مؤلفات الإمام الشهيد السيد محمد صادق الصدر ( قدس سره)

كتاب فقه الأخلاق لسماحة السيد الشهيد محمد صادق الصدر

الفقرة (1)

 في معنى الصوم
 
الصوم لغةً: هو الإمساك، وشرعاً: هو الإمساك عن المفطِّرات مع النية، والإمساك: هو الكفُّ عن أيِّ شيءٍ قد يرغب فيه الإنسان. يقال: أمسك عن الكلام أو عن المشي يعني تركه. وكذلك الإمساك عن المفطِّرات في الصوم أو لأجل الصوم، إنما هو تركها. والصوم تطبيقياً أو عملياً ليس إلا مجموعة تروك، ولا يحتوي على معنى إيجابيٍّ أو عمليٍّ إلا النية.
 ومن هنا كان له أهميةٌ خاصةٌ على عدة مستويات, نذكر منها ما يلي:
المستوى الأول: إنَّ الصوم مع اقترانه بقصد القربة إلى الله عزَّ وجل، يعني رمزيةً واضحةً عن الإمساك عن اللذائذ المحرمة وكفِّ النفس عنها والصبر على تركها، سواءٌ منها اللذائذ المحرمة على مستوى الفرد الإيمانيِّ، أو اللذائذ والإندفاعات النفسية التي يكون في تركها تكاملٌ معنويٌّ مرضٍ لله عزَّ وجل.
ولهذه التروك عدة مستوياتٍ قد تصل بنا مع عمق درجة الإيمان وصفاء القلب، إلى ترك التوكل على غير الله، وترك الخوف مما سواه, وترك ذكر غيره من الأسباب والمسببات، وترك التوجه إلى كمال غير ما يوجبه عطاؤه، مع ترك التوجه إلى حبِّ الدنيا وطلب لذائذها وزخارفها ومغرياتها بطبيعة الحال. وكلُّ فردٍ ينال من ذلك بمقدار ما أوتي من ثقافةٍ ووعيٍ وإيمان، وما أوتي من توفيقٍ وتسديد.
ولذا ورد: [إنَّ الدنيا للمؤمن صوم يوم]. ويراد بالصوم الإمساك عن اللذائذ, وباليوم الحقبة الزمانية المعينة التي يكون الفرد فيها يعيش الحياة الدنيا. وإفطاره يكون في الجنة.
وفي نحو ذلك ينسب إلى رابعة العدوية:   

تركت الخلق طراً في هواكا       وأيتمت العيال لكي أراكا
 فلو قطعتني في الحـبِّ إرباً        لما مال الفؤاد إلى سواك ا[[504]]

