مؤلفات الإمام الشهيد السيد محمد صادق الصدر ( قدس سره)

كتاب فقه الأخلاق لسماحة السيد الشهيد محمد صادق الصدر

وصلاة الجماعة أساساً تستحبُّ في جميع الفرائض. ويتأكد استحبابها في الصلوات اليومية خصوصا الأدائية, وخصوصاً في الصبح والعشائين، ولها ثوابٌ عظيم. وقد ورد في الحثِّ عليها والذمِّ على تركها ما لم يرد مثله في أكثر المستحبات.
وتجب صلاة الجماعة في موردين: في صلاة الجمعة, وفي صلاة العيدين, مع اجتماع شرائط الوجوب. ولا تجب بالأصل في غير ذلك. نعم، قد تجب بالعرض لنذرٍ وشبهه, أو لضيق الوقت عن تعلم القراءة مع قدرته على التعلم لصلاةٍ أخرى.
وصلاة الجماعة غير مشروعةٍ لشيءٍ من النوافل الأصلية, وإن وجبت النافلة بالعارض لنذرٍ ونحوه. ومعنى عدم مشروعيتها: إنها لو أديت كذلك بقصد القربة كان ذلك من التشريع المحرم.
ويستثنى من الصلوات المستحبة، بعض الصلوات التي تستحبُّ فيها الجماعة وهي صلاة العيدين مع عدم اجتماع شرائط الوجوب وصلاة الإستسقاء. وهي مستحبة بالأصل. وكذلك صلاة الجمعة مع حصول شرط وجوبها التخييريِّ باعتبار استحبابها عيناً، لأنها عندئذ تكون أفضل الفردين.
قالوا: ولا يعتبر في الجماعة قصد القربة، لا بالنسبة إلى الإمام ولا بالنسبة إلى المأموم. فإذا كان القصد من الأغراض الدنيوية المباحة مثل الفرار من الشكِّ أو من تعب القراءة أو الشهرة في المجال الدينيِّ أو غير ذلك، صحت الجماعة وترتبت أحكامها. ولكن لا يترتب عليها ثواب الجماعة.
ولا يجب قصد الجماعة للإمام في الجماعات المستحبة، ولا يجب إلا في صورة وجوب الجماعة بالأصل كصلاة الجمعة أو لعارضٍ كالنذر. وأما المأموم فيجب عليه قصد الجماعة، وإلا لم يجز له ترك القراءة مع قصد تحمل الإمام لها. فإن لم ينو الجماعة وجبت القراءة ولم تضره المتابعة شكلياً.
 

الفقرة (37)

تعيين الإمام
 
من شرائط صحة الجماعة، تعيين الإمام. فلا معنى أو لا تجوز الصلاة وراء إمامٍ مجهولٍ تماماً, أو الإئتمام بأحد إمامين بدون تعيين، أو الصلاة وراء هذا الرجل إذا كان فلاناً، فبان أنه غيره, وهكذا.
وتعيين الإمام المعنويّ ضروريٌّ ظاهراً وباطناً, فالإمام الظاهر هو من يقتدي به الفرد ويسير بسيره وهداه, والإمام الباطن هو العقل، فيجب على الفرد أن يعرف أنه يهتدي بهدى أيِّ عقلٍ من العقول. وإذا كان يسير طبقاً لعقله أو عقل إمامه، فيجب أن يعرف حتى عن نفسه هل إنه على حقٍّ أو على باطل.
وأما إذا لم يتعين لديه الإمام بأحد المستويين، فسوف يتبعثر عمله عقلياً ونفسياً وعاطفياً واجتماعياً, وبالتالي لا ينال أيّ هدفٍ محددٍ من الأهداف المعنوية أياً كانت صفته. ولهذا ورد: [من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة الجاهلية][[449]].
 
وعدم تعيين الإمام ناشئٌ من أحد الأسباب:
أولاً: الإهمال للطريق المعنويّ، واتخاذ الدنيا طريقاً. فهو لا يهتمُّ بالعقائد والأديان، وإنما المهمُّ الحصول على الدنيا قليلها وكثيرها، والمماكسة في تجاراتها والأخذ من أرباحها، ونحو ذلك.
غير أنه يمكن القول إنَّ مثل هذا الفرد أيضاً له إمام, إلا أنه اختار لنفسه إماماً دنيوياً وهادياً إلى مصالح العيش، بدلاً من الهداية إلى المصالح الواقعية، سواءٌ كان هو عقله الخاصّ أو فرد آخر من البشر يوجهه ويشرف عليه.
وهو في الأغلب لا يكون إلا من أئمة الضلال، فإنَّ هذا العنوان كما ينطبق على المرشدين إلى العقائد الفاسدة، كذلك ينطبق على المرشدين إلى الدنيا. والإرشاد إلى الدنيا بدون الآخرة ضلالٍ لا محالة. ومن هنا ورد: [اللهمَّ لا تجعل الدنيا مبلغ علمنا ولا أقصى همنا][[450]].
ثانياً: الغفلة عن ضرورة الإرشاد والتوجيه، فإنَّ الإهمال الذي أشرنا إليه، تارةً ينشأ عن عمدٍ وأخرى عن غفلة. فإذا ضاع الإنسان في متاهات الغفلة لا يكون له منقذٌ إلا حسن التوفيق الإلهيّ، عسى الله سبحانه أن يرفع غفلته ويلفته إلى واقع نفسه وحقيقة طريقه.
ثالثاً: العناد, فإنَّ الإهمال الذي أشرنا إليه تارةً يكون من باب المصلحة واللذاذة الشخصية، وأخرى يكون من باب العناد والتكبر عن الحقِّ والتعصب للباطل، ومثل هذا يختار الإمام الذي يشتهي من أئمة الضلال كي يقوده ويوجهه، سواءٌ كان عقله أو فرداً معيناً من البشر. لكي يضمن له مصلحة عظيمة في الدنيا، مما يعود إلى شخصه أو جماعته.
وقد تكون هناك أسبابٌ أخرى لعدم تعين الإمام، لا حاجة إلى استقصائها. 


الفقرة (38)

 معنى لزوم الجماعة
 
ورد في أخبار الفريقين[[451]] الحثُّ على لزوم الجماعة. وإنَّ الطاعة ولزوم الجماعة, من الأمور الواجبة شرعاً والضرورية اجتماعياً. وحيث يكون حديثنا عن صلاة الجماعة. إذن، فمن المناسب جداً أن نعطي فكرةً واضحةً عن مثل هذا الحديث.
 
