغت إرساليات الأسلحة إلى إيران ذروتها (4ر2 مليار دولار أمريكي) في أول سنة على استلام كارتر لمنصبه. بالإضافة إلى
ذلك، ومن يناير 1977 إلى ديسمبر 1978، وصلت قيمة هذه الإرساليات إلى إيران أكثر مما وصلت إليه في عهدي الرئيسين
الأمريكييْن المذكورين. إن السجالات بين إدارة الرئيس والكونغرس حول صفقات الأسلحة لإيران تعتبر كاشفة للموضوع تماماً،
إذ أنها تصوّر السياسة الحقيقية لإدارة الرئيس الأمريكي كارتر تجاه نظام الشاه. هذه السجالات تكشف بأن الإدارة الأمريكية
الجديدة لم تغيّر من تعاملها السابق مع إيران حتى في الحدود الدنيا من التعامل.
ان بيع طائرات استطلاعية كاذبة من نوع (أواكس) إلى إيران من قبل الإدارة الجديدة كانت مناسبة جديدة لاختبار أو استطلاع
سياسة كارتر حول حقوق الإنسان، وعندما سُئلكلّ من (الفرد اثرتون) من قسم إدارة الدولة، و(أرك فون ماربود) من قسم وزارة
الدفاع من قبل سناتور سابق في العلاقات الخارجية، حول ما إذا كانت الإدارة الأمريكية قد وضعت أية عوائق أو حدود على
مبيعات الأسلحة وحقوق الإنسان في إيران! فإنهما لم يدعا أي مجال للشك في أن ما يخص المبيعات لإيران، وحسب إدارة كارتر
سياسة لم تتبدل ،وليس هناك أية نيّة في تبديل هذه السياسة، وان إيران في هذا السياق، تُعتبر استثناءً.
كريستوفر جونديس، باحث قبرصيّ المولد، قضى بعض الوقت في إيران أثناء الثورة، وبعد تحقيق دقيق للوثائق الموجودة في
الولايات المتحدة وكذلك الوثائق المطبوعة التي اكتشفت في السفارة الأمريكية بطهران، استَنتج بأن «حقوق إنسان كارتر لم
تشكّل له حصان طروادة في محاكمة الشاه، ولم تكن عنصراً ضرورياً في وقوع الثورة. كان لابد للثورة أن تقع عاجلاً أم آجلاً،
بحقوق إنسان كارتر أو بدونها. إنها في الحقيقة تناقضات المجتمع الإيراني الداخلية التي ازدادت بزيادة ألاعيب الدور الأمريكي
في إيران والذي استمر على امتداد الـ 25 سنة الأخيرة. أنها أضعفت نظاماً متشدداً ظاهره مستقّر ولكنها في النهاية دمرّته تحت
أعاصير أكثر الثورات أصولية وجماهيرية في العصر الحديث».
وبالطبع، ومما لا ينبغي تجاهله إنه ومنذ ديسمبر 1976، تم استفزاز عدد من الليبراليين والمتغربين الإيرانيين بدعاوى كارتر
حول حقوق الإنسان، كما تم التأثير على بعض المجتمعات والتجمعات. نعم، كتُبت أعداد قليلة من الرسائل المفتوحة وبعض
المقالات الجريئة. كان كتّابها جميعهم يأملون بأن الجبهة الليبرالية يمكن أن ترقى السلطة باستخدام السياسة المفتوحة والدعم
الأمريكي. إنهم تصوّروا بأن حفظ العلاقة القائمة مع أمريكا ،وفي ضوء ذلك الدعم يمكن أن يُشرّع مسيرة الإصلاحات.