المستوى الثاني : إنَّ الصوم يكاد أن يكون هو العبادة الوحيدة التي يمكن أن تبقى مكتومةً عن غير الله سبحانه وتعالى، لانعدام المظهر الخارجيِّ للصوم، لأنه لا يحتوي على أيِّ حركةٍ أو تصرف، بينما الصلاة تحتوي على حركةٍ وتصرف. كما لا يحتوي الصوم على طرفٍ آخر، وإنما يستقلُّ به الفرد لنفسه، بينما كثيرٌ من العبادات كالزكاة والخمس والجهاد والأمر بالمعروف بل والحجّ أيضاً، تحتوي على طرفٍ آخر، بل لا يمكن إنجازها إلا بذلك.
فالزكاة فيها الفقير الذي تعطيه المال، والأمر بالمعروف فيه المذنب الذي تنهاه عن المنكر، والحجُّ فيه الرفيق الذي يدلك على الطريق، بينما الصوم لا يحتوي على شيءٍ من ذلك.
والمعاملات كلها على الإطلاق تحتوي على أكثر من طرفٍ واحد, سواءٌ منها العقود أو الإيقاعات. فالعقود كالبيع والإجارة, فيها الطرف الآخر كالمشتري والمستأجر, والإيقاعات كالعتق والطلاق، فيها الطرف الآخر كالزوجة والعبد.
وإنما الفرق بين العقود والإيقاعات: أنَّ العقود لا تكون إلا برضا أكثر من فردٍ واحد، بينما الإيقاع ينفذ من شخصٍ واحد، ويؤثر في الآخر, سواءٌ رضي أم غضب، وسيأتي الحديث عن جهاتها الأخلاقية في محلها من هذا الكتاب بحسن التوفيق إن شاء الله تعالى.
هذا، بينما نرى الصوم خالياً من أيِّ طرفٍ آخر. ومن هنا يمكن أن يكون عبادةً سريةً عن كلِّ البشر, لايطلع عليها إلا خالقها سبحانه وتعالى. وفعلاً نجح الكثيرون ممن يودون كتم عباداتهم بالإسرار بهذه العبادة المباركة.
ومن هنا ورد في الحديث القدسيّ: [الصوم لي وأنا أجزي به][[505]].
أما أنَّ الصوم لله سبحانه, فلأنه يمكن أن يكون مكتوماً عمن سواه كما عرفنا, فيتمحض لله عزَّ وجل، ويكون خالياً من الرياء والدوافع الدنيوية جميعاً. وأما سائر العبادات فقد لا تكون لله, أو لا تتمحض له عزَّ وجلَّ بالشكل التامِّ المرضي له تعالى, لأنَّ لها مظاهرها الخارجية التي يمكن أن يطلع عليها الآخرون.
صحيحٌ أنَّ الصوم يمكن أن يعلن، كما أنَّ الصلاة يمكن أن تكتم أو أيَّ عبادةٍ أخرى, إلا أنَّ الأفضلية مع ذلك تبقى للصوم, لأنه أسهل كتماً من غيره, ولا يوجد فيه أيُّ مظهرٍ يمكن الإطلاع عليه.
وأما قوله في الحديث القدسيّ: أنا أجزي به, فقد نقرؤه بالبناء على الفاعل، وقد نقرؤه بالبناء على المفعول المبنيِّ للمجهول.
أما إذا بنيناه على المعلوم، فيكون لهذه الفقرة عدة أساليب من الفهم, نذكر بعضها:
الأسلوب الأول : إنَّ الله سبحانه يجزي عن الصوم بمعنى أنه يعطي الثواب عليه, وبهذا لا يفترق الصوم عن غيره من العبادات التي يعطي الله عليها أنواع المثوبة.
ومعه تكون هذه الفقرة غير خاصةٍ بالصوم، والفقرة الأولى خاصةً به.
الأسلوب الثاني : إنَّ الله سبحانه يستقلُّ دون عباده وخلقه من الملائكة أو الأولياء أو غيرهم، بإعطاء الجزاء للعبد. فبينما يكون جزاء العبد في سائر العبادات على الخلق وبواسطتهم، فإنه يكون في الصوم على الله عزَّ وجلَّ مباشرةً.
وهذا يعني عدة أمور، منها: كثرة العطاء, لأنَّ العطاء الوارد من الله سبحانه لا شكَّ أجزل من العطاء الوارد من المخلوقين، وإن انتسب إلى الله في نهاية المطاف.
ومنها: كتم العطاء على الآخرين. فكما أنَّ العبد يعطي لربه عبادةً مكتومةً هي الصوم، كذلك الله يعطي لعبده ثواباً مكتوماً عن الآخرين، وهذا فيه للعبد لذةٌ معنويةٌ لا يعرفها إلا ذووها.
هذا إذا بنينا الفقرة في الحديث الشريف للفاعل المعلوم.
أما إذا بنيناها للمجهول، فستكون المسألة ألطفَ وأعجبَ, لأنَّ معنى قوله: وأنا أُجزى به، أنَّ الصوم بنفسه سيكون جزاءاً من العبد لربه على نعمه وأفضاله.
والله سبحانه غنيٌّ عن العالمين, لايمكن أن يصل إليه النفع والجزاء من أحد، وإنما هو معنىً مجازيٌّ يمثل أهمية الصوم إلى درجةٍ تصلح أن تكون جزاءاً لله عزَّ وجلَّ بإزاء نعمه اللامتناهية وآلائه المتواترة المستمرَّة.
ومن هنا نرى أنَّ في الحديث تفخيماً للصوم من جهةٍ أخرى، وهي أنَّ آلاء الله غير محدودة، فلا يمكن أن يكون جزاؤها عبادةً محدودةً مهما كانت صفتها، وإنما إعطاء التفخيم والأهمية للصوم إلى هذه الدرجة، جعله الله بكرمه ورحمته كذلك.
ولكن لا ينبغي أن ننسى، أنَّ ما جعله الحديث الشريف جزاءاً لنعم الله سبحانه ليس كلّ صوم، بل الصوم المكتوم حين قال: الصوم لي، يعني: الذي لا يعلمه غيري.
ومن الممكن القول بهذا الإعتبار: أنَّ العبادة مع تمحضها لله عزَّ وجلَّ ستكون من الناحية المعنوية غير محدودة، بخلاف العبادة التي تشوبها الشائبة أو الشوائب، فإنها بذلك ستكون عبادةً محدودة, أو بالأحرى هزيلة، لا تصلح أن تكون جزاءاً لنعم الله العظيمة.
إذن، فالصوم المكتوم لا محدود، فيمكن أن يكون جزاءاً للنعم غير المحدودة.  ولا يخفى على أيِّ حالٍ أنَّ في هذا تسامحاً ورحمةً من جهة الله سبحانه على عبده، أكثر من استحقاق المورد مهما كان عظيماً، لأنَّ الله عزَّ وجلَّ لا يمكن حقيقةً أن تجازى آلاؤه أو تشكر نعماؤه أو يطاع حقَّ طاعته، كما ورد ذلك في الأخبار [[506]].
وإنما هذا الباب من قبيل ما ورد[[507]]: إذا رضي الله عزَّ وجلَّ عن العبد رضي منه بالقليل من العمل.
المستوى الثالث : من مصالح الصوم العامة.
أنه يذكر بجوع يوم القيامة وعطشه.
فإنَّ أكثر طبقات الناس في يوم القيامة، سوف يوقفون طويلاً للحساب، ويعانون الكثير من الحرِّ والجوع والعطش، حسب استحقاقهم في الحكمة الإلهية, وإن كان هذا ليس عاماً لكلِّ واحد، فهناك من يحشر إلى الجنة بغير حساب، وهناك من يحشر إلى النار بغيرحساب، باعتبار أنه مستغنٍ عن الحساب, وواضح النتيجة قبل التصدي لحسابها. غير أنَّ أغلب الناس سوف لن يكونوا كذلك, بل سوف يحاسبون على أيِّ حال، إما حساباً يسيراً، وإما بسوء الحساب، أو بأيِّ نحوٍ آخر, كلٌّ حسب استحقاقه.
والمهمُّ: أنَّ الجوع والعطش خلال الصوم، مما يحصل غالباً لأيِّ فرد, فيذكره بذلك الجوع والعطش. كما أنَّ الحرارة التي يعانيها الصائم إن كان الوقت صيفاً، يذكره بحرارة يوم المحشر وحرِّ النار، أعوذ بالله من كلِّ ما لا يرضي الله سبحانه.
 غير أنَّ إنتاج هذه النتيجة تحتاج إلى أمرين:
الأمر الأول: أن يعاني الصائم فعلاً، ولو قليلاً من الجوع والعطش، وأما إذا بات وطعامه وشرابه ذو أنواعٍ كثيرةٍ وأصنافٍ عديدةٍ مما تشتهي الأنفس وتلذُّ الأعين، فهذا ممن زاد بطراً وغفلةً وتمسكاً بدنياه في حال صومه عن حال إفطاره، فإنه في حال الإفطار لم يكن يتناول مثل هذه الأطعمة، فما حداه أن يفعل ذلك في الصيام؟.
وفي مثله من الصعب جداً أن يكون صيامه منتجاً لمثل هذا المستوى من الفكر، أعني مذكراً بجوع وعطش يوم القيامة.
الأمر الثاني: إنَّ مجرد التذكر لجوع وعطش يوم القيامة بنفسه ليس فيه فائدةٌ كبيرة، ما لم ينزل إلى حيِّز التطبيق, فيصحِّح به سائر أعماله، فيترك غير المرضيِّ ويسلك السلوك المرضيّ، ويتوجه إلى ربه حقَّ التوجه. وعندئذٍ يكون قد أنتج صومه لله النتيجة المطلوبة على هذا المستوى.
المستوى الرابع: من مصالح الصوم العامة:
إنه يذكِّر بجوع الفقراء وعطشهم, وبالتالي يذكر بمجمل أحوالهم لمن لم يكن منهم.
وهذا أيضاً ينبغي أن يقترن بما يشبه الأمرين السابقين للمستوى السابق لكي يكون منتجاً، فهو يتوقف على عدم الإسراف في الطعام والشراب إلى حدٍّ يزداد على حال الإفطار، وإلا كان من الصعب الإلتفات إلى حال الفقراء، مضافاً إلى أنه لا يكون منتجاً، ما لم يكن له نتيجةٌ عملية، وهي مساعدة المحتاجين ورفع حاجة المعوزين، وأما إذا التفت الفرد الموسر إلى حالة الفقراء، فاستمرَّ على بخله وإعراضه وتكبره، فسوف يزداد سوءاً ولعنةً وبعداً عن الإيمان، وسوف يكون صومه منتجاً لضرره لا نفعه.
وأما إذا كان حين ذكر الفقراء أبرَّهم وأكرمهم، إذن، فقد أضاف إلى إحسانه إحساناً وإلى لطفه لطفاً. ويكون صومه منتجاً لنتيجته الجيدة على هذا المستوى.
المستوى الخامس : لمصالح الصوم:
إنه يذكِّر بأحوال الدنيا لمن كان غافلاً عنها، وما أكثر الغافلين، فإنَّ الدنيا نزولٌ وصعودٌ وأحوالٌ متقلبةٌ وصفاتٌ مختلفة، لا تستقرُّ بحالٍ، ولا تدوم فيها الأحوال. فالفرد تارةً يجوع وتارةً يشبع، وهو مرةً يصحُّ وتارةً يمرض, وهو مرةً يشبُّ وأخرى يشيب, وهو تارةً يثرى وأخرى يفقر. إلى غير ذلك كثير.
وأيام الصوم كذلك، فإنَّ الفرد خلال صومه يعاني الجوع والعطش غالباً، بينما نراه في الليل شابعاً راوياً يسعد بالراحة واللذة النسبية، فقد رأى تحول الأحوال في يومٍ واحد، فكيف بتحويلها في الأيام المتعددة والسنين المتمادية.
المستوى السادس: أنَّ الصوم بما فيه من كفِّ النفس عن الطعام والشراب، وغيرها من المفطرات يمكن أن يعوِّد الفرد على درجةٍ مهمةٍ من قوة الإرادة والتحمُّل والصبر في المعاناة, الأمر الذي يسهل عليه تحمل معاناةٍ أخرى وأخرى، مما تتطلبه الحياة الدنيا.
فإنَّ في الدنيا بلاءاً، وفيها مصاعبُ شخصيةٌ, ومصاعبُ أسريةٌ، ومصاعبُ اجتماعيةٌ, ومصاعبُ دينيةٌ, وغير ذلك، فإنها لا تصفو لأحد، ولا يستقرُّ حالها بأيِّ زمانٍ ومكان.
والفرد يحتاج إلى قوةٍ في الإرادة والصبر لتحمل هذه المصاعب، والمطلوب دينياً، ليس هو كلُُّ صبر، بل الصبر الذي معه رضا وتسليمٌ وشكرٌ لله عزَّ وجل. والا فما أكثر الناس الذين يواجهون المصاعب بصبرٍ ولكنه صبرٌ معه مكرٌ وحيلةٌ وغدرٌ, بل معه اعتراضٌ على قضاء الله وقدره, وكفرٌ بنعمائه وآلائه. فهذا الشكل من الصبر ليس مطلوباً دينياً، بل هو يضرُّ صاحبه في الآخرة بكلِّ تأكيد.
والمهمُّ، أنَّ الصوم بصفته طاعةً لله عزَّ وجل، سوف يربي الإرادة والصبر إلى الجهة الصحيحة المطلوبة دينياً. وعندئذٍ سيكون الفرد صابراً محتسباً راضياً شاكراً لتكون آخرته آخرةً فاخرة.
المستوى السابع : إنَّ الصوم موجبٌ لغفران الذنوب السابقة, مع اجتماع الشرائط فيه. وهذا أحد المعاني الأساسية للحديث الشريف القائل: [الصوم جُنةٌ من النار][[508]], أي مانع عنها. فإنَّ الذنوب توجب العقوبة بالنار, والصوم يوجب غفران الذنوب والمنع عن العقاب.
المستوى الثامن: إنَّ الصوم يوجب تطهير القلب وصفاء النفس على عدة مستويات:
منها: أنَّ الطعام والشراب قد يحتوي على شبهاتٍ ومحرمات, الأمر الذي يوجب قسوة القلب وظلمانية النفس. فإذا جاء الصوم وأمسك الفرد عن مثل هذا الطعام والشراب، أوجب ذلك قلةً في القسوة وانكشافاً من الظلمانية.
ومنها: أنَّ ثقل المعدة بالطعام والشراب، موجبٌ للثقل في السير المعنويِّ في طريق الإيمان واليقين. وكلما كانت المعدة أخفَّ كانت الروح أكثر شفافيةً والنفس أسرع طيراناً إلى عالم النور.
وهذا من أهمِّ تفسيرات الحديث القدسيِّ الشريف: [من جاع بطنه وكفَّ لسانه آتيته الحكمة][[509]]. إلخ. وكذلك هو من أهمِّ تفسيرات الحديث الشريف [الصوم جُنةٌ من النار][[510]]، إن قصدنا من النار: نار الشهوات والجحود.
وأعتقد أنه يكفينا هذا المقدار من مستويات المصالح لهذه الفريضة المقدسة: الصوم. مع العلم أننا لم نلمَّ بمصالحها إلا قليلاً، بمقدار ما يوفق الله من مقدار الحكمة في تشريعه الجليل. وكما قال المثل: إنَّ ما خفي عليك أكثر.
على أنَّ لهذه المستويات التي ذكرناها أنفسها تطبيقاتٍ عمليةً ونظريةً عديدةً، يمكن أن توصل القارئ اللبيب إلى سعةٍ في التفكير، أكثر مما تحويه العبارات.