وما يمكن أن يكون معنى لهذا الحديث عدة أمور:
الأمر الأول: لزوم أو حضور الجماعات في الصلاة. وهو أمرٌ مستحبٌّ جداً، والإلتزام به راجحٌ بلا شكٍّ شرعاً. وعليه الحثُّ العظيم في النصوص الإسلامية.
الأمر الثاني: إطاعة السلطة العليا في المجتمع المسلم، من باب أنهم أولو الأمر، طبقاً لقوله تعالى: [أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ][[452]].
وهذا الحكم كأنه مطلق، من حيث كون السلطة عادلةً أم لا. وكونها تحكم بالشريعة أم لا.
وهذا الإطلاق وإن فهمه البعض وذهب إليه، إلا أنه غير محتمل أن يكون مقصوداً ألبتة, لوجود الأدلَّة الدامغة المقيدة لهذه الآية الكريمة. والشريعة لا يمكن أن تأمر بالطاعة وأن تجعل الولاية لأيِّ شخصٍ مهما كان واقعه, إذ يكون في ذلك ظلمٌ للمسلمين، وحاشا الشريعة عن الظلم, لأنها من تشريع العادل المطلق سبحانه وتعالى.
الأمر الثالث: إطاعة السلطة العليا في المجتمع إذا كانت عادلة. وهذه هي نتيجة الدليل السابق.
الأمر الرابع: إنَّ المراد بالجماعة أكثرية المسلمين. ولزوم الجماعة يعني الكون معهم والإعتقاد بعقائدهم والتعاون معهم, وهذا صحيحٌ في حدود أن تكون الأكثرية على حقّ. وأما إذا أصبحت في أيِّ زمانٍ أو مكانٍ على باطل، فلزومها يعني لزوم الباطل, وهو ما لا يمكن أن تأمر به الشريعة العادلة.
الأمر الخامس: إنَّ المراد بالجماعة: الفرقة المحقة من المسلمين أياً كانت, حيث ورد عن  النبي : [إنَّ أمتي ستفترق على ثلاثٍ وسبعين فرقة، واحدةٌ في الجنة والباقي في النار][[453]].
فإذا ثبت لدى الفرد أنَّ اعتقاد هذه الفرقة أو تلك  هو الحق، وجب عليه اتباعه ولزوم جماعته، من دون ملاحظة كونهم أكثريةً بين المسلمين أم لا. فإنَّ المهمَّ أن يكون الفرد على حقٍّ ليس إلا. فإن كان أكثرية المسلمين على الحقِّ كان معهم، ومتى كان غيرهم على الحقِّ كان معهم، لاتأخذه في الله لومة لائم على أيِّ حال.
الأمر السادس: من معاني لزوم الجماعة: أن تكون هناك مصلحةٌ عامةٌ معينةٌ في مجتمعٍ من المجتمعات المسلمة، وقد اهتمَّ بها أكثر أفراد المجتمع، وهي قد تكون واضحة الصحة، سواءٌ كانت بمعنى جلب النفع أو دفع الضرر، وسواءٌ كان المضمون العامُّ دنيوياً أو أخروياً. فإنَّ التقدم للمجتمع المسلم مطلوبٌ على كلا المستويين بطبيعة الحال.
وعندئذٍ يكون المطلوب من أيِّ فردٍ لزوم الجماعة بهذا المعنى، يعني أن يهتمَّ بالمصلحة أو المصالح التي يهتمُّ بها سائر الناس في مجتمعه. ومن هنا ورد: [من لم يهتمَّ بأمور المسلمين، فليس بمسلم][[454]].
وأولى من ذلك: أن تكون المصلحة عائدةً إلى منطقةٍ كبيرةٍ من المجتمع المسلم, أو شريحةٍ مهمةٍ من شرائحه, أو إلى مجموع المسلمين في العالم.
هذا، وقد توجد هناك معانٍ أخرى للزوم الجماعة، قد تخطر على بال القارئ اللبيب، لا حاجة إلى استعراضها.
 

الفقرة (39)

 في تحمل الإمام القراءة عن المأمومين
 
وهذا من واضحات الأحكام في صلاة الجماعة، وعليه إجماع المسلمين، حيث يقرأ الإمام وحده الحمد والسورة، ويكون المأمومون عندئذٍ ساكتين منصتين لقراءته.
ولا يتحمل الإمام شيئاً آخر غير القراءة عن المأمومين، فيجب على كلٍّ منهم أن يأتي بأجزاء الصلاة وأذكارها الباقية جميعاً.
وترك القراءة هو الذي يميز صلاة الجماعة عن الصلاة الإنفرادية. كما إنه يربط صحة صلاة المأمومين بصحة صلاة الإمام. كما إنه هو الذي يكون سبباً لاشتراط نية الجماعة من قبل المأمومين، فلو لم ينو المأموم الجماعة، كان عليه القراءة بالحمد والسورة، وإلا بطلت صلاته. فنية الجماعة هي التي تربط المأموم بالإمام شرعاً، وتجعل الإمام نائباً عنه في القراءة، بمعنى أن تكون قراءته مغنيةً عن قراءة المأمومين.
وإذا وردنا إلى الجانب المعنويّ لفهم هذا الحكم، أمكننا أن نلاحظ أنَّ القراءة في الصلاة هي من القرآن الكريم، بل هما ـ عادةً ـ أفضل سور القرآن, الحمد والتوحيد، وفيهما تجتمع أسرار القرآن كله، كما قد ورد[[455]]. كما قد ورد أنَّ من اختار في القراءة أية سورةٍ من القرآن أمكن أن يعدل منها إلى سورةٍ أخرى ما لم يبلغ النصف, إلا سورة التوحيد والكافرين، فإنه لا يجوز العدول عنها بحال[[456]]. وهذا يدلُّ على علوِّ مقامهما بلا إشكال. وواضح: أنَّ أغلب المسلمين إنما يقرأون هاتين السورتين ليس غير، فهم إذن يقرأون أفضل سور القرآن الكريم بالرغم من اختصارهما.
وتكفل الإمام لنصِّ القرآن الكريم عن المأمومين، يعني تكفله لمعنى من معاني القيادة الظاهرية أو المعنوية, لأنَّ القرآن هو الإمام وهو الهدى وهو النور وهو النظام وهو العدل وهو الحقّ. فتكفل الفرد مضمونه عن الآخرين، يعني تكفله نوعاً من القيادة القرآنية لهم، لو صحَّ التعبير. أو قل إنَّ جميع أنواع الهداية والقيادة والتوجيه إلى الحقِّ، سواءٌ في عالم الظاهر أو في عالم المعنى، مما ينطبق عليه هذا المضمون بمعناه الواسع.

الفقرة (40)