كان من بين أكثر هذه الجماعات معروفيةً هو تجمع مؤيدي الحرية وحقوق الإنسان. وقد ضمّ هذه التجمع مهديبازرگان، وحسن
نزيه وعبد الكريم لهيجيو علي أصغر حاج سيد جوادي ومقدّم مراقي كهيئة عامة منتخبة ومشرفين. وفي أجواء المناخ المفتوح
الذي تم الإعداد له، وجد الجماعة فرصة لكتابة المقالات وإلقاء الخطب والمحاضرات. وسائل الإعلام داخل القطر وخارجه كانت
تشير إليهم على أنهم مؤثّرون وجماعة معارضة جدّية.الحاج سيد جوادي افتُرض إنه أكثر الأعضاء ليبرالية. جماعة أخرى تحت
غطاء (رابطة الكتّاب)كانت نظّمت (أمسية شعرية) في الهواء الطلق في النادي الألماني ـ الإيراني ،تحت علم دولة أجنبية بدعوة
من مؤسسة گوثا.
وكما يروي جونديس: «إن حقوق إنسان كارتر كانت مهمة بشكل خاص لقسم من معارضي الشاه مثل الليبراليين. ان عرض
واستخدام عنوان حقوق الإنسان من قبل المعارضة الليبرالية هيّأت لهم بعض الفرص في البلد حيث أدخلتهم في الواجهة الثورية
وساعدت فقط في إضافة شيء إلى عدم الشرعية على النظام. على أية حال، إنّ الدور الذي لعبه الليبراليون في الثورة كان دوراً
هامشياً وبسيطاً وثانوياً، فيما كان الدور الرئيسي فعلاً يقع على عاتق البازار والطبقات الفقيرة.المعارضون الليبراليون لم يشاركوا
كثيراً في الحالة الجماهيرية، ولم يكونوا بين تلك الجماعات التي استلهمت باعثها أو دافعها وقاعدتها من رجال الدين. فبالنسبة
لعلماء الدين وهذه الجماعات من الشعب، كانت حقوق الإنسان لكارتر وسياسة الشاه التحررية هامشيتان وليستا من الأهمية بمقدار
أو بمكان بحيث يمكن إقرار معارضتهما أو تدوين شكاواهما».
بازركان، في لقاء له مع حامد الغار يوضح إستراتيجيته الليبرالية في الاستفادة من سياسة حقوق الإنسان لكارتر فيقول:
«عندما كان شريف إمامي رئيساً للوزراء، فإنّ نوعاً من الحرية الحقيقية كانت مُنحت وفقاً للقوة المنتزعة من سياسة كارتر حول
حقوق الإنسان. إذْ وفرّت هذه السياسة الفرصة لمجموعتين من الناس أن يجتمعوا سوية ويناقشوا ويجادلوا.. في ذلك الوقت كان
موضوع الانتخابات ومسألة ان نشارك أو لا نشارك فيها هي المحور الأهم. إن فكرة الحركة الليبرالية وآخرين كانت تقول أنّ
الانتخابات فرصة إلهية، وكان آخرون يقولون: ما هي الفرصة الأفضل من الآن مادامت الحكومة وصلت إلى وضع باتت هي
نفسها تريد أن تعطي الحرية للانتخابات!! والآن، وفيما إذا كانت الانتخابات ستصل حتى النهاية. أم لا، كان هناك عدد من
المعارضين سواء كانوا دينيين أو وطنيين من حركة الحرية الليبرالية أو أي حزب آخر 10 أو 20 عضو ربما سيشقون طريقهم
إلى البرلمان، أو أنّ الانتخابات سوف لا تجرى بشكل صحيح، وعندئذ فإنهم لن يدخلوا البرلمان. إن ذلك لن يكون مشكلة، وان
عذر الحكومة سوف ينفضحوا حينها سوف نقول:
«يا سيد كارتر... يا ست أمريكا: إن مزاعمكم عن حقوق الإنسان كانت كذبة»[175].
2 ـ النظرية الثانية المتعلقة بموضوع تسارع الأحداث وقدرة الثورة على الانسلال من سيطرة النظام تتعلق بمسألة مرض الشاه
بالسرطان.
