مركز الصدرين للدراسات السياسية || الكتب السياسية

ست نظريات حول انتصار الثورة الإسلامية


الدين هو العنصر الأكثر أهمية في انتصار الثورة الإسلامية
بقلم: عباس علي عميد زنجاني


مقدمه:
إن انتصار الثورة الإسلامية في إيران شكّل ظاهرة مهمة ومدهشة للعالم في القرن العشرين، بالنسبة لسياسة المنطقة والعالم، لعبت الثورة دوراً بارزاً وكبيراً وأوجدت تحولات غير متوقعة أو غير محسوبة. هذا الحدث السياسي أبرزَ الإسلام مرة ثانية كقوة فاعلة في العالم وجسّد وحدة العالم الإسلامي وأقرّ عيون جميع المسلمين، وأثار موجة من الخوف والقلق في قلوب الإمبرياليين والمستكبرين.
إنّ دراسة سريعة في طبيعة الثورة الإسلامية ،وانعكاساتها العالمية والانجازات التي قدمتها للشعوب المسلمة، وخاصة للأمة المسلمة في إيران أومض لنا نوراً وأثارَ استنتاجاً بأن الثورة الإسلامية كانت أعظم حدث بالنسبة لإيران والعالم في هذا القرن.
إنها كانت أيضاً واحدة من أهم الظواهر في تاريخ الإسلام ومعجزة إلهية تجلّت فيها القدرة اللانهائية للّه‏ تعالى ضد القوى العلمانية والظروف المهيمنة على شؤون العالم والتي توهّم البعض أنه لا تغيير ولا تبديل لوضعها السياسي والإجتماعي آنذاك.
ميلاد الحركة وانتصار الثورة الإسلامية:
في أكثر الأيام ظلمة إبّان حكم رضا خان الخانق، قدّم الإمام الخميني بحثه حول الدولة الإسلامية في كتابه الشهير (كشف
الأسرار)، وقد سمّى مهمة تأسيس أو إقامة الدولة الإسلامية تكليفاً إلهياً يعتمد على أوامر القرآن والحكم الأوّلي للإسلام. إن قائد الثورة الإسلامية حمل هذه الفكرة على امتداد فترة الزعامة الدينية لآية اللّه‏ الراحل الشيخ عبد الكريم الحائري ،والراحل آية اللّه‏ بروجردي متطلّعاً إلى الأمام بانتظار فرصة لتقديمها من موقعيته كقائد ديني لكي تكون أكثر مقبولية من قبل الناس وبذلك تحقق التحوّلات المطلوبة في المجتمع.
حكومة رئيس الوزراء علي أميني استخدمت الدعم الأمريكي لتنفيذ جزء من برنامج الولايات المتحدة بخصوص الإصلاحات
الاجتماعية وتحديداً برنامج إصلاح الأرض. مع هذا الفعل الخادع ومسلسل من اللعب السياسية، نجح هذا الرجل في النأي بإيران بعيداً عن الانفجار المحتمل ولعقدين كاملين جاعلاً من نفسه وليّاً لأمر الشعب وحاميه والشخص الذي يمتلك احتراماً وحباً كبيرين لرجال الدين والمؤسسة الدينية.
في 13 رجب 1381 (1962) أفلح في الدخول على الإمام الخميني، وسمع ما كان الإمام يقوله حول دكتاتورية عائلة بهلوي والهيمنة الأمريكية على شؤون البلد، وهنا فقد الأمل في خداع علماء الدين.مع استلام أسد اللّه‏ علم للسلطة في 27 تير 1341 (18 يوليو 1962) تحرك الشاه إلى قمة الهرم السلطوي. واستمراراً لـ (ثورته البيضاء) الأمريكية، أعدّ برنامجه في إصلاح الأرض لائحة المجالس للمحافظات والمناطق مبيّناً قبل كل شيء قمع الشعب.الإمام الخميني، الذي كان منذ فترة طويلة، يبحث عن فرصة مناسبة لتهشيم حكومة الشاه غير الشرعية والقضاء على هيمنة
الزّهو الأمريكي، وجد فرصة موائمة، مبتدئاً حركته الرائدة العميقة الجذور في المجتمع الإيراني.
الانتصار الأول في هذه الحركة كان بإلغائه مشروع مجالس البلديات والمحافظات. الانجاز الثاني هو الانسحاب الحكومي أمام تهديد الحركة بخصوص مسيرة النساء السافرات، والانتصار الثالث للحركة أخذ شكله بوعد النظام بأن علماء الدين سوف لا يجري التعرّض لهم أو إهانتهم في الصحف أو وسائل الإعلام الأخرى.
في 2 فروردين 1342 (23 مارس 1963) حوّل الشاه المدرسة الفيضية للإلهيات والدراسات الدينية إلى مشهد من مشاهد الوحشية وإراقة الدم وذلك أثناء مناسبة وفاة الإمام جعفر الصادق عليه‏السلام. وبعبارة واحدة صدرت من قائد الحركة في مناسبة إحياء ذكرى الإمام الحسين في محرم 1373 (1963) تحولت المناسبة إلى مظاهرة وثار المتظاهرون ضد المتوّج (يزيد العصر). ومع اعتقال الإمام وانتفاضة 15 خرداد، والإضرابات العامة على امتداد البلاد، دخلت حركة الإمام مرحلة جديدة.إن مشروع الامتيازات الأجنبية كان منعطفاً ونقطة تحوّل في تاريخ الحركة. ففي هذا الوقت وفي إجراء متسرّع وغير حكيم، اقتحم النظام الشاهنشاهي بيت الإمام في قم عام 1963 وبعدها تمّ نفيه إلى تركيا. ابتدأ الإمام محاضراته ونقاشاته حول نظرية الدولة الإسلامية ابتداءً من 1 بهمن 1348 (1970)، وبهذا فإنّ أرضية مرجعيته الدينية، الواسعة المقبولية، كانت أُعّدت في تلك الفترة.بعد مغادرة القوات البريطانية منطقة الخليج الفارسي، وتأسيس دولة الإمارات العربية عام 1971 ،اختارت الولايات المتحدة الأمريكية إيران شرطياً للمنطقة وهنا بدأ الشاه يقوّي قاعدة قوته بتوسيع علاقاته الودية مع الاتحاد السوفيتي والصين.إن النهوض المفاجئ للحركة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني مكّن من تجميع قوى مهمة وزجّها في ميدان النضال السياسي. جماعات سياسية مسلحة مثل المنظمات الفدائية (فدائيان خلق إيران)عام 1971 ومجاهدين خلق بدأت فعالياتها. في ظلّ الجو السياسي المفتوح عام 1977 كانت الخطوة الأولى للشاه هي تقديم إيران قرباناً على أقدام الرئيس الأمريكي الجديد جيمي كارتر. مع أول نسمة للحرية، أستلهمت حركة الإمام الخميني الإسلامية حياة جديدة ووسّعت المعركة بشكل أكثر حيوية واندفاعاً. أما سياسة تحديد الحرية السياسية التي أعقبت ذلك فقد أضافت مشاكل جديدة للنظام.إن الموت المشكوك فيه لنجل الإمام الأكبر الحاج آقاي مصطفى أثار موجة من الحزن والسخط بين الناس. المذبحة الكارثية الكبرى التي وقعت في قم أثناء تظاهرة جماهيرية أقيمت ضد النظام لطبعه مقالة مهينة في صحيفة اطلاعات أشّرت بداية المناسبات التأبينية في مدن أخرى عديدة على امتداد إيران. وزارات المصالحة الوطنية فشلت وأصبح نظام الشاه مشتبكاً في دوامة قاتلة من الأحداث مثل مذبحة الجمعة السوداء الدامية. في أربعينية استشهاد الإمام الحسين عليه‏السلام، كانت انتفاضة الجماهير وصلت ذروتها مع هرب الشاه. ومع عودة قائد الثورة إلى البلد صار واضحاً أنّ الانتصار أصبح أكيداً.