في جواز الإنفراد
 
حيث أفتى مشهور الفقهاء، وخاصةً المتأخرون منهم بجواز الإنفراد اختياراً عن صلاة الجماعة. على حين لم يجوّز القسم الأقلّ منهم ذلك، إلا في موارد الإضطرار.
وبالرغم من أنَّ المؤلف يفتي، طبقاً للمشهور، بجواز الإنفراد اختياراً، من الناحية الفقهية[[457]], إلا أنه لا يمكن وجود مثل هذه الفتوى من الناحية الأخلاقية.
لأنَّ الإنفراد عن الجماعة، يعني من الناحية المعنوية عدم لزوم الجماعة الذي سمعنا أنه مأمورٌ به شرعاً, بل هو واجبٌ في الكثير من مستوياته، فيكون الإنفراد عن الجماعة والإبتعاد عنها، مخالفاً لهذه الوظيفة الشرعية.
وإذا أخذنا الإنفراد بمعناه الواسع، أمكننا أن نفهم منه معاني كثيرة, نذكر فيما يلي جملةً منها:
أولاً: الإنفراد في الحقيقة، وهو أمرٌ خاصٌّ بالله سبحانه وتعالى، حيث لا يشبهه شيء.
ثانياً: الإنفراد بالخلق, وهو أيضاً خاصٌّ به سبحانه.
ثالثاً: الإنفراد بالسلطة الواقعية والتدبير الحقيقيّ, وهو أيضاً خاصٌّ به جلَّ جلاله.
رابعاً: الإنفراد بالسلطة الظاهرية بالحقِّ والعدل, وهو[[458]] يكون للوليِّ الإسلاميِّ العامّ النافذ السلطة. ك النبي بعد الهجرة.
خامساً: الإنفراد بالسلطة الظاهرية بمعناها العامّ, وذلك يكون للحاكم في أيِّ مجتمع، إذا لم يكن في أهميته ونفوذه أحدٌ غيره.
سادساً: الإنفراد في المكان, كما لو كان شخصاً، باقياً وحده في بيته مثلاً.
سابعاً: الإنفراد في الزمان، كما لو انقرض نوعٌ من الحيوان ولم يبق إلا فردٌ واحد، فيصدق أنه منفردٌ في هذا الزمان عن سائر أفراد جنسه.
ثامناً: الإنفراد في العقيدة, وهو أن يعتقد الفرد بعقيدةٍ لا يوجد معه من يعتقد بها. وهذا هو حال إبراهيم الخليل  في ردحٍ من عمره. قال الله تعالى:]إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ[[[459]]. ومعنى كونه أمةً أي بمنزلة الأمة في انفراده في العقيدة.
تاسعاً: الإنفراد في الصلاة، وهو ممارسة الصلاة الإنفرادية, بغضِّ النظر عن الإلتحاق بصلاة الجماعة.
عاشراً: الإنفراد بعد الإلتحاق بصلاة الجماعة, وهو الذي نتحدث عنه فقهياً.
حادي عشر: الإنفراد بعد الإلتحاق بجماعةٍ أي مجموعةٍ من الناس ذات عقيدةٍ معينة, وهو معنى الإنفصال عنهم. فإذا كانت الجماعة على حقٍّ، كان هو على باطل.
ثاني عشر: الإنفراد بعد الإلتحاق بغيره في عملٍ تجاريًٍّ ونحوه, كما لو كان شريكاً، ثمَّ فسخ الشركة.
ثالث عشر: الإنفراد بعد الإلتحاق بعملٍ اجتماعيٍّ ذي مصلحةٍ عامة, كبناء مدرسةٍ أو مستشفى مثلاً, أو أيّ نحو آخر، مما أشرنا إليه خلال الحديث عن معنى الجماعة.
رابع عشر: الإنفراد بعد الإلتحاق بالسلطة، كما لو أحيل الفرد على التقاعد عن الإلتحاق أو المشاركة بالدولة.
وقد يكون هذا المعنى جائزاً، كما في الحالات الإعتيادية, كما قد يكون واجباً على السلطة. كما لو كان الفرد فاسداً أو قاصراً أو مقصراً. كما قد يكون واجباً على الفرد، فيما لو وجد هناك مصلحةً خاصةً أو عامةً أهمَّ من عمله ذاك. وفي موارد أخرى أيضاً.
كما قد يكون مثل هذا الإنفراد حراماً، فيما إذا كانت مشاركته داخلةً في معنى [الواجب الكفائي] أو له مصلحةٌ أكيدةٌ في المجتمع لا يقوم بها غيره, وفي موارد أخرى أيضاً.
وعلى العموم فإنَّ الإنفراد والإنفصال، عن عموم المجتمع عقائدياً أو تطبيقياً، قد يكون مرجوحاً وقد يكون حراماً، فيما إذا كانت تلك العقيدة أو التطبيق حقاً. وإن كان الحال أنه قد يكون عكس ذلك هو الصحيح أيضاً.
 

الفقرة (41)

صلاة المسافر
 
وينبغي أن نبدأ هنا أولاً: ببيان المصطلحات التي يستعملها الفقهاء عادةً في هذا الباب، وإيضاحها من زاويةٍ عقليةٍ ومعنويةٍ، بحيث قد تنتج ما يشبه نفس النتيجة الفقهية على ما سوف نوضح.
وهذه الألفاظ كما يلي: الوطن، وينقسم عندهم إلى الوطن الأصلي, والوطن الشرعي, والوطن الإتخاذي، وغيرها كما سنوضح.
وكذلك: الحضر والسفر وقصد المسافة والإتمام والقصر، وقصد الإقامة وسفر المعصية ومن كان عمله السفر وحدّ الترخص وأماكن التخيير.
 

الفقرة (42)

الوطن
 
ونبدأ بالمصطلح الرئيسيِّ وهو الوطن. وقد ورد: [حبُّ الوطن من الإيمان][[460]].
والوطن هو محلُّ الإقامة عادةً, إما بالإستمرار أو في الأعمِّ الأغلب من الأزمان. ويمكن تقسيمه على عدة أشكالٍ نذكر منها ما يلي، وهو التقسيم باعتبار متعلقاته:
أولاً: قد ينسب الوطن إلى المنطقة أو الإقليم. ومنه العراق ومصر والقوقاز.
ثانياً: قد ينسب الوطن إلى اللغة، ومنه قولهم: الوطن العربيّ.
ثالثاً: وقد ينسب إلى الجنس من البشر، فيقال ـ مثلاً ـ إنَّ أفريقيا وطن السود.
رابعاً: وقد ينسب إلى الجسد. فتكون الدنيا هي وطن الجسد أو الأجساد، من حين الولادة إلى ساعة الموت.
خامساً: قد ينسب الوطن إلى الروح, وهو المحلُّ الأسمى الذي نزلت منه الروح. حيث يقول ابن سينا: نزلت إليك من المحلِّ الأرفع[[461]]. وإذا كانت الروح آتيةً من عالم الظلام فموطنها هو ذلك.
سادساً: قد ينسب إلى أمرٍ محددٍ بعينه، كمرضٍ من الأمراض، فيقال إنَّ محلَّ كذا هو موطن الملاريا مثلاً، فيما إذا كان أصله هناك, وكعلمٍ من العلوم كالسحر، فيقال: إنَّ الهند وطن السحر، باعتبار أنَّ أصله هناك. وهكذا.
والملحوظ في كلِّ سنخٍ من التفكير البشريِّ أو في أيِّ حقلٍ من حقول المعرفة، هو لحاظ الوطن ببعض الإعتبارات. فمن الناحية الإجتماعية قد يؤخذ بالمعنى الأول والثاني, ومن الناحية التأريخية قد يؤخذ بالمعنى الثاني والثالث. ومن الناحية الفلسفية والعرفانية قد يؤخذ بالمعنى الرابع والخامس. وهكذا.
غير أنَّ هذه الأقسام كلها ليس فيها معنى الوطن الفقهيّ, فإنَّ المهمَّ فيه هو طول الإقامة وصدق السكن، حتى لو كان منطقة بالصحراء أو بلدة صغيرة أو شاطئ نهر.
 