ففي رحلة تزلّج على الجليد للشاه عام 1974 تم تشخيص تورّم في معدته وسرطان في العقد اللمفاوية من قبل متخصصيْن
فرنسييْن. وقد وضعاه تحت نظام للمعالجة بالمواد الكيمياوية من تلك الفترة فصاعداً. بلحاظ شخصيته الضعيفة لم يحاول الشاه
السماح لأي أحد الأطّلاع على وضعه الصحي. حتى أشرف أخته التوأم التي كانت تهيمن على شخصيته وقراراته، يبدو أنها لم
تكن مطّلعة على القضية[176]. الطريف أنّ وكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIA مع كلّ ما تملكه من سيطرة على الشاه
والمسائل المتعلقة بصحته ونفسيته، لم تكن تعرف شيئاً حول الموضوع.
إن آثار هذا المرض على نفسية الشاه كانت نوقشت بطريقتين:
أ ـ إنّ الشاه، مُدركاً انه لن يعيش طويلاً، قرّر أن يهيّئ الأجواء السياسية، في حياته وبعد موته ويجعلها مناسبة لولده كي يستلم
السلطة بعده. وعلى حد تعبير كلماته نفسه، أشار الشاه إلى هذه المسألة بقوله: «لقد أردتُ نقل التاج إلى ولدي في ظل ظروف
ملائمة ومقبولة بلحاظ التنمية الاقتصادية والثقافية أثناء حياتي. إنني لا أريد إنجاز هذا الهدف باستخدام القوة أو إراقة
الدماء»[177].
ب ـ التأثير الآخر لهذا المرض على نفسية الشاه جاء بفعل العقاقير، إذْ أصبحت تلك الأدوية تؤثّر على إرادة وقرارات الشاه التي
تحتل محوراً رئيسياً في قضيته مؤكدّة معتقداته السابقة في القضاء والقدر.[178]
كرين برنتون، أستاذ التاريخ الأخير في جامعة هارفارد كان قد درس الثورات التاريخية العظيمة في أوربا الغربية والحركات
الثورية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ووصل إلى نتيجة مفادها: «إن انتصار أية ثورة يأتي نتيجة لضعف وانسحاب
القوة الحاكمة أكثر منه بسبب قوة أو إرادة القوى الثورية المعارضة».
هذه النظرية مثل سابقتها، لا أساس لها من القوة، لأن الشاه بالأساس صاحب شخصية ضعيفة، وان التأييد الذي حظا به من القوى
الأجنبية هو الذي منحه إحساساً مفتعلاً من القوة جعله يتباهى مزهواً بمعنوياته. انه كان يستأنس بدعم القوى العظمى إلى آخر
لحظة في أيام حكمه. وفي الأثناء، انه لم يتردد عن تنفيذ أية إجراءات قاسية ووحشية بما فيها إراقة الدماء في تنفيذ مطاليب تلك
القوى وإطاعة أوامرها. فأثناء عام 1357 (1978 ـ 1979) ،ما كانت تمرّ سوى أيام أو أسابيع قليلة إلاّ وترى العشرات من
أبناء الشعب الإيراني الأبرياء يتشحطون بدمائهم. إن كارثة سينما ريكس في عبادان ومذبحة الجمعة الأسوأ في 27 سبتمبر
1978 (التي ذكّرت بحادثة 6 حزيران 1963) هي بعض من الجرائم التي ارتكبها الشاه وأجهزته البوليسية والعسكرية.