 الفقرة (2)

 في معنى الإفطار والمفطرات
 
يحتوي الإفطار على معنى قطع الصوم، بأيِّ معنىً أخذناه، وبأيِّ رمزٍ رمزناه. وذلك لوضوح أنَّ الصوم هو الإمساك عن المفطرات، فإذا حصل الإفطار انقطع الإمساك، وإذا انقطع الإمساك انقطع الصوم، لأنَّ الجزء الأساسيَّ من حقيقته يكون قد انتفى، وقد عرفنا أنَّ حقيقته مركَّبةٌ من الإمساك والنية.
فإذا كان الصوم، كما هو كذلك في الفقه، هو الإمساك عن المفطرات المشروحة هناك، كالطعام والشراب والنكاح، كان ممارسة شيءٍ منها عمداً مزيلاً للصوم. فإن كان واجباً فقد عصى الواجب، وإن كان مستحباً فقد فوَّت المستحبّ.
وإن أخذنا الصوم بمعنى الإمساك أو الإعراض عن لذائذ الدنيا المحرمة، كان معنى الإفطار ممارسة شيءٍ من ذلك، وهو إفطارٌ محرمٌ بطبيعة الحال، لأنه إفطارٌ على محرَّم.
وإن أخذنا الصوم بمعنى الإمساك أو الإعراض عن لذائذ الدنيا عموماً، أو إسقاط أهميتها عن نظر الإعتبار كان معنى الإفطار ممارسة بعض تلك اللذائذ.
والحكم فيه أنه ليس محرماً من الناحية الفقهية بطبيعة الحال، لأنَّ ترك اللذائذ عموماً غير واجب.
نعم، يكون هذا الإفطار مفوتاً للغرض الذي من أجله التزم الفرد بترك اللذائذ وأعرض عن حبِّ الدنيا. وهو قد يكون غرضاً أو هدفاً شريفاً مهماً، يفوت نيله بهذا الإفطار، كما قد يتأخر الوصول إليه في كثيرٍ من الأحيان.
ولعلك يخطر في ذهنك قوله تعالى: [قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ][[511]]. وإنَّ هذه الآية الكريمة بمنزلة عرض اللذائذ غير المحرمة على المؤمنين, وإنها تعطيهم الضوء الأخضر، من جهة تناولها واستخدامها.
فإذا أضفنا إلى ذلك: أنَّ الطعام والشراب ونحوه مما يقوّي الجسم، فيكون معيناً على طاعة الله سبحانه، فلماذا يكون هذا المؤلف الحقير داعياً إلى الزهد والإنصراف عن اللذائذ، وعن الحياة الإجتماعية الإعتيادية؟!.
 