وقد قسمه الفقهاء، من زاوية وجهة نظرهم إلى أقسام:
الأول: الوطن الأصليّ, وهو مسقط الرأس.
الثاني: الوطن الإعتباريّ, وهو البلد الذي ينسب إليه الفرد عرفاً، باعتبار أنَّ أكثر أفراد عشيرته هناك، فيقال: الحلي أو البغدادي أو النجفي. أو يقال: العراقيّ أو التركيّ أو الهنديّ.
الثالث: الوطن الإتخاذي, وهو المحلُّ الذي يتخذه الفرد وطناً له بالعزم على السكنى فيه أمداً غير محدد.
الرابع: الوطن الشرعيّ, وهو المحلُّ الذي يملك فيه بيتاً أو أرضاً قد استوطنها ستة أشهر فصاعداً. والذي أفتى المشهور بوجوب إتمام الصلاة فيه، وإن أعرض عنه وانتقل إلى غيره[[462]].
الخامس: الوطن الفعليّ، وهو المحلُّ الذي يسكنه الفرد باستمرار، سواءٌ قصد ذلك، كما في الوطن الإتخاذيّ, أو حصل ذلك قهراً عليه، باعتبار ظروفه الإقتصادية أو الأسرية أو غيرها.
فهذه فكرةٌ كافيةٌ عن معنى الوطن.


الفقرة (43)

السفر
 
نأتي الآن إلى معنى الإصطلاح الآخر في هذا الباب وهو السفر, وهو من الناحية العرفية أو التطبيقية معروف.
ومن الناحية الفقهية هو: سبب قصر الصلاة والإفطار في الصوم, وهو قصد المسافة التي يبلغ مقدارها بالكيلومترات 776,43 كيلو متر.
ومن الناحية المعنوية: هو الإبتعاد أو الغياب عن الأهل والوطن, وقد عرفنا معنى الوطن, ويكون ـ عادةً ـ في الوطن أهلٌ، وهم الذين يتجاوب ويتناسب معهم عقلياً وروحياً ونفسياً ونشاطاً, لا يتكبر عنهم في حاجة, ولا يحجب عنهم سراً, ولا يحصل من ناحيتهم عليه همٌّ أو غمٌّ, فهم متلائمون متعاونون متحابُّون متفقون على الأمور كلها، فهؤلاء هم الأهل. وليسوا ـ دائماً ـ هم العشيرة أو الأسرة. قال الله تعالى: [إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ][[463]]. فكيف يكون الفرد مع العداوة أهلاً, وخاصةً وهي عداوةٌ متأصلةٌ غالباً من الصعب جداً أن تزول؟!.
والأهل بالمعنى الذي عرفناه، لا يوجدون إلا في الوطن المناسب لهم، ومن الصعب, ولعله من المتعذر, أن يوجدوا في غيره، وإلا كانوا كلهم غرباء، بعيدين عن الأهل, مسافرين إلى غير وطنهم.
ومن هنا ورد: [إنَّ هذا الدين بدأ غريباً وسيعود غريباً][[464]]. وقيل: [إنَّ الدنيا للمؤمن دار غربة][[465]].
وقد قال ابن سينا في قصيدته:

تبكي وقد نسيت عهوداً بالحمى  
حتى إذا قرب المسيرُ  إلى الحمى
 بمـــــدامــــعٍ تهــــمي ولـــمّا تقلعِ
ودنا الرحيلُ إلى الفضــاءِ الأوســـــعِ

ِ[[466]] إلى آخره.
فالسفر، هو الإبتعاد عن الوطن والذهاب إلى دار الغربة. وهي المحلُّ الذي لا يناسب وجود الفرد عقلياً ونفسياً وثقافياً, ولا يوجد فيها أهله. ومن هنا كان السفر مكروهاً نفسياً وصعباً. حتى قيل: [السفر قطعةٌ من سقر][[467]].يعني شديد الصعوبة.
كما أنه بهذا السبب يكون السفر مرجوحاً، لأنَّ الإستهداف والتكامل في الوطن وبين الأهل يكون أسهل وأسرع. وترك التكامل مرجوحٌ بطبيعة الحال. وهذا هو التفسير الآخر لقولهم: السفر قطعةٌ من سقر. فإنَّ السقر هي جهنم. فيكون تعبيراً عن مرجوحية السفر أو حرمته، بالمستوى المعنويّ.
ولا يكون السفر بهذا المعنى راجحاً إلا لمصلحة التكامل نفسه، إذ قد يقضى السفر والتغرب، لكي يتكامل للفرد رشده وصبره وإتقانه وانفتاح بصيرته, فيتعين عليه السفر، ليعود مرةً أخرى إلى أهله ووطنه, أكملَ مما كان عليه قبل سفره, كالتاجر الذي سافر وحصل على الربح الوفير هناك.
وبهذا الإعتبار لا يكون طلب الرجوع إلى الأهل والوطن مطلوباً، إلا بعد انتهاء المهمة وارتفاع الهمة. ومع إدراك هذا المعنى يكون هذا النوع من السفر نعمةً وليس نقمةً، ولا حاجة معه إلى البكاء الذي أشار إليه ابن سينا كما سمعناه.
نعم مقتضى علوِّ الهمة والشعور بالمسؤولية هو الشوق عملياً للأهل والوطن وتكريس الجهد له، حتى يكون السفر قد أنتج مهمته بأقصر وقتٍ وبأسهل طريق. فتزول الكراهة النفسية وينتهي السفر بأقصر وقتٍ وبأسهل طريق.
ولهذا السفر تطبيقاتٌ ومصاديقُ عديدةٌ في الكون, يحسن أن نشير إلى تطبيق واحدٍ منها: وهي ما أشار إليه ابن سينا في قصيدته، وهي: إرادة الله سبحانه وتعالى في إرسال الروح من عالمها إلى الدنيا، وهي دار الغربة، بقصد الحصول على التكامل بالتمحيص والبلاء.
وهي بالتأكيد تنسى، كما أشار ابن سينا، دارها التي وردت منها. إلا أنَّ هذا النسيان لا ربط له بالتكامل، فإنها يمكن لها التكامل حتى لو كانت ناسيةً إذا كانت مطلعةً بوضوحٍ على أسبابه ومقدماته الحقيقية, وهي تكريس النفس لطاعة الله سبحانه, ثمَّ قد تصل في درجة التكامل إلى مرحلةٍ تعود فيها الذكرى لها إلى وطنها الأصليِّ ودارها الأولى, فيشتدُّ فيها الشوق إليها والحنين عليها, ولكن بدون امتعاضٍ أو بكاء, لكونها عندئذٍ تدرك المصلحة من سفرها هذا, ولها من الرضا به ما يكفي للإستبشار بوجوده, لا للكراهة له.
نعم، يقتضي ذلك علوَّ الهمة في العمل المجدِّ للحصول على التكامل لتنال الرجوع الوفير والسريع.
وبهذا نكون قد عرفنا الجهة المعنوية للسفر والحضر.
 