3 ـ هناك نظرية أخرى رُتبّت من قبل مؤيدي الشاه والتي تم افتعالها في الحقيقة لحمايته وعبر الاعتراف بأخطائه وليس بجناياته
وظلمه، وهي أن الشاه ما دام خادماً حقيقياً لبلده، وأنّه أرادأن يعوّضه عن التخلّف بأقصر فترة ممكنة واضعاً إيران على «أبواب
الحضارة العظمى»، فانه لابد أن يرتكب خطأ. والخطأ أنه كان مسرعاً جداًفي تحديث البلد الذي لم يكن مهيّأً فعلاً لمثل هذه القفزة
العظيمة! لقد كان نقاشهم، انه ما دام المجتمع الإيراني التقليدي لم يستطع هضم كل تلك الإجراءات والمشاربع التحديثية في مثل
هذه الفترة القصيرة فانه واجه مشاكل معقدة، وتراكم التذمّر على التذّمر حتى وصل إلى حافة الإنفجار وكان نتيجة ذلك سقوط
النظام.
يقول الشاه نفسه:
«إنني أردت أن اختصر عدة قرون من التخلّف في بلدي في غضون 25 سنة من برنامج حثيث. كلّ المشاكل نشأت منهذا
الاندفاع في تنفيذ هذه الخطة. وفي الحقيقة، كان يجب ان نقدم خطوات تمهيدية لتنفيذ هذا العمل العام المستعجل.[179]
من بين هؤلاء الذي اعتقدوا بهذه النظرية، يمكن أن نْذكر مرة أخرى انثوني بارسونز. إذ يزعم أنه في حواره مع الشاه، كان قد
أكّد مراراً على تلك النقطة، وهي أن التعبير الحاد والسريع لمشاعر الأمة كان نتيجة طبيعية لضغوط 15 سنة كانت قد تحملّتها
بسبب إصرارا الشاه على تحديث البلد. ففي رأي بارسون هذا، يبدو أن سبب الانتفاضة هو أن التحديث داس على حقوق
واستحقاقات الطبقات التقليدية في المجتمع، وانه كان قد هيّج أو أوغر مشاعر الإيرانيين وألفتْ أنظارهم إلى التوزيع غير العادل
للثروة، الأمر الذي وضع الطبقات الفقيرة في المجتمع في حالة استياء كبيرة. وهنا كان يُفترض ان يُحسب لموج الجماهير
الشعبية وسخطها حسابها، وكيف أنها انتقلت إلى حالة معارضة وغضب وثورة.[180]
قليلون جداً يشكون بهشاشة هذة النظرية وخواء قناعة الشاه ببرنامجه التحديثي.
ومن نظره سريعة إلى حقائق وعواقب سياسة الشاه في السنوات العشرة الأخيرة من حكمه يمكن ان يُقدّم الدليل القوي على عدم
صحة هذه النظرية.
ورغم بلوغ إيرادات النفط أربعة أضعاف ووصولها إلى 20 مليار دولار أمريكي سنوياً، فإنّ هذه الزيادة في الدخل، وبدل أن
تدخل في خزينة الدولة، كانت مُنحت هبات نقدية، وأنظمة مالية محتكرة من قبل أقطار غربية في أشكال قابلة لإعادة الجدولة،
وعملياً قروضاً مصرفية طويلة الأمد، مثلا قروض ضخمة لشركات غربية أو أقطار غربية حليفة ،وشراء أسهم في شركات
أوربية وأمريكية غامضة ومصانع مرتبكة، والأكثر أهمية، بل جنوناً، بالطبع هو الفائدة الكبيرة للبائعين جرّاء شراء الأسلحة
والمفاعلات النووية.
هذه المنافع الضخمة الموهوبة للأجانب والجيران، كلها كانت تجري في بلد تعيش معظم قراه الحاجة إلى المستشفيات والأطباء
والمدارس والمعلمين وشبكات الاتصال، والقوة الكهربائية والطرق. أما ما تبقى من إيرادات النفط فقد استُخدمت، وبدون تخطيط
وطني سليم، في نظام اقتصادي تميّز بالإسراف والبذخ. فكمية كبيرة من الأموال كانت تُمنح على هيئة ضمانات مصرفية قابلة
للتجديد، وقروض طويلة الأمد لشركات ترجع عائديتها إلى مؤسسة بهلوي وأفراد العائلة المحيطة أو الناس المنتسبين لهم
المحسوبين عليهم ،فيما كانت الاعتمادات المالية تستخدم لبناء تجمعات صناعية تعتمد بالكامل على الأقطار الأجنبية.