عوامل مؤثرة في انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية:
يُعتبر انتصار الثورة الإسلامية ظاهرة مهمة في تاريخ إيران المعاصر، شأنها شأن أية ظاهرة تاريخية في العالم تأتي كنتيجة لسلسلة من العوامل والأسباب ولكلّ منها آثاره وتجلياته ونتائجه.بالإضافة إلى جذور الثورة الاجتماعية والتاريخية، فإنّ الذي ستجري مناقشته هنا هو العوامل والأسباب التي أدّت إلى انتصار الثورة الإسلامية فضلاً عن العناصر الواردة من خارج طبيعتها والتي شكّلت في النهاية سلسلة من الحقائق الواضحة ساهمت في حدوثها.
ولكي نفهم أهمية هذه العوامل، من الضروري أولاً الأخذ بنظر الاعتبار سلطة الشاه المستبدة ومدار اعتماده على القوى الأجنبية وخاصة الولايات المتحدة، مضافاً إلى الحرمان، وكذلك القوة السياسية التي زعمها من خلال هذه العلاقة. وهنا يطرح سؤال نفسه كيف يتحطم نظام وهو بهذه القوة والهيمنة والتسلّط؟ وكيف تحدث مثل هذه التحولات الاجتماعية ـ السياسية، وبشكل دراماتيكي، وبقوى متسارعة غير منظورة؟ وكيف تتهاوى أيدي الشاه القوية وتعجز عن السيطرة على الأوضاع وهو يرى نفسه أنه فوق الطبيعة ويحمل رسالة مقدسة[182]، وأخيراً كيف تنتهي هذه الدراما بانتصار الثورة الإسلامية! فقبل سنة واحدة فقط من هذا الانتصار وحينما كان ضيفاً في حفل أُعدّ له في طهران، قال كارتر قولته الشهيرة: «إن إيران هي جزيرة استقرار في أكثر مناطق العالم عنفاً أو هيجاناً».
حول هذه الملاحظة، نودّ تثبيت النقاط الثلاثة التالية:
1 ـ من الواضح عند مراجعة جميع النظريات والمفاهيم المختلفة حول أسباب انتصار الثورة، يمكن القول أن أغلب التحليلات ،وخاصة تلك التي قدمها محللون سياسيون غربيون، تعتمد على رؤية محدودة ولفترة محددة من الزمن، وجاءت مختزلة، وفاشلة لأنها لم تأخذ بنظر الاعتبار، الأرضية الأيديولوجية المعقدة والأصول التاريخية المتواصلة التي قادت إلى تفجير حدث الثورة.
2 ـ كل محلّل ووفقاً لرؤيته المحدّدة الخاصة، وتفكيره وخلفيته كان يؤكّد على عامل أو عدّة عوامل ويقدّمها كعوامل أولية أو
رئيسية فيما كان يضعّف العناصر الأخرى معتبراً إياها ثانوية أو أقل أهمية. الأساس لكل هذه التحليلات يحتاج إلى توضيح لا يمكن العثور عليه فيها.إن مقياس العامل في كونه أوليّاً أو ثانوياً يتحدد في مداره الزمني وقربه أو بعده من الظاهرة أو تأثيره المباشر أو غير المباشر عليها. نحن نستطيع تحديد شدّة تأثيره كقاعدة للحكم، وكذلك أهميته وطبيعته. أما وجهات النظر الأخرى التي لها دور عادةً في تحديد السبب وكونه أولياً أو ثانوياً فتنفع في تحديد الاختيار فقط.
3 ـ على العموم، أن تصنيف وجهات النظر المتباينة والمشتملة على تحليلات وقراءات مختلفة لانتصار الثورة، تُعتبر مهمة
صعبة وشاقة. وتتأتى هذه الصعوبة من تداخل العلاقات بين العوامل السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والدينية، لأنه وأثناء مناقشة أية ظاهرة سياسية، فإنّ كل عنصر اقتصادي أو ديني سيتحول بطبيعة الاستنتاج إلى عامل سياسي. كما أنّ كل العناصر السياسية للظاهرة، ورغم أشكالها وملامحها المغايرة ستحسب بالنتيجة مع العوامل المحسوبة، وبسبب هذه المشكلة فإننا سنتجنّب تقديم تصنيف محدّد، أو طريقة خاصة لتقييم ودراسة النظريات المختلفة الواردة حول الثورة الإسلامية في إيران.المبدأ الذي راح خلاله المحللون السياسيون الغربيون يقرأون الثورة أنهم التفتوا إلى المظاهر السلبية فقط عند مناقشتهم سقوط الشاه، بينما أعطوا اهتماماً أقلّ للعوامل الإيجابية. وحين نرى أن معظم النظريات حول الثورة الإسلامية، تُظهر سقوط الشاه كمحور رئيسي، فإنّ السبب يعود في الحقيقة إلى تفكير المنظّر الدوغماتي المغلق.
سياسة التحديث:
إنّ حفظ هيبة واعتبار النظام الملكي يحتاج إلى قدر كبير من الدعاية، لأن النظرة الشعبية بخصوص هذا النوع من الأنظمة هو تخلّفها وارتباطها بظروف العصور الوسطى.
ولهذا فان الأقطار المحكومة من قبل الأنظمة الملكية حيث يتمتع الملك بسلطات سياسية وشرعية واسعة ،يصير عليه أن يغيّر أفكار الناس ويخلق في أذهانهم صورة حديثة عن الحاكم.
ففي داخل إيران حاول نظام الشاه تغطية نقطة الضعف الرئيسية هذه بإيجاد نوع من الضجيج عن 2500 سنة من النظام
الإمبراطوري، مستخدماً القومية في ربط إيران الإسلامية مع إيران الساسانية، والإمبراطوريات الـ Achaemenid وبجهود حثيثة في سوء استخدام الباحثين المحليين والأجانب في طباعة ونشر الكتب التي تحاول إحياء الثقافة الملوكية..