الفقرة  (44)

القصر والتمام
 
فنأتي الآن إلى معنى القصر والتمام.
والقصر هو التقليل من العمل والإقتصار على ما تقتضيه المصلحة منه، والحكم بالقصر في السفر له مبرراتٌ معنويةٌ عديدةٌ، نذكر منها ما يلي:
أولاً: قلة الصبر على بعض أنواع العمل الشديد، وإن كان مفيداً للتكامل، ومن هنا ينبغي الإقتصار على بعضه ريثما يعود التحمل والصبر.
ثانياً: إنَّ المسافر يكون عادةً بين غير أهله، ممن يحتشمهم ويخاف انتقادهم. إذن، فينبغي أن يقتصر من نشاطه على ما هو الممكن مما لا يكون محلاً للإنتقاد، تاركاً الباقي إلى أوقات الفرصة الأخرى.
ثالثاً: إنَّ المسافر حين يكون بين غير أهله، ممن يحتشمهم ويشكُّ في نواياهم، إذن، فينبغي أن يكتم أهدافه ومقاصده عنهم. وهذا بفهمه الأعمق يعود إلى وجوب كتم الأسرار الإلهية عن غير أهلها، كما قال الإمام السجاد في ما نسب إليه[[468]]:
يارُبَّ جوهرِ علـــمٍ لو أبــوحُ به             لقيلَ لي: أنـت ممـَّن يعبد الوثنا
        ولاستحلَّ رجَالٌ مسلمون دمــي             يرون أقبـــحَ ما يـــأتونه حســنا
هذا، والإتمام مقابلٌ للقصر، فإذا كان القصر يعني التقليل من العمل، فإنَّ الإتمام يعني إنجازه جميعاً، وهذا بطبيعة الحال يكون بين الأهل والوطن أسهل وأسرع.
 

الفقرة (45)

سفر المعصية
 
ويحسن بنا الآن، ونحن بصدد الحديث عن السفر أن نعرف متى يكون السفر سفر معصيةٍ معنوياً، فإنَّ هذا له عدة معانٍ. منها:
أولاً: أن يكون السفر بالأصل موجوداً بقصد السوء، والعياذ بالله. وهذا يتحقق في عدة موارد، منها: ما إذا كان التكامل معكوساً، يعني ليس باتجاه عالم النور, بل باتجاه عالم الظلام, الذي هو في واقعه تسافلٌ وليس تكاملاً، فإنَّ ذلك يتوقف على مجموعة جرائم ومظالم تجعل الفرد مؤهلاً لعالم الظلام!.
ثانياً: أن يستغلَّ الفرد سفره كله أو أغلبه بسوء النية واللذاذة الشخصية على حساب الآخرين، ونسيان أو تناسي الأهداف الحقيقية التي سافر من أجلها.
وقد يخطر بالبال: أنَّ هذا الشخص، ينطبق عليه مفهوم القصر لا مفهوم الإتمام الذي عرفناه فيما سبق.

وجوابه من وجوهٍ، منها:
أولاً: إنَّ القصر ممكنٌ أن نفهمه بمعنى الإقتصار على القليل من المنافيات والمعاكسات للأهداف العاليات. وهو ـ في حدود حديثنا ـ يعني الزهد في الدنيا, والإعراض عن بهارج العيش. وهذا إنما يحصل فيما إذا كان السفر طاعةً لا ما إذا كان السفر معصية.
ثانياً: أن يراد بالإتمام: إنجاز جميع الأعمال المناسبة للهدف أياً كان، حتى لو كان هو الوصول إلى عالم الظلام. فيكون الإتمام بهذا المعنى ضرورياً لسفر المعصية!!..
ثالثاً: قد نفهم أنَّ الفرد إنما يؤمر بالإتمام الحقيقيِّ تحدياً أو عقوبةً أو امتحاناً له، لأنه ما دامت الحياة موجودةً فإنَّ التوبة موجودةٌ ومقبولة, لكي يتحول سفره إلى سفر طاعة بعد أن كان يراه سفرَ معصية.
 

الفقرة  (46)

 قصد المسافة
 
ومن خصائص السفر الموجب للقصر فقهياً: قصد المسافة, فإن حصل القصد وجب القصر، وإلا وجب الإتمام[[469]].
ومعناه الرئيسيُّ على أيِّ صعيد، هو أن يكون الفرد منذ عزمه على السفر عالماً بأهدافه ونتائجه ملتفتاً إليها. قاصداً السير في طريق إنجازها.
ويلحق بذلك، معنوياً، ما إن كان الفرد جاهلاً أو ناسياً أول الأمر، ثمَّ بعد حصول السفر التفت إلى حقيقته, وعاد إلى واقع أهدافه، وكأنه يشعر أنَّ السفر بالأساس كان لذلك، وأنه ربما كان قاصداً لذلك لا شعورياً من دون أن يعلم.
والمسافة التي يراد قصدها، هي المقدار الذي يناسب الفرد من السفر، من مصلحته التي تتحقق به الأهداف. فإنَّ الأفراد قد يختلفون في ذلك، فقد تكون المصلحة لبعض الأفراد أن يكون السفر بعيداً، ولبعضٍ أن يكون قليلاً، ولبعضٍ أن يكون سهلاً, ولبعضٍ أن يكون صعباً, أو في أرضٍ حزنةٍ أو جبليةٍ, وهكذا.
كلُّ ما في الأمر, أنَّ القاعدة النوعية في ذلك أو المصلحة الغالبة اقتضت إعطاء مقدارٍ معينٍ من المسافة, لتكون هي المحكّ للسفر والحضر, وهي ثمانية فراسخ. وقد يكون لرقم الثمانية أكثر من معنى, ولعلها تعبر عن مراحلَ عديدةٍ من البعد في السفر، وبالتالي: من القرب إلى الأهداف. وقد يختلف مضمون هذه المراحل بالنسبة إلى الأفراد، بشكلٍ لا يمكن ضبطه كقاعدةٍ عامة.
 

الفقرة (47)

 في من عمله السفر
 
بقي الحديث عن الشخص الذي يكون السفر عملاً له. فإنَّ تكليفه الفقهيَّ هو الإتمام وترك القصر، ويراد فقهياً بالعمل: العمل التجاريّ، ومعنوياً يمكن أن يراد به العمل لإنجاز الأهداف المعنوية المطلوبة التي أنجز السفر من أجلها.
وينبغي أن يكون معلوماً معنوياً أنَّ المصلحة ما دامت مقترنةً بالسفر، إذن، فالسفر من عمل الفرد العامل في تلك المصلحة أو المستهدف لهدفها.
وينطبق عليه كلا العنوانين أو المفهومين اللذين اعتبرهما الفقهاء سبباً للإتمام في السفر.
أحدهما: من كان السفر عمله. فإنَّ السفر هنا عمله، بصفته مكرساً نفسه لأجله, وناذراً حياته في سبيله.
ثانيهما: من كان السفر مقدمةً أو سبباً لعمله. وهنا الأمر كذلك، باعتبار أنَّ العمل الرئيسيَّ في الحقيقة هو الهدف المستهدف وليست المقدمات. وذاك الهدف هو الذي حصل السفر من أجله, فقد أصبح السفر مقدمةً أو سبباً لذلك العمل في الحقيقة.
ومثل هذا الفرد المسافر ممن يجب عليه الإتمام، بالمعنى الذي أشرنا إليه فيما سبق، ولا يناسبه القصر، لأنه سيكون سبباً لضعف المقدمات وبطء النتائج. نعم، بعض معاني القصر السابقة، تكون أحياناً ضروريةً، غير أنَّ هذا أمرٌ مؤقتٌ وليس مستمراً.
يبقى الفرد الذي لا يكون السفر عملاً له، فإنه يجب عليه التقصير. وليس ذاك ـ بعد كلِّ الذي عرفناه ـ إلا الشخص القاصر الهمة, القليل الصبر في الإتجاه إلى هدفه المعنويِّ المنشود، بحيث يغفل عن اتخاذ السفر عملاً له، بالمعنى الذي قلناه, أو يتعمد ذلك باختياره. إذن، فمثل ذلك لا يراد منه التمام بل القصر, لعدة وجوه:
أولاً: لضعف صبره عن العمل الجادِّ والتامّ.
ثانياً: عقوبةً له على ضعف همته وقلةِ صبره.
ثالثاً: لإسقاطه عن نظر الإعتبار، لهذا السبب.
ونحو ذلك. وهذا لا ينافي الإلزام بالتقصير، مادام لم يعتبر السفر عملاً له. فإنَّ الحكمة قد تقتضي ذلك في مثل هذا الظرف الشخصيّ، إلى أن تحصل منه التوبة ويعود إلى الحقيقة.
 