4 ـ النظرية الرابعة التي لها مؤيدون كثيرون بين الناس الثوريين والجبهة الدينية، وكان لها الكثير من المحللين المنصفين من
غير المتحزّبين، هي أن عنصر الثورة المسرِّع لا ينبغي البحث عنه في سياسة حقوق الإنسان لكارتر، ولا في مرض الشاه أو ما
يسمى التحديث، وإنما في المشاعر الدينية للناس التي جُرحت.وكما ذكرنا، فإنّ سياسة كارتر هذه لم تنفّذ أصلاً في إيران، بل على
العكس كلّما زادت وحشية الشاه واغتيالاته لأبناء الشعب، كان يُسعف بدعم واضح من قبل إدارة الرئيس الأمريكي المذكور.
ففي فاجعة 18 شهريور (28 سبتمبر 1978) حيث قُتل ألاف الناس بدم بارد، كانت هناك رسالة أرسلت من كامب ديفيد تحتوي
على وعدٍ لكارتر في دعمٍ غير مشروط لنظام الشاه. الأكثر إثارة، هناك بعض الناس في إدارة كارتر مثل زبيبغينيو برجنسكي
كانوا منزعجين لأن الشاه لم يُظهر قوة كافية، أي لم يستخدم العنف المطلوب.
الوثائق تشير أيضاً وبوضوح بأن كارتر لم يضغط إطلاقاً على إيران لمتابعة مسألة حقوق الإنسان فيها. بل كان يناقش لمصلحة
قانون الزواج واضعاً المزيد من الضغوط على الناس.
وهناك دليل أفضل لتأكيد هذه الدعوى، وهو ما جاء في مذكرات سوليفان الذي كان قد كتب في هذا الصدد طالباً من واشنطن
توضيحات حول واجبه تجاه إعلان قانون الزواج في طهران ،فيقول انه استلم ،وخلال 48 ساعة فقط جواباً سريعاً وواضحاً
ووافياً مؤكّداً أنّ الولايات المتحدة تؤيد عمل الشاه في تثبيت السلطة وحفظ الوضع مستقراً في إيران. ووفقاً لـ سوليفان، فإنّ رسالة
من واشنطن لم تدع لديه أدنى شك بأن الولايات المتحدة سوف تدعم كل الأولويات الموجّهة نحو إنهاء أي وضع يفترض شروطاً
على إيران، وذلك لخنق المعارضة وتصفيتها.[181]
وإذا كان هناك عدد من الناس ممن كانوا يضعون الأمل في سياسة حقوق الإنسان باستخدام الفضاء الذي أوجدته هذه الخطوة
المنفتحة، فأنهم لا يقرون أولئك الذين لا دور لهم في الحركة الجماهيرية والذين لم يستحسنوا أي عمل ثوري لاجتثاث جذور
النظام القديم. كما أنّ أفعالهم لم يكن لها أي تأثير في تسريع منهج الثوريين، بينما كانوا في اصراراهم على الوسائل الإصلاحية
والمحافظة يحاولون تعويق أو تأخير تقدم الثورة. إنّ هذه المنهجية كانت ألغيت طبعاً من قبل قائد الثورة والتفاتاته النابهة.
فيما يخص مرض الشاه وما تتركه الأدوية والعلاجات على قدرته لإدارة البلد، وكما ذكر تواً، فإنّ الشاه كان شخصاً ضعيفاً،
مغموراً بعقلية والده، وانه لم يكن قادراً على تكوين شخصية خاصة قوية. وفي الحقيقة، انه لم يكن يدير البلد بقدرته، وإنما بدعم
القوى العظمى الأجنبية وعلى رأسها الولايات المتحدة التي منحته الشجاعة لتنفيذ سياساتها المملاة عليه.