غير أنه يمكن الجواب على مثل هذا السؤال على عدة مستويات:
المستوى الأول: إنَّ ما قاله السائل صحيحٌ مئة بالمئة على مستوى ظاهر الشريعة، من تربية الأكثرية الكاثرة في المجتمع ممن يقتصر على واقعه الإيمانيّ، ولا يريد الزيادة.
المستوى الثاني: إنَّ الخطوة الجديدة نحو الزيادة لا تتضمن بحالٍ حرمة الإلتزام أو التناول من اللذائذ, ولذا يبقى قوله تعالى: ]قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ[ ساري المفعول. كلُّ ما في الموضوع: أنَّ الزيادات الإيمانية لا يمكن أن تستهدف بغير تضحيةٍ وتنازلات. وقد قال الشاعر:
ومن طلب العلى من غير جدٍّ          أضاع العمر في طلب المحالِ
ومن الواضح للجميع: أنَّ الزهد هو الخطوة الأولى لتلك الأهداف لا محيص عنه ولا مجال لغيره. نعم، هو ليس هدفاً نهائياً، بل مقدمةٌ مؤقتةٌ لنيل ما بعده. وقد ورد في الدعاء: [اللهمَّ أخرج حبَّ الدنيا من قلوبنا][[512]]. وورد: [اللهمَّ لا تجعل الدنيا غاية همِّنا, ولا مبلغ علمنا][[513]].
المستوى الثالث: إنَّ هذا الزهد لا يعني غالباً, البعدَ عن المجتمع، والإنصراف عن الإختلاط بالناس، وإن كان ذلك قد يحدث أحياناً، وبصورةٍ مؤقتةٍ لبعض الأشخاص.
غير أنَّ الصحيح هو أنَّ الطعام والشراب من ناحية, واللباس والسكن من ناحيةٍ ثانية، والإختلاط بالمجتمع من ناحيةٍ ثالثة، كل منها لها أحكامها وترتيبها في الشريعة، ولا يمكن خلط بعضها في بعض, وتحميل حكم بعضها على بعض. فإذا حكمنا مثلا برجحان الزهد في المطعم والملبس لايعني الزهد من ناحية العلاقات الإجتماعية.
المستوى الرابع: إنه يمكن أن نقدم للآية الكريمة خطواتٍ من الفهم بحيث لا يكون مؤداها بعيداً عن المفهوم العامّ.
الخطوة الأولى: إنَّ قوله تعالى: [مَنْ حَرَّمَ] استفهامٌ استنكاريٌّ يفيد النفي، وقد يراد به أنه لا أحد غير الله حرمها، إذ ليس لأحدٍ حقُّ التشريع سواه.
الخطوة الثانية: إنَّ قوله تعالى: [زِينَةَ اللَّهِ] لا يراد به الطعام والشراب، بل ولا اللباس والعطور، وإنما يراد به أمورٌ معنويةٌ بعضها ظاهرٌ كمنظر الوقار والرشد، أو بهاء الوجه، وبعضها نفسيٌّ أو قلبيٌّ لا يراه العامَّة.
الخطوة الثالثة: إنَّ قوله تعالى: [الطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ]. لا يراد بها الطيب أو اللذة الدنيوية في النظر أو الشمِّ أو الذوق, لأنَّ كلَّ الطيبات الدنيوية لا شكَّ أنها منوطةٌ ومخلوطةٌ بالكدر والنقصان والمصاعب، وإنما الطيبات الحقيقية هي الطيبات المعنوية النورية التي لا كدر فيها ولا ظلام, فتلك هي الطيبات من الرزق التي أعطاها الكريم سبحانه إلى عباده المؤمنين، بنصِّ الآية الكريمة.
الخطوة الرابعة: إنَّ قوله تعالى: [خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ]. يعطينا فهماً على أنَّ هذه الطيبات المشار إليها في الآية ليست خالصةً في الحياة الدنيا، وإنما هي مشوبةٌ.
 وهذا له عدة تفاسير منها:
أولاً: إنَّ المراد بالطيبات: اللذائذ الدنيوية، لأنها هي المشوبة كما قلنا دون المعنوية.
ثانياً: إنَّ المراد بالخلوص في قوله: )خَالِصَةً( ليس هو [التكامل] بل هو [التمحض]. بمعنى أنَّ هذه الطيبات في الحياة الدنيا ليست متمحضةً للمؤمنين، بل هي مشتركةٌ بينهم وبين غيرهم من الكفار، في حين ستكون في يوم القيامة متمحضةً لهم.
ثالثاً: إنَّ المراد بالطيبات ـ كما سبق ـ: الجانب المعنويّ منها, وهي تصل إلى المؤمن في الدنيا، ولكنها لا تصل وصولاً كاملاً ومستمراً، بل يكون مشوباً بالإلتفات إلى الدنيا والغفلة عن الآخرة أحياناً أو في كثيرٍ من الأحيان.
ومقتضى سياق كلامنا هو اختيار هذا الفهم الثالث، وهو إنما يتعين بالقرائن التي نستطيع إقامتها في الخطوات السابقة أو اللاحقة لهذه الخطوة، وحسبنا هنا أننا أشرنا إلى إمكان فهمه، وإن كان الوجدان  الإيمانيُّ للفرد يحكم بصحته دون ما سواه، بغضِّ النظر عن أيِّ شيءٍ آخر.
الخطوة الخامسة: إنَّ قوله تعالى: [خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ] يثير التساؤل عما يكون هو الخالص يومئذ، هل هو طيبات الدنيا، أو اللذائذ المادية, أو هو الطيبات المعنوية؟.
وهنا لا يحتمل أن يراد بها الطيبات المادية, لأنها جزماً لا تكون متوفرةً في يوم القيامة. فإن كانت تتوفر ففي الجنة للمؤمنين، لا في يوم القيامة، كما تنصُّ الآية الكريمة. ولا نستطيع أن نفهم من يوم القيامة دخول الجنة, لأنه خلاف الظاهر جزماً، فيتعين أن يراد بها الطيبات المعنوية.
وقد يخطر في البال: إننا لا بدَّ أن نفهم من يوم القيامة في الآية دخول الجنة، لأنَّ ذلك هو الظرف المناسب لأن يكون أيُّ نوعٍ من الطيبات خالصاً للمؤمنين. وأما في يوم القيامة، فيكون الناس مشغولين بالكتاب والحساب والعذاب، فكيف ستكون الطيبات خالصةً لهم يومئذ؟!.
وإذا فهمنا من يوم القيامة دخول الجنة أمكن أن نفهم من اللذائذ نوعها المادِّيّ.
وجواب ذلك: إنَّ انشغال الناس يوم القيامة، لا يكفي قرينةً على أن نفهم منه دخول الجنة، لوضوح أنه ليس كلُّ الناس منشغلين بذلك المعنى. نعم، يكون المنشغل خالياً من الطيبات بأيِّ معنىً كان. ولكنَّ عدداً لا يستهان به سيكون ناجياً من ذلك، وهم الذين يحاسبون حساباً يسيراً أو لا يحاسبون على الإطلاق، أو تنالهم الرحمة أو الشفاعة بسرعةٍ ونحو ذلك, كل حسب استحقاقه. وهؤلاء هم المؤمنون المشار إليهم في الآية الكريمة, وهم لن يكونوا منشغلين عن تلقي الطيبات، مهما كان نوعها. فإذا علمنا ـ كما علمنا فيما سبق ـ أنَّ الطيبات المادية غير موجودةٍ يوم القيامة جزماً, إذن يتعين أن يراد بها الطيبات المعنوية بطبيعة الحال. ويكفي في ذلك ما أشرنا إليه من زوال الحساب أو كونه يسيراً, أو تلقي العفو والغفران, أو الشفاعة, أو إعطاء المزيد من الثواب أكثر من الإستحقاق, وغير ذلك من الأمور.