ان «بوابة الحضارة العظمى» كانت آخر التقليعات السياسية المستحسنة غربياً التي استخدمها الشاه لتقديم حكمه للأجانب وجعله يظهر بمظهر النظام الحديث. على أية حال أنّ سياسة إيران التحديثية تركزّت على شيئين: الأوّل: هو سياسة دعائية باهضة الكلفة وواسعة كان الشاه قد طيّرها باستخدام وسائل الإعلام المحلية والعالمية، والثاني بإعلان ونشر وترويج الثقافة الغربية واستيراد تقنيتهم المتطورة وبضاعتهم المترفة الباذخة، دون أي منهج مدروس وحقيقي للاستفادة من خطواتهم التقدمية الحساسة.الحقيقة أن تسرّع الشاه في تنفيذ هذه السياسة، له علاقة مع استمرارية وإدامة حكمه، كتّاب مثل ميشيل ليدن ووليملويس في كتابهم الموسوم بـ (سقوطكارتر والشاه) The Carter and the Shahsfall، ووليم فوبس في كتابه (اعترافات الشاه) Confessions of Shah مضافاً إلى ذلك الكتاب المعروف بـ (سقوط عرش الطاووس)، وكذلك مقالات انثوني بارسونز، السفير البريطاني في إيران في كتاب (غروروسقوط)، والعديد من أنصار الشاه والموالين له الذين كانوا متعاطفين معه، جميعهم لاحظوا بأن هذه السرعة غير المعهودة كانت السبب الرئيس في سقوطه.
فبالنسبة لهم، إن النهضة المفاجئة لمشاعر جماهيرية حساسة، كانت النتيجة الطبيعية لخمس عشرة سنة من الضغوط المفروضة على الناس من أجل ما يسمى تحديث البلد، ولأن هذه السياسة مسّت الثقافة والمؤسسات الإيرانية التقليدية، فإنها انتهت إلى وضع خطير بحيث ظهرت الطبقات الدنيا في المجتمع الإيراني وكأنها ملصقة بظروف مرعبة، وأخيراً فإنّ هذه الموجات من المشاعر الحبيسة فتحت الطريق أمام موجات مدمّرة لمعارضة النظام، فسبّبت إسقاطه.
ووفقاً إلى بيانات الشاه ـ فإنّ برنامجه السريع كان بحاجة إلى فترة طارئة أو استثنائية، وانه فينفس تلك الفترة وجد نفسه في خضمّ الأزمات وفي دوائر صيدها.[183]
ولعدم الالتفات يكون هذا التحليل ناشئ من سياسة دعائية، فإنه يشير إلى التناقض في طبيعة النظام وعلاقته السياسية مع
الجماهير. فالشاه، من جانب، يمجّد المبادئ التقليدية الإيرانية، ولكنه من جانب آخر، يزعم أنها لا قيمة لها وأنها غير ذات فائدة في برنامجه التحديثي للبلد.
أنهم يثيرون تساؤلات رئيسية مفادها لماذا لم يكن النظام قادراً على إعداد الأمة للوقوف على طريق التحديث أو التطوّر قبل
المغامرة باقتحامها، وأكثر من ذلك، انه لم يوضّح بشرف وصراحة كيفوا لماذا وقع النظام في أخطاء عديدة.
إلاّ إن النقطة المهمة في هذا التحليل غير الواقعي هي إن الشاه وأتباعه المحللين الرسميين، الذين طرحوا هذه النظرية في الدفاع عنه، تجاهلوا حقيقة قانون السبب والنتيجة، وكيف أن ظاهرة كبيرة بحجم سقوط نظام يشترك في دعمه الشرق والغرب، وانتصار ثورة متجذّرة لها أرضية أيديولوجية وتاريخية، يمكن أن تتأتى من هذا العنصر السطحي أو الظاهري.
عند مراجعة هذا التحليل، بالإضافة إلى هذه المعميات، فانا سنأتي إلى عدّة أسئلة لم يستطع أولئك المحللون الإجابة عنها. من هذه الأسئلة والتساؤلات يمكن الإشارة إلى بعضها أو قليل منها:
1 ـ إنّ أنصار هذا التحليل ومن أجل التغطية على ضعف السلطة وخوائها، فإنّ جميع المشاكل صارت تُنسب إلى ضعف الأمة زاعمين بأن المجتمع الإيراني التقليدي لم يستطع هضم جميع هذه المشاريع التحديثية، ولم يستطع التعاطي معها. فقدان الكفاءة هذا أوجد مشاكل خاصة أخرى أكثر تعقيداً، وبذلك وجد المجتمع نفسه مضطراً للنهوض والثورة. كيف يمكن إثبات هذا القول بعد أن أثبتت الأمة في إيران خلاف ذلك وبخطوات هائلة وتحولات جذرية على كافة الأصعدة
السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية والبناء الاجتماعي. كيف يمكن القول أنها غير قادرة على هضم المشاريع المعاصرة واستيعاب برامج التحديث؟! أين هي نقاط الضعف في هذه الأمة التي كان الشاه معجباً بها كأمة تحمل راية 2500 سنة من الحضارة الإمبراطورية، ولكنها حالت دون تبنّي خطوات أخرى لحياة أفضل؟ لماذا وصلت إلى هذا المستوى من فقدان الكفاءة العقلية بحيث أصبحت أكثر تخلفّاً حتى من الأردن ومراكش اللتين كان مليكيهما يمشيان في أعقاب الشاه وعلى خطاه منفذّين نفس الخطوات والبرامج في تحديث بلديهما؟
2 ـ لماذا كانت تُستخدم كل واردات النفط والتي وصلت إلى 20 مليار دولار أمريكي
سنوياً كودائع في البنوك لتمنح عملياً فوائد دائمة وقروض كبيرة للغرب والأقطار الحليفة له؟ ولماذا كانت هذه الواردات تُستخدم لشراء أسهم الشركات الأوربية والأمريكية الفاشلة وكذلك المعامل مضافاً إلى مشتريات غير مدروسة للأسلحة والماكنة العسكرية والمعدات غير الضرورية؟!.لقد عرف العالم جيداً بأن كل هذا (الكرم) انما جاد به النظام الذي كان شعبه وفي مناطق واسعة يعاني من وطأة الحرمان وعلى كل المستويات، نعم، من انخفاض التعليم الابتدائي، والعناية الصحية وحتى شبكات الاتصال. كل ذلك الكرم، كان على حساب
الناس في بلد يستطيع المرء أن يعثر في عاصمته الكبيرة على أحياء فقيرة مرعبة القذارة.
ومن هنا، فلا يوجد تعريف محدد لأي برنامج اقتصادي ماعدا نظام الصرف غير المسؤول والتواطؤ ،والصفقات المعقودة من تحت الطاولة.