لقد تحدثنا توّاً عن هشاشة وعدم أرضية النظرية الثالثة والوثائق الضرورية المقدمة في هذا الصدد، ولذلك يمكن القول وبلحاظ
كل هذه السجالات وعلى أرضية الوثائق التاريخية ،أن أياً من هذه الرؤى لا تنهض لأن تُقبل كعامل أولّي مهم مسرِّع للثورة
الإسلامية.
أما النظرية الرابعة فتقول أنه بعد استشهاد نجل الإمام الحاج آقاي مصطفى والمناسبة التي أقيمت في هذا الخصوص وكذلك نشر
المقالة المهينة في صحيفة إطلاعات في 17 دي 1356 (8 يناير 1978) جاءت الشرارات الأولى للثورة. إذْ كانت مشاعر
الناس الدينية قد جُرحت بشدة فزمجر بركان الغضب لدى الجماهير. بالعودة إلى التقاليد وإحياء المناسبات الدينية مثل إقامة يوم
الأربعين لذكرى الاستشهاد، فإنّ الغضب التهب مرّة أخرى وتحوّل إلى سلسلة من المواجهات المستمرة التي انتهت باجتثاث
النظام الإمبراطوري، وبشّرت بانتصار الثورة الإسلامية.
فمنذ نشر المقالة المهينة التي قيل أنها جاءت بأمر مباشر من قبل هويدا (رئيس الوزراء السابق، ورئيس المحكمة الخاصة في
تلك الفترة) ما زال السؤال الذي يثار دائماً حول ما إذا كان هذا الفعل هو الآخر من ضمن أخطاء السلطة العديدة، أو أنه كان
مخططاً له من قبل، وأولوياً، ليبدأ الوجه الأول في خنق الأمة بعدها بدأ لفّ المنطقة بمسلسل كامل من القمع لاسيما بعد أن شعر
النظام انه محاصر بخطر الأجواء السياسية المفتوحة.
أراد الشاه، إذن، أن يبيّن للولايات المتحدة والعالم الغربي بأن المعارضة لا تعدو أكثر من ظاهرة دينية. وان كل أعدائه في البلد لا
يتجاوزون مجموعة من رجال الدين المتحجرين المتعصبين المنغلقي العقول. وبذلك فإنّ منْحهم الحرية يمكن أن يخلّف الفوضى
وغياب القانون ،وبالتالي يعرّض استقرار وأمن المنطقة للخطر وكذلك مصادر النفط والاستثمارات العالمية. أما حرق سينما
ركس في عبادان فقد صُوّر بأنه سيؤدي إلى تلك النهاية، ومع ذلك، فإنّ الشاه كان يعتقد أنّ لديه الوسائل الكفيلة بإنهاء
الإضطرابات، ولم يكن مدركاً إنه وضع نفسه في لعبة خطرة كان إتّساع رقعتها وامتداد أبعادها يعني انقلاب عرشه ونهاية النظام
الإمبراطوري.
المظاهرات في قم في 19 دي 1356 (10 يناير 1978) تحولّت إلى مشهد دم واستشهد العديد من الناس. في مناسبة إحياء
أربعينية الشهداء في بهمن (20 فبراير) انتفض سكان تبريز وفجّروا غلياناً وهيجاناً كبيرين أخرج المدينة من سيطرة النظام.
أظهر الناس غضبهم على الحكومة بإشعال النيران في دور السينما، ومخازن المشروبات الكحولية ومقرات حزب راستاخيز.