الفقرة (3)

في معنى الهلال من الناحية المعنوية
 
يمثل الهلال أو القمر ـ عملياً ـ المصدر الثاني أو الأضعف للضوء على سطح الأرض بعد الشمس. ويتصف بخصيصتين واضحتين، وإنما نشير إليهما تذكيراً:
الأولى: أنه يشرق في الليل حين الحاجة إلى الضوء بعد أن تكون الشمس قد غابت, والنهار قد زال.
الثانية: أنه يبدأ صغيراً ثمَّ يتكامل على مدى الليالي التالية، حتى يصبح بدراً، ثمَّ يبدأ بالتضاؤل من جديدٍ إلى درجة المحاق.
والإستهلال، كما هو معلوم، هو محاولة رؤية ذلك الهلال الضعيف في أوائل ساعات ولادته, بكلِّ ما أوتيت العين من طاقةٍ وقدرةٍ على الإبصار.
ولهذه الصفات، عددٌ من التأويلات المعنوية، نشير إلى واحدٍ منها, وهو إمكان أن يكون ذلك إشارةً إلى إيمان الفرد المؤمن, أو النفس الإيمانية الموجودة في باطنه،
بينما الشمس تمثل المصدر الخارجيَّ للإشعاع الإيمانيِّ للفرد, وهي الكتاب والسنة, أو قل هو: من جاءنا بالكتاب والسنة، وهو نبيُّ الإسلام  وآله الكرام, فهم الشمس الحقيقية التي تشعُّ بنور الحقيقة للعالم كله.
فبينما الشمس بهذا المعنى، يكون ردُّ فعلها الإيجابي في نفس الفرد هو القمر, ومن هنا قالوا: إنَّ القمر يأخذ نوره من الشمس.
والقمر يشرق في الليل عند حاجة الفرد إلى الضوء، وكذلك الحال في القمر الإيمانيِّ المعنوي، فإنَّ النفس بعد ممارستها لأمور الدنيا، ستكون في ظلامٍ وغفلة، ولا يكون هناك منفذٌ في رحمة الله سبحانه وتعالى غير وجود هذا النور الإيمانيِّ في قلب هذا الفرد. قال الله سبحانه: [إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ][[514]]. وقال عزَّ من قائل: [اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ][[515]].
كما أنَّ الإيمان في قلب الفرد، كالقمر، يبدأ في التسلسل المعنويِّ صغيراً [هلالاً]. ثمَّ كلما تقدم الفرد في عمله في الطاعة, أو في ثقافته الدينية ونحو ذلك، اتسع نور الإيمان في قلبه إلى حدٍّ يصبح بدراً متكاملاً، يملأ نوره النفس والقلب، يهديها إلى صراطٍ مستقيم.
والإستهلال هنا هو المحاولة الجادَّة لرؤية الدرجة الضعيفة من الإيمان في أوَّل وجوده، أو من اليقين في أوَّل حدوثه، توخياً من الفرد للعطاء الجديد من الله سبحانه وتعالى، مهما كان قليلاً، وهذا ما يحسُّ به وجداننا في  باطن النفس، وليس برؤية العين الإعتيادية بطبيعة الحال.
وكذلك يستمرُّ الفرد المؤمن يراقب نموَّ الهلال، والنور الإيمانيَّ في نفسه، وتحصل له البهجة بذلك، قال تعالى: [قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ][[516]].
والبدرالإيمانيُّ في داخل النفس، بعد حصوله وتكامله، لا يكون قابلاً للأفول والنقصان، بل هو بدرٌ مستمرٌّ وخالد, وليس كالقمر الإعتياديِّ يعود صغيراً في كلِّ شهر، لأنَّ القمر الإيمانيَّ إنما هو من درجات الجنة, و[أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ][[517]], وقال: [خَالِدِينَ فِيها اَبَداً][[518]]، وقال: [لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ][[519]].
إلا أننا مع ذلك لا نعدم الفهم الرمزيَّ للتضاؤل التدريجيِّ إلى حدٍّ يصل إلى المحاق, كالقمر الطبيعيّ.
وذلك: أنَّ درجات التكامل الإيمانيِّ لا متناهية, فإذا وصل الفرد إلى حصول البدر في نفسه، استحقَّ لا محالة الخطوة التي بعدها، وهي الإقتباس من الشمس مباشرةً، من المعين الحقيقيِّ للعطاء الإلهيّ.
وبمقدار ما تقدم الفرد في هذه السبيل، فإنَّ أهمية البدر السابق في نفسه تتضاءل تدريجاً، ويصبح ملتفتاً بكله إلى نور الشمس، ومعطياً له الأهمية الواقعية القصوى. وبذلك يتضاءل البدر إلى أن يزول، بمعنى زوال أهميته تماماً، بإشراق الشمس في نفس الفرد عوضاً عن البدر.
وبذلك يحصل المحاق، لأنَّ الشمس الحقيقية إذا أشرقت على القلب، لا يبقى للأنانية أيُّ وجود، بل تمحى وتمحق لا محالة. قال تعالى: [فَمَحَونَا آيةَ الَلّيلِ وَجَعَلنَا آيةَ النَهارِ مُبصِرةً][[520]]. ونستطيع أن نفهم من آية الليل: القمر، لا الليل نفسه، كما نستطيع أن نفهم من آية النهار: الشمس، لا النهار نفسه.
وقال تعالى:[وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ][[521]].
ومما له ربطٌ بهذا الصدد من الآيات قوله تعالى: [وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ. وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ][[522]].
ويستمرُّ السياق القرآنيُّ نفسه، إلى أن يقول جلَّ جلاله: [وَسِيقَ الَّذِينَ اَتَقُوا رَبهُّمْ إلى الجَنةِ زُمَراً حَتّى إذا جَاؤُها وَفُتِحَتْ أبوابُها وَقَال لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيكُم طِبتُمْ فَادْخُلُوهَا خالِدِينَ وَقَالُوا: الحَمدُ لله الذِي صَدَقَنَا وَعدَهُ وَأوَرثَنَا الأرض نَتَبَوَّأ مِنَ الجَنَةِ حَيثُ نَشَاءُ فَنِعمَ أجر العَامِلِينَ][[523]].

الفقرة (4)

في معنى شهر الله
 
يقتضي الحديث عن الصيام الحديث عن شهر رمضان، الذي هو شهر الصيام في الإسلام.
فإنَّ الصيام وإن كان ممكناً بل مستحباً سائر أيام السنة, عدا يومي عيد الفطر وعيد الأضحى, إلا أنَّ اختصاص شهر رمضان بالصيام ووجوبه فيه، يجعل بينهما خصوصيةً لا توجد خارج هذا الشهر المبارك.