3 ـ ما هو نوع التحديث الذي تم تنفيذه في الوقت الذي سيق فيه النظامان الزراعي والصناعي الضعيفان إلى الدمار، فضلاً عن ذهاب مليارات الدولارات من أموال النفط لشراء الحبوب من أمريكا، والرز من تايلند، والبطاطا من الهند، والبصل من باكستان، والبرتقال من أفريقيا الجنوبية والدجاج من نيوزلاند والبيض من اسرائيل والجبن من الدانمارك والأغنام من تركيا واللحم المجمد من استراليا، والموز والمنتوجات الاستهلاكية والمواد الصناعية الرديئة النوعية والأسلحة القديمة من الأقطار الغربية؟ نعم كان نتيجة هذا التحديث التضخّم وتصاعد سنوي له بلغ 25% وكان يبتلع كل الزيادة في الأجور والأرباح، فيما كان أكثر من 85% من الموظفين والمستخدمين مدينين للبنوك أو لكبار الرأسماليين.
ورغم كل هذه الملابسات والتساؤلات، فإنّ كاتب كتاب (نهوض وسقوط الشاه) Rise and Fall of the Shah يصرّ على
الاستدلال منطقياً بأن الشاه نفسه أدرك أن تسرّعه واندفاعه لتحديث المجتمع الإيراني سوف يعرّض موقعه إلى الخطر. ونتيجة لذلك فانه قلّل هيمنته المطلقة وتبنّى سياسة مركزية تنسجم مع متطلبات الملوكية مشفوعة بسلسلة من الإصلاحات تتواءم مع مطالب الناس. إلاّ إن هذه الإجراءات جاءت متأخرة جداً.إن التفكير غير المنطقي لعدد من المحللّين مثل فريد هاليداي في مقالته الموسومة بـ «الثورة الإيرانية: تنمية غير سويّة وشعبية دينية» يذهب بعيداً إلى ما وراء سلسلة الشاه الذهبية المفقودة في تحديث إيران، وعميقاً في نظرية الشاه حيث أصبح ضحية التحديث الإيراني. إنه يقارن أفكار الثورة الإسلامية مع رغبات الشاه، ويزعم بنوع من الوقاحة تجعل نزاهته أمام تساؤل، وهو يقول: «على الرغم من كون الوجه الثاني للثورة الإيرانية دينياً، ولكنه يرفض فكرة التطوّر والتقدم».
ظهور القوة الجديدة:
البعض يعتقد بأن زيادة أسعار النفط عام 1971، وجنباً إلى جنب مع الإستقرار السياسي في المنطقة ،وقوة الشاه العسكرية ،كل ذلك حوّل إيران إلى قوة جديدة في المنطقة وجعلها وجوداً مهماً في السياسة الدولية.
پاول أردمان في روايته السياسية (سقوط 79) حاول أن يصوّر قوة الشاه في إيران كوحش مرعب يحلم بإشعال حرب عالمية ثالثة يخرج منها منتصراً.
أوريانا فلاسي في كتابها (لقاء مع صانعي تاريخ العالم) Interview with the Worlds History Makers ومع تردّد
قليل، تقول بأن الشاه كان رجلاً طموحاً وخطيراً لأن الملامح القديمة والجديدة اختلطت فيه، وهذه ليست فقط ضد مصالح شعبه، ولكنها ضد أوربا أيضاً. ألم يكن صحيحاً أن محمد رضا شاه امتلك أكبر آبار النفط في العالم؟ ألم يكن جيشه يفتقد القنبلة النووية فقط؟ ألم يكن قادراً مثلاً، على احتلال العربية السعودية والكويت ونشر قواته على عموم الخليج الفارسي؟ ألم يكن قادراً على أن يصبح كابوساً لأمريكا والإتحاد السوفياتي ويُحيّد كلتا القوتين العظميين؟ فريد هاليداي في كتابه (إيران، دكتاتورية وتحوّل) يكتب بأن النمو الاقتصادي لسنّي ما بعد 1963 وضع أسلحة جديدة بيد الشاه وحوّله إلى قوة مخيفة.
وفقاً لهذا التحليل، نشأت مخاوف الغرب من القوة الجديدة في المنطقة وأصبحت السياسة الدولية عنصراً مهماً في سقوط الشاه، ومن ثم محمد رضا شاه الذي كان في الحقيقة الضحية الثانية بعد أبيه، إذ وفّر بنفسه الوسائل الكفيلة بإسقاط حكمه.
سيغال في كتابه (ظهور وسقوط الشاه) يكتب قائلاً: «إنّ أهداف الشاه الرئيسية كانت بناء قوة إمبراطورية كمحور للسياسة
العالمية، وإيجاد إيران قوية ونامية ومستقلة قادرة بالتالي على أن تصبح قوة رأسمالية معتبرة. ومن أجل الوصول إلى هذه الأهداف فانه انتهج طريق التنمية الاجتماعية والاقتصادية باتجاه الرأسمالية». يبدو أن قسماً من هذا المفهوم يعود إلى مزاعم الشاه ومناوراته السياسية في لقاءاته والتي لا ترجع عادة إلى ركن ركين، وإنما ناشئة من حالة ضعف، أو نقاط ضعف يحاول التغطية عليها عبر هذه التصريحات.تحت ضغط حركة الإمام الخميني، وجد الشاه ملاذاً في الدين، وقال انه مختارٌ من قبل اللّه‏ لأداء رسالة إلهية، ومع ذلك، فإنّ قوته
مشتقة من البندقية. في لقاء له مع فالاسي وضع الشاه قوته بين أسنان العالم حينما قال: «عندما يكون ثلاثة أرباع الأمة أميّين، فإنّ الطريق الوحيد لتنفيذ برامج الإصلاح هو امتلاك وتكوين قوة مطلقة وسلطة قوية جداً، وبغير ذلك فلا مجال...».
«إننا أقوياء جداً في القوة العسكرية على الرغم من عدم امتلاكنا القنبلة الذرية، ومع ذلك، فإني أشعر بقوة أننا نستطيع المقاومة والصمود لحرب عالمية ثالثة ربما تندلع» «وفي الحقيقة إننا نحن الذين يسيطرون على مصادر الطاقة في العالم، ولكي يصل النفط إلى باقي أرجاء العالم، فإنه لن يمر عبر البحر الأبيض المتوسط وإنما عليه أن يمر عبر الخليج الفارسي والمحيط الهندي».