وأخيراً تحرك الجيش ونّفذ مذبحة وحمام دم. ولم ينتهي النهار إلاّ وعشرات الناس كانوا قُتلوا. في مأتم الأربعين لشهداء تبريز،
غضب الناس وثاروا في زاوية أخرى من إيران كذلك، وهكذا ثار أهالي مدينة يزد. حادثة تبريز تكررت في يزد في 9 و 10
فروردين 1357 (29 و 30 مارس 1978). هذه السلسلة من الأحداث تواصلت في عموم القطر وبشدة كبيرة على امتداد سنة
1357 (1978) وكانت هناك مشاهد دم حتى في أيام الأعياد، مثل عيد الفطر، والجمعة السوداء، ومظاهرات تاسوعاء
وعاشوراء الإمام الحسين، كلها أدّت في نهاية المطاف أو ساعدت في تفجير الثورة الإسلامية.
الشاهد فى كل هذه الحركات الجماهير الشعبية، يؤكّد بان عامل الحسم الأهم في الثورة اتسّم بالطابع الديني وعُزي السبب المباشر
إلى مقالة مهينة تناولت شخص الإمام، وكما يلي:
1 ـ من 10 يناير 1978 وحتى انتصار الثورة، كان طابع المظاهرات كله طابعاً دينياً، وكانت تقام في مناسبات وأعراف دينية،
كالمآتم وعاشوراء واحتفالات الأربعين التأبينية والمناسبات الدينية، ولم تكن لها أية صفة أو ميزة أخرى مشخّصة.
2 ـ إنّ بدايات التظاهرات ونهاياتها تنطلق وتنتهي في المساجد، وان النظام أظهر عداءه للدين بمهاجمة المسجد الكبير في كرمان،
ومسجد حبيب في شيراز ومسجد لورزادة في طهران، وكل ذلك في محاولات يائسة لمنع هذه التجمّعات.
3 ـ إنّ الدعوة للتجمعات ومسيرات الشوارع وقيادة التظاهرات كانت تُنفّذ من قبل رجال الدين، ولم يكن هناك أي دور لأي قائد
غير ديني في إدارة أو قيادة التظاهرات. وحتى في محاولتها لاختيار قوتها، أعلنت الجبهة الوطنية إضراباً ومسيرة في أربعينية
شهداء يوم الجمعة السوداء، وكانت مسيرة ناجحة فعلاً.
4 ـ هذه الأولويات والشواهد ليست لها أية علاقة مع الجو السياسي المنفتح لسياسة كارتر لحقوق الإنسان، وإنما كانت على
العكس، فإنّ التظاهرات كانت قُمعت بوحشية وبلا رحمة.بل أن مؤيدي الأمريكان في مسألة حقوق الإنسان هذه كانوا أيّدوا الشاه
في هذه الإجراءات القمعية.
5 ـ إنّ شعارات الناس ومطالبهم كانت دينية وسياسية، وقد تركّزت على محورين: الأول: رحيل الشاه وإسقاط النظام البهلوي،
والثاني إقامة دولة إسلامية.
6 ـ لم يكن هناك أي خيار أمام أية جماعة غير دينية سوى الاشتراك مع الجماهير المسلمة، وبذلك فإنّ الجميع أُجبروا على
التخلّي عن شعاراتهم الخاصة كي لا يكونوا في مواجهة مكشوفة مع الرفض الجماهيري.
ومن هنا يمكن القول إنّ انتصار الثورة الإسلامية في إيران كان معتمداً على قيادة رجال الدين التي ابتدأت عام 1342 (1963)
مضافاً إلى ذلك إنها قيادة حازمة لأعظم مرجعية دينية في تاريخ التشيع، وهي قيادة الإمام الخميني، وكانت حظيت بدعم غير
مشروط من قبل المسلمين الإيرانيين وقادت الثورة إلى الانتصار.
إذن كان الدور الأعظم لانتصار الثورة في إيران، هو الدين ومدرسة الشهادة، وان أية محاولة لنسبة الانتصار لأدوار أخرى
كسياسة حقوق الإنسان لكارتر، إنما هو تشويه للواقع ولا ينسجم مع الحقائق التاريخية الموثقة.
 

السابق || التالي   || الهوامش

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية

مركز الصدرين للدراسات السياسية