وإذا تحدثنا عن شهر رمضان، وجدنا أوضح مزيةٍ له، هو كونه شهر الله سبحانه. فما معنى هذه النسبة إلى الله عزَّ وجلّ؟.
لا شكَّ أنَّ المخلوقات عموماً تختلف بالأهمية تجاه الخالق سبحانه, بمقدار ما اقتضت الحكمة من ذلك. والله سبحانه غنيٌّ عن العالمين, لا ينفعه قرب القريب ولا يضرُّه بعد البعيد. غير أنَّ ذلك كله في مصلحة المخلوقين, ينال كلُّ واحدٍ منها بمقدار استحقاقه.
وقد يكتسب ـ في هذا الصدد ـ المخلوق درجةً عاليةً من الأهمية والرفعة والقرب المعنويِّ إلى الله عزَّ وجلّ، بحيث يكون منسوباً إليه, ومضافاً إلى اسمه الكريم.
ولذلك أمثلةٌ عديدةٌ، نطقت بكثيرٍ منها الآيات الكريمة, كقوله تعالى: [وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ][[524]]. وقوله تعالى: [فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي][[525]]. وقوله تعالى: [مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ][[526]]. وقوله تعالى: [عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ][[527]]. وقوله عزَّ من قائل: [إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ][[528]]. وقال:[أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ][[529]]. وقال: [هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ][[50]]. إلى كثيرٍ من الآيات الأخرى.
فقد نسب في القرآن الكريم العديد من الأشياء إلى الله عزَّ وجلّ, ونسب بعضها في السنة الشريفة. ومن أمثلتها ما هو مشهورٌ بين الناس من ألقاب الأنبياء الستة الرئيسيين. فآدم صفوة الله, ونوحٌ نبيُّ الله, وإبراهيم خليل الله, وموسى كليم الله, وعيسى روح الله, ومحمدٌ حبيب الله. ويمكن أن يستفاد بعض هذا من القرآن الكريم أيضاً، كما لا يخفى على القارئ اللبيب.
فكذلك الحال في شهر رمضان المبارك الذي هو شهر الله, لأنه ذو مزيةٍ عاليةٍ جداً في الإسلام، بحيث نسب بهذه النسبة الشريفة المباركة.
دعنا نسمع الإطراء على هذا الشهر المبارك من أحد أدعية الصحيفة السجادية للإمام زين العابدين علي بن الحسين A, حين يخاطب شهر رمضان قائلاً:
السلام عليك ياشهر الله الأكبر ويا عيد أوليائه. السلام عليك يا أكرم مصحوبٍ من الأوقات, ويا خير شهر في الأيام والساعات. السلام عليك من شهرٍ قربت فيه الآمال, ونشرت فيه الأعمال. السلام عليك من قرينٍ جلَّ قدره موجوداً, وأفجع فقده مفقوداً. السلام عليك من أليفٍ آنس مقبلاً فسرّ، وأوحش منقضياً فمضَّ. السلام عليك من مجاورٍ رقت فيه القلوب, وقلت فيه الذنوب. السلام عليك من ناصرٍ أعان على الشيطان, وصاحبٍ سهَّل سبل الإحسان. السلام عليك ما أكثر عتقاء الله فيك، وما أسعد من رعى حرمتك بك. السلام عليك ما كان أمحاك للذنوب, وأسترك لأنواع العيوب. السلام عليك ما كان أطولك على المجرمين, وأهيبك في صدور المؤمنين. السلام عليك من شهرٍ لا تنافسه الأيام. السلام عليك من شهرٍ هو من كلِّ أمرٍ سلام. السلام عليك غيرَ كريه المصاحبة ولا ذميم الملابسة. السلام عليك كما وفدت علينا بالبركات وغسلت عَنّاَ دنس الخطيئات… إلى أن يقول: السلام عليك وعلى ليلة القدر التي هي خيرٌ من ألف شهر[[531]]. إلى آخر كلامه زاد الله عليه من تحيته وسلامه.
ودعنا أيضاً نسمع جانباً من خطبة رسول الله  حين أقبل شهر رمضان: أيها الناس إنه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة. شهرٌ هو عند الله أفضل الشهور, وأيامه أفضل الأيام, ولياليه أفضل الليالي, وساعاته أفضل الساعات. وهو شهرٌ دعيتم فيه إلى ضيافة الله, وجعلتم فيه من أهل كرامة الله. أنفاسكم فيه تسبيحٌ, ونومكم فيه عبادةٌ, وعملكم فيه مقبولٌ, ودعاؤكم فيه مستجاب.
فسلوا الله ربكم بنياتٍ صادقة, وقلوبٍ طاهرة, أن يوفقكم لصيامه وقيامه وتلاوة كتابه. فإنَّ الشقيَّ من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم[[532]].
ومنها: أيها الناس, إنَّ أبواب الجنان في هذا الشهر مفتحة، فسلو ربكم أن لا يغلقها عليكم. وأبواب النيران مغلقةٌ فسلوا ربكم أن لا يفتحها عليكم. والشياطين مغلولةٌ، فسلوا ربكم أن لا يسلطها عليكم.. إلخ[[533]].
 
ويبقى الكلام حول ذلك عن أمرين:
الأمر الأول: إنه بم اكتسب شهر رمضان هذه الأهمية، وما فرقه عن باقي الأشهر والأزمان؟.
 
ويمكن الجواب على ذلك على عدة مستويات:
المستوى الأول: إنه لا شكَّ في أفضلية بعض الأوقات على بعضٍ لدى المسلمين جميعاً كليلة القدر, بل بنظر الأديان كلها، حسب مناسباتهم الدينية.
فما قالوه بالنسبة إلى سائر المناسبات، نقوله بالنسبة إلى شهر رمضان. فإذا كان السائل في هذا المستوى واحداً منهم، كفى النقض عليه بمناسباته نفسه.
المستوى الثاني: إنَّ الأهمية ليست للزمان، بل للمواهب الإلهية التي تحصل فيه كالرحمة والمغفرة والبركة وغلِّ الشياطين وفتح أبواب الجنان ونحو ذلك.
المستوى الثالث: قد علم الله سبحانه بحصول الذنوب للبشر، وأحبَّ منهم حصول الإنابة والتوبة والإستغفار. فمن هذه الناحية فتح لهم أبواباً عديدةً وفرصاً كثيرةً لإنجاز ذلك، بغضِّ النظر عن إمكان ذلك باستمرار.
فقد أعدَّ عدداً من الأماكن, وعدداً من الأزمان, وعدداً من الحالات, لأجل ذلك، فالأماكن كالمساجد والعتبات المقدسة، والأزمان كشهر رمضان وليلة القدر وعيدي الأضحى والفطر، والحالات كالبدء بتمجيد الله سبحانه والصلاة على النبيِّ وآله وغير ذلك.
وحيث لا يكون هنالك تميزٌ عقليٌّ واقعيٌّ بين الأماكن والأزمان. إذن، فذلك يعود مباشرةً إلى الإرادة الإلهية نفسها، فإنها اختارت أن يكون العطاء في مثل هذه المناسبات ـ لو صحَِّ التعبير ـ وكذلك مقدمات العطاء من تمجيدٍ ودعاءٍ واستغفار.
وإذا وصلت الدرجة إلى الإرادة والحكمة الإلهية نفسها، فقد انسدَّ السؤال، لأننا لا نعلم بالواقعيات التي تأخذها الحكمة الإلهية بنظر الإعتبار.
بل يكفي ـ منطقياً ـ أن يكون ذلك انتقاءاً عشوائياً، بين الأماكن والأزمان لمجرد إعطاء فرصةٍ محددةٍ لتوفير العطاء والرحمة التي يريدها الله سبحانه لخلقه.
الأمر الثاني: إنَّ الشهر عبارةٌ عن زمان. والزمان لا يتصف بوجودٍ ثابت، بل هو متصرمٌ ومتصرفٌ باستمرار. فليس له حديةٌ وشخصيةٌ لكي يتصف بالأهمية أو لا يتصف، وليس للفرد منه إلا لحظة الحاضر، وهي من الضآلة بحيث لا قيمة لها تجاه الماضي والمستقبل.
 ويمكن الجواب على ذلك على عدة مستويات:
المستوى الأول: إنَّ الزمان وإن كان متصرماً في الحقيقة، إلا أنه لا شكَّ أنَّ له تحديداً وتشخيصاً عرفياً واضحاً، ولذا قسموا الزمن إلى أيامٍ وأشهرٍ وسنين, وغيرها. الأمر الذي يبرهن على أنَّ العرف يرى للأحداث الزمانية نحواً من الوجود والتحديد.
فإذا علمنا أنَّ الله سبحانه تكلم مع الناس بلغتهم العرفية, لأنها هي اللغة الرئيسية التي يفهمونها ويهضمونها. إذن، فبمستطاع الشريعة أن تذكر أيَّ زمانٍ معينٍ عرفاً، بمقدار تحديده العرفيّ، وتجعله موضوعاً لبعض الأحكام، كجعل شهر رمضان زماناً لوجوب الصوم أو ليلة القدر موضوعاً لاستحباب الإحياء، وهو السهر إلى الفجر. وهكذا.
المستوى الثاني: إننا وإن كنا نرى الزمان متصرماً, إلا أنَّ هذه النظرة ناشئةٌ حتماً من كوننا داخلين تحت حكم هذا الزمان ومشمولين له. وأما إذا كنا صاعدين فوق مرتبة الزمان، فسوف نجد ـ كما قال الفلاسفة ـ: أنَّ هناك وحدةً حقيقيةً ومتكاملةً بين الماضي والحاضر والمستقبل، وأنَّ الماضي ليس مجهولاً لزواله، وأنَّ المستقبل ليس مجهولاً لعدم وصوله, بل كلُّ الأزمنة موجودةٌ بشكلٍ مشتركٍ ومجتمعٌ في لوح الأبدية والأزلية.
وبهذا النظر يكون لأيَّة قطعةٍ من الزمن شكلٌ من أشكال الثبات والتحديد، لأننا عندئذٍ سوف لن نرى الزمن متصرماً، كما نراه الآن.
فإذا كانت أيَّة قطعةٍ زمنيةٍ ثابتةٍ هناك، أمكن جعلها موضوعاً لبعض الأحكام الشرعية، ولا شكَّ أنَّ الشريعة نزلت من هناك، من الأعلى، ذلك العالم الذي يخلو بطبعه من الأزمنة الثلاثة، فناسب أن يكون فيها هذا النحو من الأحكام.
المستوى الثالث: إنَّ المأمور به في الشريعة خلال فترات الزمان، قصرت أم طالت، إنما هي أعمالٌ محددة، والأعمال البشرية كلها متصرمةٌ كالزمان، وغير قارَّةٍ أو ثابتةٍ بطبعها, بل هي زمانيةٌ بالذات، فهي تتصرم بتصرم الزمان.
إذن، فمن المناسب أن يكون المأمور به فعلاً زمانياً في حقبةٍ زمانية, كالصوم في شهر رمضان, أو الإحياء في السهر في ليلة القدر, أو الصلاة عند الزوال أو عند الفجر، وهكذا.
نعم، لو كان التكليف الشرعيُّ متعلقاً بأمر قارَّ[[534]]، في ظرفٍ منصرم[[535]]. أو بشيءٍ متصرمٍ في ظرفٍ قارّ، كان ذلك محالاً. إلا أنَّ الأمر ليس كذلك، بل التكليف متعلقٌ بأمرٍ متصرمٍ في ظرفٍ متصرم، مناسبٍ له.