«أنا أقول: إن إيران هي مفتاح العالم، أو على الأقل، واحد من مفاتيحه».[184]
روبرت گراهام في كتابه: «إيران: وهم القوة» يكتب بأن الشاه ارتكب خطأً فادحاً بالتعويل كثيراً على مصادر إيران المالية
وتجاهُل قدرة البلد على توظيف هذه الواردات توظيفاً جيداً ويضيف:
«لقد أغاظ الشاه السعوديين والأقطار المجاورة وأقلق أمنهم بتنمية وخزن أكبر مذخر للأسلحة المعقدة في العالم فضلاً عن تدخّله بالشؤون الداخلية للأقطار المجاورة والمنطقة. كما أغاظ الاتحاد السوفياتي والكرملين لعقده معظم صفقات الأسلحة مع الولايات المتحدة وبهذا سبّب إلاخلال بالميزان التجاري الدولي الأمر الذي أثار استياء الدول الأوربية أيضاً. صورته المستبدة في
التلفزيون كانت تثير مشاعر الشعب الأمريكي ضده، بل حتى المجتمع اليهودي أصبح يشعر بقلق عميق من تنامي القوة العسكرية الإيرانية».
لم يبق هناك أدنى شك في حقيقة إن الشاه مثل أبيه أصبح غارقاً في وهم القوة.ومع ذلك، فإنّ هذا الوهم الفارغ لم يكن مثيراً لدرجة أن يسبب خوفاً للولايات المتحدة والأقطار الغربية.إنّ ظهور وسقوط رضا خان بيّن أن الدمى يمكن أن تُنحّى جانباً بنفس السهولة والسرعة التي جيء بها أو رُقيت إلى مركز القوة. التاريخ يؤكد هذه الحقيقة مرّة أخرى بخصوص محمد رضا خان.فريدهاليداي يُصوّر دعاوى الشاه بالعظمة وكأنه شكّل فكرة تقول: بأنه يستطيع أن يحكم القطر بدون مؤيدين مخلصين أو موالين[185].مثل هذه التحليلات كأوهام الشاه في العظمة والقوة، تستطيع ولدرجة ما، أن توضّح موقف الغربيين الحذر حول سقوط حلفائهم
وتجيب على السؤال القائل: لماذا يستحق الحليف، رغم كونه حليفاً، مثل هذا السقوط المخزي؟! إقتصاد إيران غير المنظّم:
المحللون السياسيون الغربيون يوضحون الدور الذي لعبه الاقتصاد الإيراني المهرجل في سقوط الشاه ضمن النقطتين التاليتين:
1 ـ إنّ ارتفاع الآمال الشعبية الناشئة عن فترة التقدم الاقتصادي والفجوة التي أوجدتها بعد ذلك ،أرعبت الناس وساعدت على اتخاذ موقف ثوري.جيمس ديفيس في (نمو نظرية ثورية) يبيّن هذا المنهج بالتواء خاص، يسمى انحناء الـ J - curve ويقول: «قبل الوصول إلى قمة الانحناء يبدو إن التحوّل اللازم يعني احتمال الزيادة في القلق والإرباك وعدم الاستقرار». بالعودة إلى هذا الانحناء، يختتم ديفيس أو يستنتج بأن الثورات غالباً ما تحدث عندما تراهن على رحلة طويلة من تقدم اجتماعي ـ اقتصادي واضح، فهناك تأتي فترة قصيرة من الكساد والركود. في هذه الفترة يقلق الناس ويرتبكون ويُرعبون فيتجهون نحو الاحتجاج والصخب.لورنس مارتن يقدّم تحليلاً مشابهاً في مقالته (دور إستراتيجية إيران المستقبلية) ويزعم أنّ العامل المسبّب في سقوط الشاه هو الحقيقة القائلة بأن التقدم الإقتصادي يمكن على الأقل من وجه معين أن يسبب صخباً وضجيجاً أكثر من الاستقرار الاقتصادي. وكما ذكر سابقاً أن ساموئيل هنتنغتون يعتقد بأن التقدم الاقتصادي يقود أحياناً إلى فقدان الاستقرار.عند تفسير هذه النظرية يمكن القول بأن الارتفاع الكبير والمفاجئ في أسعار النفط أوجد مصدراً مالياً عظيماً وجديداً على طريق التنمية الاقتصادية في إيران في العقد المحصور بين 1960 ـ 1970. وفي هذا الظرف زعمت إيران إنها حازت أعلى نسبة تنمية اقتصادية في العالم.
في عام 1975، هبط إنتاج النفط إلى 20%، ونتيجة لذلك وفي عام 1976 كانت إيران مدينة بأكثر من 3 مليار دولار
للمتعاقدين. خزينة سنة 1976، 1977 كشفت عن عجز قيمته 4ر2 مليار دولار مع نسبة مهمة من قروض أجنبية.
روبرت گراهام، عند ذكره هذه النقطة، يستدل بأن الشاه ارتكب خطأ بالتعويل كثيراً على المصادر المالية الإيرانية واعتقد بأن النمو الاقتصادي المتراخي يعود إلى قوى خارج القطر، وضمن هذا الاستنتاج أشار إلى أنّ «الدخل الهابط ومبيعات النفط لا يستطيعان الإجابة على التوقعات والآمال الجديدة»[186].
النقطة المهمة جداً التي تم تجاهلها في هذا التحليل والتي لم يوفق جميع المحللين الذين تحدّثوا عن التنمية الاقتصادية الإيرانية في ضوء زيادة أسعار النفط إلى ذكرها، هي أين وكيف والى أية درجة حدث هذا التقدّم الاقتصادي المفترض أو المزعوم.
إنّ الواجهة النظرية لهذه الفكرة تقول «أنّ نسبة الزيادة في هذا النمو الاقتصادي السريع والمفاجئ والتي سوف تسبب عدم
الاستقرار واضطراب بين طبقات المجتمع» يمكن أن تكون عبارة مقبولة.ومع ذلك، فإنّ استخدامها مع الثورة الإسلامية الإيرانية يمكن أن يكون مقبولاً أيضاً شريطة أن يمتلك هذا النوع من القراءة السياسية، وقبل كل شيء، دليلاً كافياً على البرهنة بأن مثل هذا الحدث الكبير في تنمية اقتصادية سريعة يمكن أن يحصل في حقبة حكم ملكية قاسية ومتوحشة. أنّ استنتاجهم حول الزيادة في دخل النفط هنا كان خطأ وإنه لا يرتكز على استدلال منطقي.
2 ـ العنصر الثاني المطروح من قبل أنصار النظرية الاقتصادية هو الحاجة إلى برنامج اقتصادي واضح وداعم للسياسة المدمرة الناشئة عن البذخ الإمبراطوري الذي ساهم في تبديد أموال البلد على مسائل فارغة أو تافهة، مثل إحياء مناسبات إمبراطورية تعود إلى ما قبل 2500 سنة، فضلاً عن توزيع غير عادل وغير منصف للثروة الوطنية.