الفقرة (48)

أماكن التخيير
 
نعم، قد يكون الفرد المسافر مخيراً بين القصر والتمام، في بعض الأماكن[[470]]. ويمكن أن نفهم لذلك أسباباً عديدةً، منها:
أولاً: التعارض بين مصلحة التمام المنتجة لقوة المقدمات وسرعة الإنتاج وبين مصلحة القصر المنتجة لكتم السرِّ العميق عن الآخرين, وكفاية انتقادهم كما عرفناه. وقد تكون المصلحتان ضعيفتين في مورد التعارض، بحيث يتساويان تقريباً في الأهمية. فعندها يكون القصر والتمام تخييرياً, بل يكون التمام من المسافر أفضل، كما هو المنصوص عليه في الأخبار[[471]].
ثانياً: إنَّ أماكن التخيير كلها مقدسةٌ، الأمر الذي يرشدنا إلى أنَّ التخيير إنما هو نافذٌ في الأماكن المقدسة معنوياً، إما لأجل احترامها بالزيادة بالعمل، عند اختيار التمام، وإما باعتبار أنَّ الفرد فيها يكون أعلى همةً وأقوى صبراً، فيعطى فرصة استغلال هذه الفرصة بالتمام، أو غير ذلك من المصالح الممكنة.
ثالثاً: إنَّ أماكن التخيير غير محددة, لأنَّ الأماكن كلها في نظر الإيمان العالي مقدسةٌ، لا يختلف مكانٌ عن مكان, ولا درجةٌ عن درجة. إذن، يبقى التخيير بين القصر والتمام قائماً معنوياً في كلِّ زمانٍ و مكان. كلُّ ما في الأمر أنَّ التمام أفضل من القصر، باعتبار كونه أقوى تسبيباً، وأسرع إيصالاً.
 

الفقرة (49)

حدُّ الترخص
 
وأما [حدُّ الترخص] فيمكن أن نفهم منه معنوياً عدة معانٍ. منها:
أولاً: إنَّ العمل الأساسيَّ إنما هو قبل الوصول إلى الهدف المعنويّ. وأما بعده فلا مجال لاستمرار نفس العمل، بل مقتضى القاعدة خلود الفرد إلى الراحة مؤقتاً، ريثما يستهدف الهدف الآخر الأعلى منه، فإنَّ للكمال درجاتٍ غير متناهيةٍ بالتصاعد والأهمية.
وهذه الراحة المؤقتة هي الترخيص، أو الرخصة المعطاة له في ترك العمل.
ثانياً: إنَّ حدَّ الترخص هو حدُّ القصر، وقد عرفنا معناه فيما سبق، بحيث يرجع إلى مجاملة الناس, وحفظ الظاهر معهم, وكتم حقيقته المعنوية عنهم. إذن، فلقاء الناس هو حدُّ الترخص الذي يمكن أن يترك معه العمل الدؤوب للهدف، وهذا أحد المقاصد من قوله تعالى: [ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ][[472]].
ثالثاً: إنَّ الفرد مهما كان مهتماً بهدفه، فإنَّ صبره ـ مهما كان عالياً ـ فهو محدودٌ ومؤقتٌ. ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ولا يجوز للفرد أن يكلف نفسه خارج هذا الحدِّ أيضاً. إذن، فحدُّ نفاد الصبر وانهيار النفس، إن حدث مؤقتاً، هو حدُّ الترخص، فللفرد عندئذٍ أن يعمل ما يزيل حاله تلك، ثمَّ يعود إلى حاله السابق، وهكذا.
 

الفقرة (50)

قصد الإقامة
 
بقي أن نشير إلى العطاء المعنويِّ لقصد الإقامة عشرة أيام، الذي هو موضوعٌ لوجوب الإتمام من الناحية الفقهية.
وينبغي أولاً أن نشير إلى أنَّ رقم العشرة رقمٌ مهمٌّ دالٌّ على حصول التكامل, أو على كفايته لإنتاج ذلك, ولو إلى درجةٍ معينة. قال الله تعالى: [تِلكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ][[473]]. يعني مكملةً وسبباً للتكامل. حسب الفهم المعنويّ.
ومعه يكون قصد الإقامة عشرة أيام، يعني قصدها إلى حدِّ حصول النتيجة، وهي التكامل والوصول إلى الهدف. كما قال أحد أولاد يعقوب: [فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ][[474]].
فإذا صحت نية الفرد وتصاعدت همته للعمل نحو الهدف المعنويّ، لم يكن من المصلحة شموله لحكم القصر، الذي عرفنا أنه ـ ببعض معانيه ـ يعني التقليل من العمل, بل يحسن به أن يعمل عملاً تاماً متكاملاً، لكي يكون التسبيب سريعاً ومنتجاً, وتكون ظرفية العشرة كافيةً للوصول إلى الهدف.

الفقرة (51)