الفقرة (5)

 في موارد جواز الإفطار
 
وهي، كما هو معروفٌ فقهياً، المرض والسفر. كما قال الله سبحانه: [فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ][[536]] يعني يجب عليه أن يفطر من يومه ويقضيه في أيامٍ أخر.
وقد عرفنا خلال الفقرات السابقة من الحديث المعطى المعنويَّ للصوم وللإفطار. وكذلك عرفنا المعطى المعنويَّ للسفر عندما تحدثنا عن صلاة القصر. وبذلك يمكن أن يتحصل للقارئ اللبيب معنى الإفطار في السفر.
وفي الواقع، فإنَّ هناك عدة وجوهٍ معنويةٍ يمكن الرمز إليها بالإفطار في السفر، نقتصر على ذكر اثنين منها:
الوجه الأول: ما تحصل مما سبق, حيث قلنا: إنَّ الصوم هو الإبتعاد عن ملاذِّ الدنيا، والإفطار هو الأخذ منها أو بها. والسفر هو الإبتعاد عن الأهل إلى دار الغربة.
فمن هنا فقد يصبح من الراجح الإفطار في دار الغربة، ولو موقتاً لعدة أسباب:
منها: كتم الصوم عن غير الأهل، بحيث يحسب الآخرون أنَّ هذا الفرد ليس بصائم، وأنه غير ملتزمٍ للأمور المعنوية.
ومنها: أنَّ ممارسة الغربة قد تحدث ضعفاً في النفس عن تحمل الصوم، فيكون من الأرجح إعطاؤه الراحة بعض الوقت، ريثما تعود مجدداً إليه.
الوجه الثاني: إنَّ السفر كما يمكن أن يسبب الإبتعاد عن الأهل والوطن، كذلك يمكنه أن يسبب الإقتراب منهم, فهو سفرٌ إليهم بدلاً عن أن يكون سفراً عنهم.
غير أنَّ حكم الصوم والإفطار هنا، يختلف بعض الشيء عن المعنى السابق. ومن ثمَّ عن الحكم الفقهيِّ الإعتياديّ، إذ هنا ينبغي ممارسة الصوم عند السفر، والإفطار عند الوصول، فهو يبقى صائماً في الطريق، ولكنه يفطر عند الوصول إلى الأهل والوطن، لأنَّ الصوم كان بمنزلة أرجل الدابَّة المساعدة له على السفر،
وعلى الإقتراب التدريجيِّ من الوطن، فإذا ترك الصوم، لم يمكن السفر، كما لا يمكن السير بدون أرجل. وأما مع الوصول إلى الوطن، فلا حاجة له إلى السفر، كما يقول الشاعر[[537]]:
وألقت عصاها واستقرَّ بها النوى       كما قرَّ عيناً بالإيابِ المسافرُ
فتنتفي الحاجة إلى السبب الموصل، وإلى الأرجل المساعدة إلى الوصول، ومن هنا يكون الإفطار من أهله في محلِّه.
ومن هنا نعرف أنَّ التشبيه المعنويَّ للصوم الظاهريِّ الشرعيِّ إنما هو بالوجه الأول، دون الوجه الثاني.
فهذا الحديث عن الإفطار في السفر.
أما الإفطار في المرض, فهو يتوقف على فهم المعطى المعنويِّ للمرض، ويمكن ذلك على عدة معانٍ منها:
أولاً: ضعف التحمل وقلة الصبر على مجاهدة النفس والصوم عن اللذائذ الدنيوية, وهو يحدث جزماً في العديد من مراحل التكامل, وخاصةً في الإبتداء. ومع حصول الضعف ينبغي الإفطار الموقت، ريثما تعود القوة وتتصاعد الهمة.
ثانياً: الغفلة. فإنها من الأمراض الرئيسية في النفوس الواطئة. وهي كما قد تتعلق بكلِّ الكيان المعنويِّ للإنسان، كذلك قد تتعلق ببعضه، كما قد تتعلق ببعض ما ينبغي للإنسان أن يعمله أو أن يستهدفه.
والغفلة موازيةٌ دائماً مع الإفطار، لأنَّ الصوم حالةٌ متعمدةٌ ناتجةٌ عن علمٍ والتفاتٍ إلى الحاجة إليه. فإذا حصلت الغفلة، انتفى العلم والإلتفات بطبيعة الحال، فانتفى الصوم بدوره، فحصل الإفطار.
ثالثاً: الجهل. وهو مقترنٌ غالباً مع الغفلة التي تحدثنا عنها. غير أنَّ الفرد أحياناً يكون ملتفتاً ولكنه جاهل, كما لو كان ملتفتاً للمرض جاهلاً بالدواء, أو ملتفتاً إلى السفر جاهلاً بواسطة النقل, وهكذا.
وهذا الجهل يعني الجهل بالحاجة إلى الصوم، إذن, فسوف لن يمارسه الفرد بطبيعة الحال عادةً, وإنما يمارس الإفطار.
 