باختصار أنّ الفساد والظلم، والتبذير وفقدان العدالة الاجتماعية مضافاً إلى الفقر أو الحرمان الذي عانت منه الأغلبية العظمى للمجتمع الإيراني هي الظواهر التي عمّت البلد في تلك الفترة.ورغم أن المحللين الغربيين أعطوا اهتماماً أقل لهذا العامل، فإنّ هناك عدداً قليلاً منهم أظهروا اهتماماً بهذا الموضوع وذكروه في تحليلاتهم.[187]
وطبقاً لهذه النظرية، وما تجره من سياسة بذخ وإسراف، فإنّ زيادة واردات النفط قد تحولت إلى حالة تضخّم مروّعة وعمّقت الهوّة بين المدينة والريف، وكان نتيجتها هجرة غير منضبطة للمدن وإهمال للزراعة والحقول في القرى، مع بطالة ضاغطة وتفاوت في الدخول مثير للضغائن داخل المدن نفسها الأمر الذي أحدث فجوات طبقية في المجتمع المدني وما يتبع ذلك من تداعيات ونتائج غير حميدة.
على ضوء دراسة واحدة، تبيَّنَ أنه حتى منتصف السبعينات كان هناك 2% فقط من سكان المدن هم المستفيدون من 40% من الإنفاق الكلّي، فسكان المدينة الفقراء كانوا يعانون من أزمة السكن، وكان عليهم أن ينفقوا أكثر من 70% من مداخيلهم على الإبجارات، عدد السكان في بعض المدن تضاعف خلال عقد واحد، كما أنّ الانهيارات الأخلاقية في العوائل الكبيرة زادت من حدّة المشاكل وزيدت أعداد المؤسسات دون أية دراسة مسؤولة أو مخططة، وكانت فقط لتوفير فرص عمل مزيفة من أجل تقليص نسبة البطالة.هذا التحليل جدير بالاهتمام لأنه يوضّح بُعداً واحداً من أبعاد الخراب الاقتصادي لنظام الشاه والذي يمكن الاستدلال عليه بسهولة. بمجرّد نظرة فاحصة لنمط حياة الأغنياء مقارنة بإخوانهم الفقراء في تلك الفترة. ومع ذلك، تبقى إشكالية هذا التحليل إنه يقدّم الإنحطاط والانهيار الاقتصادي كسببين رئيسيين من أسباب سقوط الشاه، وبالنتيجة عاملاً أساسياً من عوامل انتصار الثورة الإسلامية.
سبب رئيسي من أسباب ضعف هذا النوع من التفكير، هو إن الظروف الاقتصادية كانت تحسّنت بعد انتصار الثورة قياساً بفقدان المساواة وفقدان العدالة الاقتصادية والحظر التجاري والضغوط المفروضة من قبل القوى الأجنبية ووطأة الحرب المفروضة مع العراق وغير ذلك من المشاكل التي ترافق كل الثورات وما يتمخّض عنها من صعوبات جديدة. وهذا ما سبّب استياءً حتى في أوساط مؤيّدي الثورة أنفسهم، ولكنه لم يمنع الناس من المشاركة في الشؤون السياسية وتقديم الدعم غير المحدود لقادتها، ودليل ذلك مساهمتهم الفاعلة في جبهات الحرب وتحملّهم عبئاً ثقيلاً في تسديد نفقاتها المكلّفة.
هناك تحليل ثالث لا نرى ضرورة التركيز عليه أو مراجعته ويتعلّق بدور الاقتصاد في حوادث 1978 ـ 1979 والمقدّم من قبل محلّلين ماركسيين، ويعتمد عادةً على عرض نموذج عالمي جاهز تنطبق عليه كلّ التحولات والثورات في العالم.
سياسة حقوق الإنسان المفروضة:
قدّم الرئيس الأمريكي كارتر مشروع حقوق الإنسان كمفتاح رئيسي لحّل مشاكل أمريكا المحليّة والدولية، ودعا إلى ممارسة شيء أكثر من وسائل الدعاية مُلزماً الحكام المستبدين المحسوبين على الولايات المتحدة، بمن فيهم النظام الإيراني، بالانفتاح على الناس وتوفير أجواء سياسية مفتوحة لهم.كان الشاه نفسه يعتقد بتركيز السلطة والنمط الدكتاتوري في الحكم، وكان يكره النمط الغربي المنفتح على الليبرالية والديمقراطية. وانه لم يتردّد في ذكر قناعته هذه بوضوح وصراحة في لقاءاته مع الشخصيات ووكالات الأنباء الأجنبية.
ففي لقائه مع فالاسي، قال الشاه بجسارة: «أنا لا أريد هذا النوع من الديمقراطية، هل تفهمين؟أنا لا أعرف ماذا أعمل بهذا النوع من الديمقراطية. خذوا كل هذه الديمقراطية لكم! سوف ترون في غضون سنوات قليلة، كيف ستقودكم ديمقراطيتكم هذه، وأين ستصلوا بها أو ستصل بكم!!»[188] لقد اعتبر الشاه سياسة حقوق الإنسان ومنح الحريات للناس بأنها سياسة مفروضة، ورآها متناقضة تماماً مع سياسته المستبدة.وفقاً لبعض هؤلاء المحللين الغربيين وحتى القليل من الإيرانيين، إن سياسة التحرير الأمريكية في إيران انتهت بتمزيق المسار العادي لنظام الدكتاتورية الشاهنشاهية وتهديم البنائين الاجتماعي والسياسي للنظام. وعندما فقد النظام أدواته الضرورية للسيطرة على الأزمة، وراح يمارس الضغط السياسي من خلال القمع والتعذيب والاعتقالات والحرمان ومصادرة الحقوق السياسية والاجتماعية، فإنّ المعارضة تشجعت لتصعيد نضالها ضده، وكانت النتيجة أنها أنهت حكمه.
الليبراليون الدينيون الإيرانيون رحّبوا بهذه النظرية واستحسنوها ورجعوا إليها في تحليلاتهم فراحوا يكتبون مثلاً:
«أنّ الخطوة الشجاعة والمبدعة التي اتُخذت في بداية عام 1356 (مارس 1977) في دعم المعارضة السياسية والسجناء
السياسيين هي تأسيس الجمعية الإيرانية في الدفاع عن الحرية وحقوق الإنسان. هذه المنظمة مُنحت حصانة نسبية لم يسبق لها مثيل، وكذلك تسهيلات عملية بالاستفادة من سياسة حقوق الإنسان الأمريكية الجديدة التي نُفذت لحساباتهم الخاصة وضمن تنافسهم أو صراعهم مع السوفيت. وبهذا تم الضغط على الشاه لإنهاء ظلمه ووحشيته وملاحظة حقوق وحريات الشعب الإيراني...كسنجر، في كتاباته الأخيرة أشار إلى أنّ تنفيذ سياسة حقوق الإنسان في إيران تُعتبر واحدة من الأفعال الخيانية التي ارتكبها كارتر ضد الولايات المتحدة، وعاملاً حاسماً في فقدان الشاه وانتصار الثورة الإسلامية في إيران».[189]
سوليفان، يتهم كارتر وبوضوح في مذكراته بارتكاب جريمة الخيانة هذه، إذ يؤكد أنّ كارتر فرض على الشاه سياسته حول حقوق الإنسان متجاهلاً عواقبها وغير مبالٍ بنتائجها.[190]ومع ذلك، ومن خلال فحص وثائق البنتاغون والتأمل فيها، نكتشف أنّ حقوق الإنسان وسياسة الانفتاح في إيران كانت مجرّد دعاية وان إيران كانت استثناءً في هذه السياسة.