التردد إلى شهر
 
والآن لم يبق من أحكام السفر الرئيسية إلا حكمٌ رئيسيٌّ واحد، وهو أنَّ الفرد إذا بقي متردداً في الإقامة والسفر، لم تجز له الصلاة تماماً إلا بعد مضيِّ شهرٍ أو ثلاثين يوماً. فإذا مضت المدة وهو مسافرٌ، وجب عليه التمام, ولو لصلاةٍ واحدةٍ يصليها قبل السفر, فضلاً عن الأكثر[[475]].
والواقع: أنَّ التردد شيءٌ مرجوحٌ في ذاته، وخاصةً في عالم المعنى والمعنويات, كالتردد في أنه هل يسافر أم لا, أو هل يقيم أم لا, أو هل يقصد الإقامة عشرة أيامٍ أم لا, أو هل يتمُّ صلاته أم لا. إلى غير ذلك من التشكيكات.
وللتردد مناشئُ نفسيةٌ وعقليةٌ عديدةٌ، ينبغي على الفرد الجامع للشرائط أن يسدَّها جميعاً, وأن يكون حاذقاً واضح الرؤية بصيراً بواقعه وهدفه وعمله.
غير أنَّ التردد لو حصل، فالإستهداف الجزميُّ غير حاصلٍ بطبيعة الحال، وفي مثل تلك الحال، لا يحسن للفرد أو ليس من الحكمة له أن يكلف بالتمام حال تردده, بل يمكن الإكتفاء منه ببعض العمل، الذي هو من معاني القصر كما عرفنا, ريثما يرتفع تردده، ويجمع أمره، ويثوب إلى رشده.
والشهر هنا له معنىً كبيرٌ، بحيث يكون سبباً لرفع التردد، وحصول الجزم بالهدف والعمل، ومن ثمَّ يكون تكليفه التمام بعد مضيِّ الشهر المتمثل بثلاثين يوماً قضاها بالتردد، وعدم وضوح الرؤية.
قال الله تعالى: [إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ][[476]]. وأحد التفسيرات الأساسية الواردة لهذه الآية, هي انطباقها على الأئمة المعصومين سلام الله عليهم أجمعين. فهم اثنا عشر إماماً في كتاب الله يوم خلق الله السَّماواتِ والأرض.
ومجموع الشهور الإثنا عشر، تعبر عن عامٍ كاملٍ أو متكامل. وقد ورد ما مضمونه: [إنَّ الفرد إن اتخذ عملاً استحبابياً معيناً، فمن الراجح له أن يدوم عليه لمدة سنة، حتى يعلم وقوعه في ليلة القدر][[477]].
ومن الواضح لهذا المسافر: أنه إن تردد شهراً وبقي في مكانه عاماً كاملاً، فإنه يقصر في الشهر الأول، ويتمُّ بالأحد عشر شهراً التي تليه. فإن أراد جعل وظيفة التمام عاماً كاملاً، لتمرَّ عليها ليلة القدر، أمكنه إضافة شهرٍ آخر. لكي لا تمرَّ عليه هذه الليلة المباركة وهو في القصر, أو في القصور والتقصير.
 

الفقرة (52)

في صلاة الآيات
 
الآيات الكونية كلها ناتجةٌ عن قدرة الله سبحانه، مذكرةً أو منبهةً على جليل عظمته وحسن تدبيره. والكون بكلِّ تفاصيله آياتٌ، وليس بعضه آيةً وبعضه ليس بآية.
كما قال الشاعر[[478]]:
وفي كـلِّ شيءٍ لـه آيةٌ              تـدلُّ علـى أنـه الواحدُ
وخاصةً بعد أن برهنا في أكثر من موضعٍ من كتاباتنا[[479]]: أنه لا وجود للقانون الكونيِّ أياً كان. وإنما نحن ندرك ذلك كمعنىً ذهنيٍّ منتزعٍٍ أو مستخلصٍ من تسبيب الجزئيات والتطبيقات بعضها لبعض. فما هو الموجود في الخارج هو الجزئيات. وإنما القانون معنىً ذهنيٌّ مأخوذٌ من مجموع التسبيبات الجزئية، وما هو ذهنيٌّ يستحيل أن يؤثر على الخارج.
إذن، فما هذه الحركة الدائبة في الكون، وما هذا الضبط العجيب والتدبير العظيم فيه؟. ليس ذلك إلا بضبط وتدبير خالقه جلَّ جلاله, بقدرته اللامتناهية, وحكمته وعظمته.
وكلُّ آيةٍ تحتاج إلى تفكر، وكلُّ آيةٍ تحتاج إلى صلاةٍ, والصلاة [معراج المؤمن][[480]]. على معنى استغلال الآية، أيَّة آيةٍ، لتحصيل النتيجة التكاملية منها، بدون أن تذهب هدراً من دون استفادة الفرد. قال الله سبحانه: [وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ][[481]]، وقوله: كَأَيِّنْ، يعني الكثير من الآيات تجابه من قبل الأفراد بالغفلة والإهمال والإعراض. وإنهم لن يضروا الله شيئاً وإنما يضرون أنفسهم ويظلمونها من حيث يعلمون أو لا يعلمون. قال سبحانه: [وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ][[482]].
والنفس، التي هي أقرب الأشياء إلى الفرد, وألصقها به وأحبها إليه، جزءٌ من هذا الكون المليء بالآيات، فهي أيضاً بدورها مليئةٌ بالآيات، أو هي مجموعة آيات، لا أكثر ولا أقلّ. قال الله سبحانه: [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ][[483]]. وقد أسلفنا: أنَّ كلَّ آيةٍ تحتاج إلى تفكرٍ وإلى صلاة, بمعنى ردِّ الفعل المتكامل المرضيِّ تجاه هذه الآيات.
إذن، فالصلاة والعبادة الحقيقية، والإتجاه المعنويُّ إلى الله سبحانه ضمن [معراج المؤمن]، يكون في داخل النفس ـ أولاً ـ بصفتها مجموعةً من الآيات، وهي الأقرب والأحبُّ إلى الفرد، ويكون ـ ثانياً ـ في آيات الكون الفسيح. ولا ينبغي أن نقابل أية آيةٍ بالغفلة أو الإهمال، وإلا كان ذلك جنايةً على النفس, وخسراناً موجباً للحسرة والندامة حين يقوم الناس لربِّ العالمين. قال الله سبحانه: [يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ][[484]]. وقال جلَّ جلاله: [أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ][[485]] الخاسرين.
وكلما كانت الآية أكثر إلفاتاً للنظر نفسياً، فإنها ينبغي أن تكون أكثر إلفاتاً عقلياً أيضاً، كما لو كان حادثاً نادراً في الطبيعة، أو حادثاً مخوفاً، أو واقعةً مستغربة. فإنَّ مثل ذلك وإن لم يكن يختلف عن غيره في الدلالة على قدرة الله سبحانه، إلا أنه أكثر إيصالاً لهذه الدلالة إلى الذهن وأشدُّ تنبيهاً له. ومن هنا ينبغي أن يكون ردُّ الفعل واضحاً وصريحاً وسريعاً، ومن هنا كان وجوب صلاة الآيات.
وهي الصلاة التي تجب فقهياً لدى الكسوف والخسوف والزلزلة، وأفتى مشهور الفقهاء بوجوبها مع كلِّ مخوفٍ سماويّ[[486]]. وما ذلك إلا لأنَّ أمثال هذه الآيات فيها تنبيهٌ متزايدٌ على القدرة الإلهية.
بقي أن نشير إلى معنى الكسوف والخسوف والزلزلة معنوياً، وأنه هل يراد بها الشرُّ لأهل الأرض أم الخير لهم في الحكمة الإلهية.
 

الفقرة (53)

الزلزلة
 
أما الزلزلة فواضحةٌ، حيث قال الله عزَّ وجلّ: [هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً][[487]]. وقال جلَّ جلاله: [مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ][[488]].
فالزلزلة حالةٌ نفسيةٌ شديدةٌ من الخوف والرهبة من الحاضر أو المستقبل المنظور. وسميت زلزلةً لأنها تزلزل البدن وتجعله غالباً يرتجف ويهتزُّ كالزلزلة. بل حتى لو أراد صاحبه أن يوقف رعدته لم يستطع, وكذلك الحال في الزلزلة.
ولا حاجة معه إلى أن نشير إلى أنَّ الآتي بهذه الزلزلة والرافع لها هو الله سبحانه. أما كونه الآتي بالزلزلة، فباعتبار قوله: [زلزلوا] بصيغة المبنيِّ للمجهول, فإنَّ الفاعل الحقيقيَّ هو الله سبحانه, بعد غضِّ النظر عن الأسباب التي هي من أنواع البلاء في الدنيا.
وأما كونه الرافع للزلزلة، فباعتبار أمورٍ كثيرةٍ من الأمل برحمته تعالى، يعرفها المتشرعة، منها قوله تعالى في نفس الآية: [مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ][[489]]. وإذا جاء نصر الله عزَّ وجلَّ ارتفعت الزلزلة بطبيعة الحال.
ومن هنا كانت صلاة الآيات لدى حصول الزلزلة، ليحصل التضرع والخشوع والخضوع والرجوع إلى الله عزَّ وجلّ، عسى أن يمنَّ جلَّ جلاله بزوال البلاء الظاهريِّ أو الباطنيّ. ولا يخفى أنَّ الزلزلة المعروفة، هي من أنواع البلاء لا محالة، لما يذهب فيها من تلف النفوس والأموال.
 