الفقرة (6)

في معنى القضاء
 
قال الله تعالى: [فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ][[538]]. وهو إشارةٌ إلى القضاء بعد أن يكون الصوم في وقته الأصليِّ وأيامه الحقيقية لم ينجز، وإنما حصل الإفطار فيها. إذن، فينبغي أو يجب تكريس أوقاتٍ أخرى أو أيامٍ أخرى لممارسة الصوم من جديدٍ في غير موعده الأصليّ، وهو معنى القضاء.
غير أننا يمكن أن نفهم لقضاء الصوم عدة معانٍ، على اعتبارٍ يعود إلى معنى القضاء نفسه:
أولاً: أن يكون معنى القضاء إصدار الأمر والتشريع، كما في قوله تعالى: [إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً][[539]]. أو قوله سبحانه: [إِنَّ رَبَكَ يَقَضِي بَينَهُمْ بحُكمِه][[540]]. فيكون معنى قضاء الصوم إيجابه والأمر به.
ثانياً: أن يكون القضاء بمعنى الأداء، بالإصطلاح الفقهيّ، وهو الإيجاد والإنجاز, كقوله تعالى: [فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ][[541]]، يعني إذا أنجزت وتمت، فيكون معنى قضاء الصوم إنجازه وإتمامه، سواءٌ كان في موعده المعين أو في أيامٍ أخرى.
ثالثاً: أن يكون القضاء بالمعنى المصطلح فقهياً، وهو ممارسته خارج وقته, وهذا يعني أكثر من معنى. فإنَّ أوقات أو مناسبات الإفطار التي ذكرناها في الفقرة السابقة، إنما هي وقتٌ حقيقيٌّ للصوم، غير أنَّ الفرد باعتبار تلك الأسباب سيمارس الإفطار، ومعه فسوف يكون مسؤولاً عن العودة إلى الصوم بعد زوال ذلك السبب. ونوكل تطبيق ذلك إلى فطنة القارئ الكريم.
ولكن قد يخطر في البال: أنَّ كل الأزمان قابلةٌ لأداء الصوم، كأيام السنة القابلة لممارسة الصوم المستحبِّ فيها، فإذا أفطر الفرد في بعض الأيام وصام في بعضها، لا يكون اليوم الذي صامه بمنزلة القضاء عن اليوم الذي أفطره، بل يكون أداءاً لتكليفه الحاليِّ الأدائيِّ بطبيعة الحال.
ومن هنا لا يكون هذا المعنى من الصوم قابلاً للقضاء، بل هو أداءٌ باستمرار. إلا أن يراد به معانٍ أدق نسبياً، كمضاعفة الجهد بعد ارتفاع المانع فيكون المقدار الزائد من الجهد بمنزلة القضاء لما فات، حتى لا يكون فوته سبباً لبطء السير أو بعد الهدف.
كما أنَّ هذا الجهد الزائد، قد يعني إعطاء الكفارة عن الصوم الفائت فيما سبق، الذي قد يكون فات عمداً، ليكون هذا سبباً للعفو عن مثل هذا الزلل والهفوة، وهو معنى الكفارة, بمعنى تغطية الذنب والتجاوز عنه، حتى كأنه لم يكن.


الفقرة (7)

 في ما يكره للصائم
 
قال الفقهاء: يكره للصائم ملامسته للنساء وتقبيلهنَّ وملاعبتهنَّ، إذا كان واثقاً من نفسه بعدم الإنزال. وإن قصد الإنزال كان من قصد المفطر.
ويكره له الإكتحال بما يصل طعمه أو رائحته إلى الحلق كالصبر والمسك. وكذلك يكره له دخول الحمام إذا خشي الضعف، وإخراج الدم المضعف، والسعوط مع عدم العلم بوصوله إلى الحلق، وإلا حرم.
ويكره شمُّ كلِّ نبتٍ طيب الرائحة, بل مطلق الرائحة الطيبة. ويستحبُّ للصائم الصبر على خلوف فمه، فلا يتمضمض إلا للوضوء أو الغسل، فقد ورد: [إنَّ خلوف فم الصائم عطرٌ عند الله][[542]].
ويكره بَلُّ الثوب على الجسد وجلوس المرأة في الماء، والحقنة بالجامد، وقلع الضرس، بل مطلق إدماء الفم, والسواك بالعود الرطب, وإنشاد الشعر، إلا في مراثي الأئمة F ومدائحهم، بل مطلق المصالح الدينية[[543]].
وقد ورد: [نوم الصائم عبادةٌ][[544]]. وهذا يعني كفاية التعويض بالثواب عما يفوت خلال النوم من المستحبات، عند الحاجة إلى النوم. ولا يعني ـ بأيِّ حال ـ أن يتعمد الصائم النوم استحباباً، ولو لزم من ذلك تفويت المستحبات الأخرى الأهمِّ منه، كقراءة القرآن الكريم أو الأدعية، أو السير في قضاء حاجة المؤمن، أو غيرها من المستحبات.
وفي الخبر: [إذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم عن الكذب، وغضوا أبصاركم ولا تنازعوا ولا تحاسدوا ولا تغتابوا ولا تماروا ولا تكذبوا ولا تباشروا ولا تخالفوا ولا تغضبوا ولا تسابّوا ولا تشاتموا ولا تنابزوا ولا تباذّوا ولا تظلموا، ولا تسافهوا ولا تزاجروا ولا تغفلوا عن ذكر الله وعن الصلاة، والزموا الصمت والسكوت والحلم والصبر والصدق ومجانبة أهل الشر, واجتنبوا قول الزور والكذب والمراء والخصومة وظنَّ السوء والغيبة والنميمة.
وكونوا مشرفين على الآخرة، منتظرين لأيامكم, منتظرين لما وعدكم الله، متزودين للقاء الله. وعليكم بالسكينة والوقار، والخشوع والخضوع، وذلِّ العبد الخائف من مولاه، راجين خائفين راغبين راهبين. قد طهرتم القلوب من العيوب، وتقدست سرائركم من الخبث، ونظفتم الجسم من القاذورات.
تبرأُ إلى الله مِنْ عداه، وواليت الله في صومك بالصمت من جميع الجهات مما قد نهاك الله عنه في السرِّ والعلانية، وخشيت الله حقَّ خشيته في السرِّ والعلانية، ووهبت نفسك لله في أيام صومك، وفرغت قلبك له فيما أمرك ودعاك إليه.
فإذا فعلت ذلك كلَّه، فأنت صائمٌ بحقيقة صومه صانعٌ لما أمرك. وكلما نقصت منها شيئاً مما بينتُ لك فقد نقص من صومك بمقدار ذلك.
إلى أن قال: إنَّ الصوم ليس من الطعام والشراب. إنما جعل الله ذلك حجاباً مما سواها من الفواحش من الفعل والقول الذي يفطر الصوم. ما أقلَّ الصوّام وأكثر الجوّاع][[545]].

الهوامش

الفهرس || السابق || التالي

السيرة الذاتية || الصور || المؤلفات || ما كتب حوله