وعندما سُئل ممثل القسم الدولي للشؤون الأجنبية في الولايات المتحدة وهو عضو سابق في الإدارة الأمريكية في ما إذا كانت إدارة كارتر أوجدت أية علاقة بين بيع الأسلحة وحقوق الإنسان في إيران، يأتي الجواب بأن إدارة كارتر لم يكن لها أية نية على الإطلاق لتغيير سياستها السابقة. وبلحاظ هاتين النقطتين، إن إيران كانت استثناءً.[191]
وبذلك، فإنّ الحديث عن سياسة كارتر لحقوق الإنسان كعامل من عوامل سقوط الشاه، أو سبب في إيجاد ظاهرة عظيمة كالثورة الإسلامية في إيران، وبصرف النظر عن تهافت الموضوع، أو كونه عاملاً ثانوياً، فإنّ مثله ذا التحليل لا ينسجم مع حقائق ووقائع مسار الثورة ،ولا يقدّم أي دليل لتأكيد هذه الدعوى.إنّ إدارة كارتر كانت استثنت إيران من انتهاج هذه السياسة. بالإضافة إلى ذلك، أنّ لدينا اعتراف بارسونز الذي يرفض نظرية الضغط السياسي هذه من قبل ادارة كارتر، وفي الوقت نفسه يثبّت وبوضوح بأن أولى إشعاعات الحرية كانت تكشفت في شتاء 1976، أي قبل شهرين أو ثلاثة من تسلم كارتر لمنصبه.
في نهاية هذه المناقشة، يجب أن نلاحظ بأن فكرة الجو السياسي المفتوح التي نُسبت إليها العديد من المعاجز، لم تكن شيئاً يستحق الإثارة وإنمّا مجرد دعاية قصيرة العمر، وان الشاه كان يتمتع بدعم البيت الأبيض وهو في قمة ممارساته الوحشية والتعذيب والسجون والقتل الجماعي وحتى آخر أيام اعتلائه السلطة في إيران.عناصر أخرى عجّلت في الثورة:
إضافة إلى النظريات الأربعة التي مرّ تعميمها، هناك افتراضات أخرى يمكن تقديمها أيضاً نذكر بعضاً منها:
1 ـ السياسة الأمريكية تجاه إيران التي كانت مرتبكة، وتحتاج إلى تنسيق.
2 ـ الدور المباشر والأكثر الأهمية في وسائل الإعلام العالمية، الذي أدّته الإذاعة البريطانية BBC بلحاظ ما كان يجري في إيران.
3 ـ شهادة نجل الإمام ومناسبات التأبين التي أقيمت على رحيله والتي قادت إلى سلسلة من التظاهرات والأحداث.
4 ـ نشر المقالة المهينة في صحيفة اطلاعات 17 دي 1337 (يناير 1977) التي استفزّت مشاعر الجماهير الدينية الحساسة.
5 ـ انتشار الظلم والقمع والتعذيب والزنزانات والسجون المظلمة وأخيراً قتل الناس بلا رحمة كل ذلك جعل الأمة في إيران تفقد
صبرها وتثور ضد النظام.
6 ـ المظاهرات المليونية في المناسبات المختلفة التي أفقدت الحكومة تهوّرها في الوقوف ضد إرادة الأمة.
7 ـ سياسة قطع النفقات أثناء وزارة أموزگار.
8 ـ إئتلاف المنظمات الاجتماعية المختلفة، والأحزاب والمؤسسات السياسية حول هدف واحد وإستراتيجية عامة واحدة.
9 ـ فقدان الشاه لولاء قواته المسلحة الأمر الذي أفقده القوة الكافية لقمع الحركة الثورية بشكلٍ فاعل.
10 ـ سرطان الشاه الذي تم تشخيصه عام 1353 (1974) من قبل متخصصين فرنسيين والذي احتفظ به الشاه سراً من أسراره.
11 ـ اعتقاد الشاه العميق بالقدر وعدم استخدامه كامل قوته القمعية، وهذا ما منح المعارضة المزيد من الاندفاع والحماسة لمواجهته والانقضاض على حكومته.
12 ـ وقوع الشاه ضحية إجراءاته المتناقضة وسياساته المتدافعة.
13 ـ كان هدف الشاه الرئيسي هو تقوية سطوة الملكية باعتبارها محوراً رئيسياً في سياسة دولته، وبذلك أوقع نفسه في نفس الشراك التي نسجها حول نفسه.
14 ـ اتساع دائرة الفساد الذي عمّ كافة أجهزته والناس المحيطين به، وصولاً إلى الجهاز التنفيذي في البلد، إضافة إلى عدم قدرته للسيطرة عليه، وحتى بين أقرب المقربين في حاشيته وبطانته.
15 ـ إحساس الشاه بأنه في الأيام الأخيرة من حياته ورغبته في أن يعمل كلّ ما بوسعه لشعبه أملاً في تحسين صورته أمام الناس.
16 ـ النسبة العالية للأمية وقلّة التعليم في المجتمع، والتي تقول نظريتها: «كلما تعلم الناس أكثر ،كان إسقاط الحكومات الظالمة أسرع» أوجدت استياءً عاماً لدى الأفراد والجماعات وركّزت اهتمامهم على المواضيع السياسية، وأخيراً ثورتهم على النظام.
17 ـ تساهل الشاه في تعامله مع معارضيه، مثل الحكم الصادر على مصدّق بالسجن لمدة ثلاث سنين فقط، والإكتفاء بنفي الإمام الخميني، أمران أعطيا فرصة للمعارضين بمواصلة العمل ضده.
18 ـ إن وضع الشاه كشرطي لمنطقة الخليج الفارسي وتضخيم تأثيره في الأوبك OPEC أثارا حفيظة الحكام في المنطقة
الخليجية وخاصة حكام السعودية ودفعهم للتنسيق مع شركات النفط العالمية من أجل السيطرة على أسعار النفط، وترك الشاه يواجه مصيره لوحده.
19 ـ الضعف السياسي لنظام الشاه الذي كان يفتقد الشرعية، جاء مثَله مثل أبيه، الذي جيء به إلى السلطة عن طريق الانقلاب ولم تكن لديه وسيلة لحكم البلد الا من خلال القمع والدكتاتورية، وهذه هي النتيجة الحتمية لأي دكتاتور أو مستبد.