الفقرة (54)

 الخسوف والكسوف
 
وأما الكسوف والخسوف للشمس والقمر, فهي ذات معنىً متشابهٍ أو متقاربٍ وهو ضعف النور بعد كمال التوهج والبهجة. غير أنَّ أسبابه مختلفةٌ, وموضوعاته متعددةٌ، ودرجاته كثيرةٌ، لا حاجة إلى استقصائها. وإنما نعطي فيما يلي بعض الأمثلة لها.
والمعنى المعنويُّ للخسوف والكسوف كالطبيعيِّ قد يكون جزئياً, وقد يكون كلياً يذهب بالنور كله، أعوذ بالله، كما قد يكون كالطبيعيِّ مؤقتاً، وقد يكون دائماً. ولا يزول إلا برحمةٍ مجددة، وفضلٍ إضافيٍّ منه سبحانه وتعالى.
فمن أمثلة ذلك: نور العقل وهو العلم وقد ورد: [العلم نورٌ يقذفه الله في قلب من يشاء][[490]]. وقد يراد بالقلب هنا العقل. فقد يصاب بالنقص القليل أو المؤقت لبعض الأسباب, كالنسيان أو الإشتغال بغير الحقل الذي يختصُّ به الفرد, أو غير ذلك.
كما أنَّ من أمثلة ذلك نور القلب، وهو الإيمان, فقد يصاب بالنقص لبعض الأسباب، ومن أهمها الغفلة من ناحية, والذنوب من ناحيةٍ أخرى. وأهمُّ أسبابه, أو هو جماع أسبابه: حبُّ الدنيا. وقد ورد: [اللهمَّ أخرج حبَّ الدنيا من قلبي][[491]].
فهذه نماذجُ موجزةٌ عن الكسوف والخسوف المعنويين.
بقي الإلماع إلى أنَّ هذه الأمور هل يراد بها الشرُّ لأهل الأرض، أم لا. وقد كانت بعض المجتمعات القديمة تتشائم فعلاً من حصول ذلك. فهل الأمر كذلك؟.
 
يمكن التكلم عن ذلك على مستويين:
أحدهما: بالنسبة إلى الكسوف والخسوف الطبيعيين.
وثانيهما: للمعنويين.
المستوى الأول: إنه بالرغم من أنَّ مقتضى الأسباب الطبيعية هو كونهما حادثين كونيين اعتياديين، كسائر ما يحصل في الفضاء من حوادث. إلا أننا بعد الإعتراف بالحكمة الإلهية، من الصعب أن نتصور أيَّ حادثٍ خالياً من الحكمة، بل إنَّ جميع ما يحصل على الإطلاق خاضعٌ لها، داخلٌ تحت نظامها.
وما ندركه من الحكمة للخسوف والكسوف ليس كونهما نذير الخراب والدمار الشامل، طبقاً لتشاؤم بعض الناس منهما, ولا كونهما لأجل تأبين بعض الموتى والحزن عليه، فقد ورد: [إنَّ الشمس والقمر خلقان من خلق الله لا ينكسفان لموت أحد][[492]].
وإنما الذي ندركه من ذلك هو كون ذلك تنبيهاً للناس على أحد طريقتين:
الطريقة الأولى: إنَّ الله تعالى يريد تنبيه عباده عن الغفلة، ويحبُّ منهم التوجه والتذكر والإلتجاء إليه سبحانه، عن طريق صنع مثل هذه الحوادث النادرة في الكون نسبياً، مع أمرهم بصلاة الآيات ونحو ذلك.
الطريقة الثانية: إنَّ الله تعالى يريد أن ينبه الناس على ذنوبهم وعيوبهم, فإنَّ نقصان النور من الشمس أو القمر، رمزٌ عن نقصان الطاعة أو نقصان الإيمان. وكأنَّ حال الناس قد أصبح كحال الشمس أو القمر في النقصان, وأنه ينبغي تدارك حالهم بالتوبة والإنابة والإستغفار.
وأما إذا لم ينتبهوا ولم يستغفروا، إذن يوشك أن يحلَّ بهم البلاء والعذاب. وهنا نصل إلى حدود تلك الفكرة القائلة: بأنَّ الكسوف والخسوف نذير العذاب. وإنما هما رمزٌ له أو للذنوب الموجبة له كما قلنا. والعذاب نفسه إنما يكون على الذنوب وترك التوبة والإستغفار.
ومن أجل هذا يحصل الكسوف والخسوف لأجل التنبيه على الذنوب، حتى تحصل التوبة فلا يحصل البلاء وهو المطلوب للحكمة الإلهية. وإنما يكونان نذيراً فعلياً له، فيما إذا علمنا أنَّ البشر لن تحصل منهم التوبة ولا الإستغفار. إذن، فهذا التنبيه الرقيق لن يفيد بهم وسوف يحيق بهم البلاء كما يستحقون.
المستوى الثاني: في الكسوف والخسوف المعنويين. وهل يراد بهما الإلماع إلى البلاء أم لا؟.
وينبغي أن نلتفت أولاً إلى أنَّ أغلب تطبيقات ومصاديق ذلك شخصية أو فردية, وليست معروفةً للغالب من الناس. ومعه فالتنبيه لهما[[493]] غالباً ما يكون للفرد لا للمجتمع.
وبينما كان الخسوف والكسوف الطبيعيان، تنبيهاً على ذنوبٍ موجودة، فإنَّ هذين الخسوفين بأنفسهما ذنوبٌ، لأنها تعود إلى اختيار المكلف في إيجاد النقص في نفسه من كثرة ذنوبه أو من قلة عمله, ما لم يكن الأمر خارجاً عن الإختيار في أحيانٍ قليلة، كما لو حصل النسيان نتيجةً للمرض ونحوه.
اللهمَّ إلا أن يقال: إنَّ كلَّ عارضٍ يسيء الإنسان، حتى المرض ونحوه، إنما هي عقوباتٌ على ذنوبٍ سابقةٍ، فيعود الأمر إلى اختيار المكلف، لأنه كان مستطيعاً لترك الذنوب واجتناب العقوبات، غير أنَّ هذه القاعدة غالبيةٌ وليست عامةً، كما هو معلومٌ لمن يفكر، وليس هنا محلُّ تفصيله.
 
 

الهوامش

الفهرس || السابق || التالي

السيرة الذاتية || الصور || المؤلفات || ما كتب حوله