20 ـ إنّ شخصية الشاه الضعيفة، وعدم إطلاعه أو إطّلاعه على الوضع في البلد، وجنباً إلى جنب مع عزلته، جعلاه غير قادر على التعاطي مع مشاكل عام 1978، الأمر الذي أدى به في نهاية المطاف إلى خسارته عرشه.
السياسة اللإسلامية: العنصر الحاكم في سقوط النظام:
نظرتنا نحو التحليلات السابقة، والتي عُرض بعضها وتم تحقيقه، والتحليلات الأخرى التي عُرضت فقط دون توضيح، وبلحاظ
ما أوضحناه آنفاً حول مسار الثورة الإسلامية، يكشف أنكلّ واحد من تلك العناصر والأسباب كان مؤثّراً بدرجة معيّنة في الثورة. ومع ذلك وعند الحديث عن العوامل الحاسمة في قلب نظام الشاه، أو انتصار الثورة الإسلامية ،لم يعُد كافٍ تعريف العامل الأكثر تأثيراً بعض الشيء فقط. إننا يجب أن نعثر، بين هذه العوامل المتباينة، على العنصر أو العناصر التي لعبت دوراً رئيسياً ،وكانت سبباً في ولادة أو إيجاد العوامل الأخرى. واذا عثرنا على عنصر مهم وأساس بينها، فحينئذ ينبغي أن نعرضه بدلالة تاريخية موثقة.
فالثورة الإسلامية في إيران، وطبقاً لطبيعتها الإسلامية، شكّلت بحدّ ذاتها العناصر الكفيلة بانتصارها... ولكي نفهم هذه المسألة أكثر، علينا أن ندرس الثورة من داخلها.
وإذا بحثنا عن أي سبب أو عامل مؤثر، خارج طبيعة الثورة، وخارج نماذجها وجذورها التاريخية ،فإنّ الشيء الوحيد الذي يمكن العثور عليه والذي له الدور الحاسم على امتداد مسار الثورة منذ ولادتها وحتى الانتصار، هو سياسة الشاه المناهضة للإسلام. انه كان يرى أن استمرار حكمه أو استمراره كحاكم قوي يسعى لدعم ملوكيته، والحصول على المزيد من الدعم الأجنبي، فهو سعيه المتواصل لإزالة الإسلام من حياة الناس. فالإسلام هو العدو رقم 1 لأي نوع من أنواع الاعتماد على القوى الأجنبية. كما انه يرفض الاتكّال على القوى العلمانية ويحرّم هيمنتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية والثقافية على المجتمع، وان الشاه لا يستطيع مواصلة حكمه دون الاعتماد على القوى العالمية الظالمة. بالإضافة إلى ذلك، أنّ الإسلام يُعارض الحكم المستبد، وان نظام الشاه ليس له طريق في البقاء إلاّ عبر استخدام القوة والاستبداد وممارسة الحكم المركزي الفردي.بزعمه أن اللإسلامية يمكن أن تحرّره من عائق الدين الكبير لمواصلة الحكم وحلّ مشاكل سياساته المحلية والدولية يكون قد بدأ معركته في تاريخ هذا الإعلان بواكير عام 1340 (1961). وما دامت الأمة أمة مسلمة وان الشعب يؤمن بعمق برجال الدين والقادة الروحانيين، فإنّ الشاه ومن أول خطوة، واجه مقاومة رجال الدين الذين كانوا لسان الإسلام وصوت الشعب وكان بذلك واقفاً في عرض أهدافهم ونظرياتهم.
من أول الأيام التي انتهج فيها الشاه هذه السياسة، فإنّ حاجة الناس لمعرفة شيء عن أعماق المواضيع السياسية وألاعيب الشاه وخدعه السياسية، لم تكن قد تكاملت بعد أو تجانست. كما ان انجاز مثل هذا التكامل والتجانس يحتاج إلى قيادة. أنهم كانوا أيضاً بحاجة إلى الأدوات الضرورية في الوقوف ضد الماكنة العسكرية للنظام إذ كان من السهولة بمكان دحرهم وخنقهم. وكنتيجة لهذين السببين، فإنّ المرجعية الدينية، وعلى رأسها الإمام الخميني أخذت على عاتقها قيادة الجماهير وبدأت نضالها ضد إجراءات الشاه المناهضة للإسلام.
الوجه الأول في إستراتيجية الحركة الإسلامية في إيران، بزعامة الإمام الخميني هو إيقاف الشاه ومنعه من مواصلة هذه المؤامرة الخطيرة. وعندما فقدت قيادة الحركة كل آمالها في إيقاف النظام من مواصلة انتهاج سياسته اللإسلامية هذه، ابتدأت المرحلة الثانية من الكفاح ،وهيا لمقاومة والمعارضة السلبية. وقد أتُخذ هذا الإجراء من أجل إضعاف النظام وتعبئة الجمهور من خلال إطْلاعه على الأمور بامتداد الشهور والسنين..كانت المعارضة تشتمل على شيء قليل ومتقطّع مما يسمى الكفاح المسلح.عندما وصل النظام إلى حافة السقوط وفقد حصانته، وبعد أن أصبحت الأمة موحّدة بدأت المرحلة الثالثة، والتي خلالها بدأت نهاية النظام وجاء الختام بسقوط الشاه. هنا ظهَر نظام سياسي جديد في إطار ثورة إسلامية وكان منسجماً مع أفكار وأهداف محددة في هذه الثورة. ومع هذه تكشّف الضوء وانتهى ليل الظلام وتوهّج فجر الجمهورية الإسلامية ليضيء أفق إيران الإسلامية.بلا شك، وضمن مسيرة 15 عام للحركة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني والمدعومة من قبل رجال الدين والأمة المسلمة في إيران، كان هناك عامل أو أكثر، له أثر واضح أو مستور في تقدم الحركات. بعض هذه العوامل كانت مؤثرة في جميع المراحل أو الوجوه ،وبعضها الآخر كان لها تأثير في فترات معينة أو حالات معينة مساهمةً في إيجاد أو انبثاق عناصر أخرى.وإذا كنّا، ضمن هذا الفهم الجديد، نقدّم العناصر المذكورة في مسيرة الأحداث وفي مسار الثورة ،فإننا سنرى بأنها جميعاً كان لها تأثيرها في تقدم الثورة وصناعة أسباب انتصارها. ومع ذلك، فإنّ هذه العناصر ليست جميعها بنفس القدر من التأثير.وبنظرة أعمق، إن بإمكاننا العثور على عوامل عديدة أخرى أو عناصر مؤثرة إضافة إلى كل ما ذكرناه، ولكن تأثيرها كان متفاوتاً في تحديد مسار الثورة الإسلامية، قلّ هذا التأثير أو كثر.

السابق || التالي   || الهوامش

الدراسات السياسية  || المقالات السياسية || الكتب السياسية

مركز الصدرين للدراسات السياسية